“طريق سِيدي”.. إلياذة فلسطينيَّة
فيلم “طريق سِيْدِي” من أهمّ وأقيم الأعمال التي قد يراها أيّ عربيّ في هذه اللحظة الحضاريَّة التي نعيشها ذلك التقدير ليس عبثًا أو مُجاملةً بل إنَّه ما قصد إليه مخرج الفيلم “نزار حسن” وكلُّ صانعيه بدقَّة، وما عملوا من أجله. الفيلم الذي يمتدُّ لثلاث ساعات ونصف الساعة هو “إلياذة” جديدة تكتبها أيادٍ عربيَّة؛ لا عن حروب اليونان، بل عن الواقع العربيّ المرير الذي هو همُّنا جميعًا. “إلياذة” سُطِّرتْ بجهود مُضنيةٍ يراها كلُّ مُشاهد ويحسُّ ما فيها من أصالة وإخلاص.
سنرى في الفيلم رجلاً عربيًّا من “فلسطين” أراد أنْ يُسجَّل ما حدث في نكبة احتلال الكيان الصهيونيّ لأراضٍ عربيَّة شاسعة فلسطينيَّة وغير فلسطينيَّة. سنرى رجلاً قرَّر أنْ يمسك عصا شجرة ويُهذِّبها ويسير بها على طريق أجدادنا ليرى ويُعاين على أرض الواقع كلَّ ما حدث عن كَثَب وبدقَّة شديدة. يمشي على قدميه مسافات شاسعة ليعيد تكوين المأساة التي أسَّستْ للواقع الذي نعيش فيه جميعًا. يمشي ليطأ الأرض الطاهرة ويترك آثارًا لأقدام الوجود التي تقاوم واقع المَحو الصهيونيّ.
فيلم “طريق سيدي” فيلم وثائقيّ يعتمد على شريط صوتيّ لوالد المُخرج “نزار حسن” وهو يحاور جدَّه -أو سِيده- “سعود عبد القادر” عن حياته وتجارته وتجنيده وعن الأراضي العربيَّة حينما كانت أراضي حُرَّة. وتكتسب هذه الرحلة التي في الفيلم قيمتها من خصوصيَّة الزمن الذي اتخذته رحلة الجدّ على طول فلسطين. فـ”سعود عبد القادر” وُلِد عام 1889؛ أيْ في أوائل جهود الاحتلال العالميّ في تأسيس دولة للصهيونيَّة على أراضي فلسطين. اعتمادًا على ذلك قرَّر “نزار” أنْ يمشي على خُطا الأجداد ليُعرِّف الأجيال الجديدة ويُذكِّر الأجيال القائمة بما كان وبما حلَّ، ويستحثُّهم لما سيحدث.
ولأنَّ الفيلم عمل طويل المُدَّة، وعميق الدلالات، وبه نبضات فلسفيَّة تستحق البلورة؛ فلنبدأ بالفنيَّات ودلالات الفيلم. ثمَّ نخلص معًا للنقطة الفلسفيَّة في الصراع العربيّ الصهيونيّ، ثم نتوقف عند أهمَّ ما عرضه الفيلم -من وجهة نظري- وهو “كيف احتُلَّت فلسطين بدقَّة؟”.
هذا الوثائقيّ قام على صُنعه في أماكن تصويره المخرج ومُسجِّل الصوت، وفريق الكاميرا -الذي لا يظهر-، وبعض مُساعدين منهم باحث تاريخيّ “أحمد عمارة”. وقد اعتمد بناء الفيلم على وجود الراوي الأوحد -وهو مُخرج الفيلم- أو “الراوي العليم” الذي يقوم بتعريف المُشاهِد بكلِّ سياقات الأحداث، وكلِّ مواقعها، وهو الذي يُرسي أسس الرواية التاريخيَّة. وقد صرَّح الراوي أنَّ ما يقوله لمْ يأتِ وليد اللحظة، بل هو نتاج تفكير وبحث بالغَيْ الاتساع. للدرجة التي أنشأ فيها للفيلم موقعًا إلكترونيًّا بعنوانه (ولمْ أتمكَّنْ من الدخول إليه رغم محاولات عديدة).
وبجوار الراوي الأوحد اعتمد بناء الفيلم على محاورات مع متخصص في التاريخ، وعدد كبير من شهود العيان الحقيقيِّين الذين عاشوا من فترة ما قبل النكسة إلى يومنا هذا، ومع شهود عيان شباب وُلدوا والاحتلال قائم على الأراضي. ولعلَّ وجود هؤلاء الشهود قد عزَّز من مدى توثيق الفيلم، ومن صحَّة روايته. حتى إنَّنا نرى المخرج يقف ليسأل كلَّ مَنْ يستطيع أنْ يدلَّه على معلومة أو حدث أو أثر للأحداث عربيًّا أو صهيونيًّا، حتى إنَّه يسأل أناسًا من غير سابق معرفة ولا اتفاق وتصدر بعض اللمحات الدالَّة من هذه الحوارات العابرة.
وعن الرواية لما حدث أو وجهة التناول يُذكر أنَّ الفيلم يروي الأحداث من وجهة نظر عربيَّة فلسطينيَّة خالصة؛ أيْ أنَّ معالجة الفيلم مُوحَّدة الاتجاه لا ثنائيَّة. حتى فعل الرواية لمْ يأتِ على ذكر الطرف الآخر إلا ليعزِّز وجهة نظره. لكنْ لا يعني هذا إطلاقًا قدحًا في معالجة الفيلم. لأنَّ هذا المخرج العربيّ الذي كان يُشيح نظره من أمام أعلام الكيان الصهيونيّ المُرفرفة اعتمد في بناء فيلمه على محاورات مع الصهاينة كثيرة. ويُذكر له أمانته في نقلها، بل إنَّ أحد الصهاينة قد نصّ أنَّ نزار سيحذف هذه المحاورة من الشريط، وها قد سمعناها جميعًا.
بدتْ المعالجة لموضوع الفيلم تاريخيَّة من جانب، وواقعيَّة من أخرى. فقد اعتمد الفيلم على السرد التاريخيّ غير المُمنهَج لأحداث النكبة ومشاهدات مُصاحبة لها. واعتمد الواقعيَّة في نظرة الصانع لعمله؛ حيث أهمل كلَّ “الصناعة الإعلاميَّة” ( Propaganda ) التي قد تعزِّز من تأثير ما على الشاشة في نفوس المُشاهدين. وكأنَّه اكتفى بوقع الأحداث الحقيقيَّة لإيقاع ما يريده في نفوس المُتلقين.
وفي بناء الصورة الفيلميَّة اهتمَّ فيه مُخرجه بتصوير كلّ شيء حوله من أماكن وقلاع ولافتات تنبيهيَّة، وأناس يصور معهم في الطريق. لكنَّه كان أكثر اهتمامًا بالأماكن وردّ فعل الوجوه على الكلمات التي تُقال؛ لذلك نجد الصورة على الوجوه أو الطُرُق عندما يتحدَّث الأشخاص. وقد استخدم لغرضه أحجام الصورة الواسعة، وبالغة الاتساع، والحجم البانوراميّ (الاستعراضيّ) ليعطينا أكبر فرصة معاينة للواقع بكلّ دقة وأمانة.
وهناك ملمح فنيّ جدير بالذكر هو حرص المخرج على إظهار مجهودات القائمين على العمل ومدى المشقَّة البالغة التي تجشَّمُوها للوصول إلى المُنتَج النهائيّ. وكذلك عرض أحاسيس الرحلة على وجوه فريق العمل، ونقل لقطات نادرة فكاهيَّة بين أفراد الرحلة.
ولعلَّ من أذكى ما صنعه المُخرج هو خلوّ الشريط الفيلميّ من الموسيقى على طول هذه المدة الفيلميَّة. لقد قرَّر صانع الفيلم استثناء الأداة البارعة في التأثير، بل التي قد تبدو الأشد تفوُّقًا في أيّ شريط فيلميّ. وإنْ سألنا لماذا هذا القرار؟ سيكون أمامنا اختيار فنيّ اكتفى بالواقع عن الصورة المُهوَّلة من الواقع، ورأى أنَّ لسان الحال أصدق تعبيرًا من أيّ استقدام لدعم خارجيّ. كما أنَّه -وأيضًا هو ملمح ذكيّ- عند إخراجه الموسيقى من اللعبة السينمائيَّة أدخل بديلاً وهو الشريط الصوتيّ الواقعيّ للفيلم.
يمتاز الفيلم بشريط صوتيّ يصوِّر تصويرًا دقيقًا كلَّ ما وقع على طريق سيدي. الصوت أحد نجاحات نزار الذي أصرَّ على أنْ يُسمعنا فلسطين وأرضها، قبل أن يُرينا فلسطين وأرضها. ويحتاج المُشاهد إلى بعض التدبُّر ليعرف كمْ كانت أصوات الأرجُل على الطريق، واحتكاك الزروع والأشجار بالأناس، وأصوات البحر، وغيرها الكثير مصدر ثقل لهذا العمل الفنيّ. وبذكر شريط الصوت فكلّ أصوات الحوار في الفيلم تأتينا باللهجة الفلسطينيَّة سهلة مفهومة، إلا صوت نزار وهو يقرأ فأتانا بفصحى الكتابة. وكنت أودّ أنْ يُكتب على الشاشة حوار الجدّ بالفصحى فأمام فهمه تقف بعض العقبات.
الفيلم يعتمد على أساسَيْن في عمله: أولهما هو أنَّه لا يُفرِّق بين أراضي العرب، فيما أصبحتْ تسمى لبنان وسوريا ومصر وفلسطين والأردن، بل كلَّها أراضي سيده التي كان حُرًّا فيها. وثانيهما هو التفرقة الحاسمة بين اليهود كأشخاص يعيشون بيننا، والصهاينة المُحتلِّين.
الفيلم يمثِّل قيمة توثيقيَّة، فقد أسَّس كلَّ بُنيانه على التوثيق المُباشر والمحض لما يعرضه. ولمْ يذكر أشياء أو يسرد تواريخ مجرد سرد؛ بل إنَّه وقف عليها في محلَّاتها مكانًا مكانًا، وقلعةً قلعةً، ومدينةً مدينةً. ولعلَّ هذا من أكبر درجات “التوثيقيَّة” الفيلميَّة التي اتخذها الفيلم منهجًا. وقد ابتعد تمامًا عن القِيم الدراميَّة التي قد يلجأ إليها البعض -وهو خيار فنيّ أيضًا- في تصوير مأساة فلسطين والعرب. وهذا المنهج وحده قادر على تبيين أهميَّة الفيلم وقيمته في التاريخ العربيّ الفيلميّ الحديث؛ خاصَّة إذا عرفنا أنَّه لمْ يزُرْ متحفًا أو مقاهي قديمة، بل ترحَّل رحلة بعض أجزائها خطرة للغاية، ومحفوفة بالصعوبات من كلّ جانب.
الفيلم مثال للتجربة الفنيَّة الخالصة؛ التي فيها يستطيع الفنان نقل تجربة خاصَّة به إلى همٍّ عامٍّ وشامل، يحسُّ به كلّ عربيّ، ويتلمس فيه الطريق، ويُشارك فيه المشاعر، ويُداول معه الأفكار. ومن دلالات هذا الفيلم أنَّنا بإمكاننا أنْ نصنع أفلامًا رفيعة المستوى؛ متَّى قرَّرنا. أفلامًا تتعمق في مشكلاتنا لا أفلامًا تغيب عقولنا بقيم مختلطة مُبتورة تهريجيَّة.
إنَّ هذا الفيلم يوقف المُشاهدين العرب عن حدود مسئولياتهم، بل إنَّه -وغيره من الأفلام الجادة التي تستحق الاحترام- تطرح وبقوَّة قضيَّة “مسئوليَّة المُشاهدة عن تطور السينما العربيَّة، بل الفنّ العربيّ بل أصنافه”. حيث لا يقع اللوم والعبء فقط على “العمل الفنيّ” في عمليَّة صناعة الوعي، بل على الشطر الآخر الذي هو “المُشاهدة والتلقِّي”. وهذه مسئوليَّة مجتمع الوعي العربيّ كلّه؛ فمن واجب هذه الأعمال علينا الاهتمام بها، والتشجيع على مشاهدتها، وتناولها بالتحليل والنقاش.
والنقطة الفلسفيَّة التي يمثلها الفيلم يمكن توضيحها بتوضيح مصطلح في التأسيس الفلسفيّ والمَنطقيّ يُسمَّى “التشيُّؤ” أيْ كون الشيء شيئًا، أيْ الوجود أو لحظة الانبثاق والتحرُّر بانفصال الكيان ليصير كيانًا. وهي أوَّل درجات سلَّم الوجود. هذا التشيُّؤ أو الإيجاد في الإنسان يُسمَّى “تشخُّصًا” من الشخصيَّة. وهذا الوجود دافع فطريّ تسعى له النفس البشريَّة؛ بل لعلَّ كلَّ ما يفعله الإنسان في حياته هو لهذا الغرض “الإيجاد” ويُسمَّى في أبسط التبسيط إظهار النفس، أو الاعتلاء. من غيره تكون النفس ضامرةً خاملةً تشعر بالعدم وهي موجودة. وهذا ما يُمارَسُ على فلسطين من الصهاينة. إنَّهم يمارسون فعل “المَحو” ليمحوا بها الوجود العربيّ من على الأرض أصلاً وفرعًا.
فهذا الصراع العربيّ الصهيونيّ -إذا فلسفناه- لوضعناه في جدليَّة الوجود والعدم، والانسحاق والتحقُّق، والإثبات والمَحو. الصهاينة أعملوا كلَّ ما لديهم منذ ما يزيد منذ قرن وربع القرن لمَحو “مسألة الوجود” العربيّ من الأرض تمامًا. من خلال خطة دعامتها الأساس: تدمير الواقع العربيّ الذي كان قائمًا ومحوه تمامًا، وتأكيد محوه من خلال تأسيس واقع جديد مُغاير تمامًا لكلّ الذي كان قائمًا.
وفي الفيلم محاولة لأقلّ درجات الوجود وهو محاولة استكشاف الوطن الذي كان؛ ويا لها من قسوة مريرة! .. ولننظر للمخرج وهو يقول مُحاولاً استحضار لحظة الوجود: “جدّي كان هُنا” ويكررها مرَّات وكأنَّه في الحقّ يقول: “أنا مازلتُ حيًّا، نحن ما زلنا أحياءً”.
وإذا أتينا لأهمّ ما ركَّز عليه الفيلم وهو الكيفيَّات التي احتلَّت بها الصهيونيَّة فلسطين، أو كيف تمارس الصهيونيَّة أفعال المحو والعدم ضدّ الإثبات الفلسطينيّ؛ فلا بُدَّ أنْ نوضِّح أنَّ الفيلم قد استهدف إيضاح بُطلان الشائعة التي تقول: إنَّ الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم. وسأحاول هنا توضيح الطرق المتعددة للاحتلال باختصار بالغ.
يبدأ الأمر في أواخر القرن 19 مع استدعاء الأصل التوراتيّ، وتنشيط المعتقد البروتستانتيّ وكلاهما يسعى سعيًا واضحًا لإعادة اليهود إلى فلسطين وبناء هيكل سليمان على أنقاض “المسجد الأقصى الشريف”. ليتنزَّل المسيح المنتظر من اليهود -لأنَّهم لا يعترفون بالنبيّ “عيسى”-، ويأتي المجيء الثاني للمسيح الذي ينتظره المسيحيُّون الموجودون الآن. وبغضّ النظر عن أنَّ هذا الفعل ليس محلّ اتفاق بين أهل الديانتَيْن، أو أنَّه استغلال للدين أو غيره؛ فللأسف هذه هي الحقيقة الدينيَّة التي يعتقدها أتباع الديانتَيْن. وقد نصّ الفيلم على ذلك.
ثمَّ إنشاء جمعيات تجسسيَّة لمسح الأرض الفلسطينيَّة من بريطانيا بحجَّة الاهتمام بأرض الديانة المسيحيَّة الأصيلة -مثل صندوق استكشاف فلسطين 1865-. وبدء ترحيل المسيحيين الألمان “الهيكليين” أو “الأشكيناز” وإنشاء إقطاعات بسيطة لأناس مدنيين، وبناء كنائس لهم. ويدخل “هرتزل” ليؤسس الوجود الفعليّ للصهيونيَّة في كتاب صغير يُسمَّى “الدولة اليهوديَّة” -وهو كتاب حماسيّ يحمل أصول المشروع- ويطلب من السلطان العُثمانيّ إعطاء فلسطين لليهود ويرفض السلطان. مع توالي هجرات مدنيَّة لأناس يهود مُتحمِّسين للفكرة أنشأوا مستعمرات 1882.
والصهيونيَّة مصطلح جاء من “صهيون” وهو تلّ من تلال فلسطين، وهي حركة دينيَّة سياسيَّة استعماريَّة تسعى لإعادة اليهود على أرض الوعد الإلهيّ، ويشترك فيها اليهوديّ والمسيحيّ -ليس كلّ اليهود صهاينة ولا كل المسيحيين أيضًا، بل غالب اليهود وقليل من المسيحيين-.
كلُّ هذا قد سبقه وواكبه حملات دعائيَّة عظمى تؤسس وعيًا جديدًا؛ من كتب ومنشورات وصُحف. كلُّها تدَّعي أنَّ الأراضي العربيَّة بوار وخراب لا يسكنها أحد، بل هي مليئة بالأمراض والأوبئة. لذا ستتطوَّع هذه الجُمُوع اليهوديَّة بمنتهى الشجاعة والإقدام على تعمير هذه الأرض -ومن هنا سمُّوا الاحتلال استعمارًا-، وتأهيلها لسُكنى اليهود وعودتهم لأرضهم التي كانوا عليها قبل الشتات. وترافقها حملات أخرى تدَّعي على العرب والمسلمين أنَّ وجودهم على جُزء من الأرض وجود عارض طارئ، وأنَّهم احتلُّوها، وأنَّهم أقلّ من درجة الإنسان الطبيعيّ -هذه النظرة موجودة في التلمود لكلّ مَن هو غير يهوديّ-؛ لذا يجب تحرير الأرض منهم (لذلك ترى الصهيونيّ يخاطب نزار بهذا المعنى).
وصولاً إلى بداية رسميَّة للصهيونيَّة 1897، وتقسيم المُحتل الأوربيّ للبلاد العربيَّة في اتفاقيَّة “سايكس بيكو” 1916. واحتلال بريطانيا لفلسطين بقرار المنتصرين في “الحرب العالميَّة الأولى” 1917، خاصة بعد تفكُّك الدولة العثمانيَّة -التي كانت تحكم فلسطين وما حولها-. مُصاحبًا لـ”وعد بلفور” والتزام بريطانيا باتخاذ وطن لليهود على فلسطين.
وهنا يأتي دور التوسع على الأرض الذي كان من خلال طُرُق متعددة: أولها شراء الأراضي من الذين يملكون إقطاعات ضخمة، وذكر منهم الفيلم أحفاد الأمير “عبد القادر الجزائريّ”، وبعض أثرياء لبنان “سُرسك، وتُويني”، والشراء من المتملكين العرب الفلسطينيين لصالح “الجمعيَّة اليهوديَّة لاستعمار فلسطين وسوريا”. لكنَّ الأراضي المَبيعة لمْ تكنْ فلسطين، بل النواة التي انطلقت منها الصهيونيَّة لاحتلال بقيَّة الأرض. كان ذلك من خلال تعزيز موقفها بإثارة المذهبيَّة والطائفيَّة بين المسلمين والمسيحيين، والمسلمين أنفسهم. ومحاولة تقديم الدعم لأيّ عربيّ يطلب الدعم لكسب لقب “مُتعاون” أيْ مع الصهيونيَّة. واحتواء أقليات عربيَّة -مثل السودانيين العاملين في الجسر- لكسب أيَّة شرعيَّة ولو لمْ تكنْ لها أيّ أصل.
كانت تلك الجهود السلميَّة تصاحبها أعمال حربيَّة كثيرة. أولها تأسيس منظمة “الهجاناة” 1920 العسكريَّة للإبادة العِرقيَّة للعرب، وصُنع الكثير من المجازر بعد إنشاء قاعدة الانتشار “تلّ أبيب”، وإنشاء الكثير من المنظمات التجسسيَّة لصالح الصهيونيَّة، واستقدام الدعم الكامل من الدول الأوربيَّة منها المساعدة على الحرب الأولى الكبرى 1948.
ثمَّ عمليات تهجير واسعة النطاق للأماكن التي يسكنها أصحاب الأرض -هذا منطقيّ جدًّا فالأماكن التي يعيش فيها العرب لا بُدَّ أنْ تكون أفضل الموجود من الأرض، لذلك كانوا يهجرون أهلها خاصَّةً-. يأتي هذا التهجير بداعي إصلاحات إداريَّة أو معماريَّة مع وعد أصحاب الأرض بالعودة بعد شهر أو شهور -وما زالوا ينتظرون حتى الآن-، أو تهجير قسريّ فوضويّ بالقوة الجبريَّة. ودليل آخر على أنَّ الاحتلال لمْ يأتِ من عمليات شراء وبيع أنَّهم اكتسبوا أراضي شاسعة في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، ومازالوا حتى اللحظة الراهنة يقيمون مشاريع استيطانيَّة ويستقطعون أراضي جديدة من فلسطين لهم؛ فهل هذا من الشراء أيضًا؟!
ثم تأتي خطوة المحو أو العدم الكُبرى التي تتمثَّل في محو كلّ القرى والمُدُن وتسويتها بالأرض، بل زراعة أحراش -أرض زراعيَّة فوضويَّة لا فائدة منها- لإخفاء حقيقة أنَّ هناك عربًا كانوا هنا أصلاً. والتي تتمثَّل أيضًا في صناعة واقع جديد تمامًا؛ يتمثَّل في سرقة الواقع بكتابة لافتات تاريخيَّة تزيِّف التاريخ وتنسب المُدُن للرومان أو البيزنطيين، مع المُدُن الجديدة، والمعاهد والجامعات والمدارس على أنقاض الجثث التي قتلوها، وقد اختاروا ألمع المناطق -كما سبق- والشواطئ والموانئ لحياتهم.
أمَّا العرب فقد استوطنوا ما أعطي لهم من أراضٍ جرداء أقلّ كثيرًا مما يتمتع بها المُحتلّ. والأعجب أنَّهم اختلقوا حُججًا افترائيَّة كيْ لا يتملَّك العرب تلك الأراضي الجديدة؛ منها أنَّ العربيّ إذا تملَّك أصابه الكسل، لذا فيجب أنْ يكون مجرد عامل عند سيده الصهيونيّ!
وكيْ يملئوا كلّ هذه الأراضي، وكيْ يصنعوا هذا الواقع الجديد احتاجوا إلى كمّ هائل من السُّكان. لذا بدأت الآلة الإعلاميَّة -التي يسيطر عليها اليهود دائمًا وأبدًا- في إحياء كلّ الأفكار التلموديَّة، وإشاعة أنَّ فلسطين هي الجنَّة الأرضيَّة، واستدعاء كلّ مَن يمكنهم استدعاؤه من أيَّة دولة أخرى. وبالقطع تلقَّوا مساعدات فتمَّ طرد اليهود فجأةً! -إثر وقائع ظهرت فجأةً هي الأخرى!- من بعض الدول مِمَّا صبَّ في صالح هذا المشروع، ودعَّمَهم بأهمّ عوامل نجاحه وهو “العامل البشريّ”. هذه كانت معالم احتلال فلسطين الحقيقيَّة التي عرضها الفيلم.
سنخرج من هذا الفيلم وعبارات مؤثرة تتردد في ضميرنا منها: “ليس سرًّا انتقاد علم الآثار الإنجيليّ ووريثه الصهيونيّ؛ لأنَّ كلّ اكتشافاته من المُخيِّلة التوراتيَّة لصالح نظريَّة أنَّ فلسطين هي أرض إسرائيل، وأنَّ أنا وشعبي مجموعة كائنات عابرة في هذا المكان” .. “الصهاينة أخفوا كلّ معلومة عن حياتنا، بالمُقابل علَّمونا أنَّ قبل احتلالهم كُنَّا متخلفين، أو حتى أنصاف بشر، وأنَّ أيّ إنجاز في حياتنا هو بفضلهم” .. “التقسيم والتسميات بدأت مع احتلال الصهاينة” .. “سيدي كان حُرًّا في بلاده، كان يمشي في بلاده، كان حُرًّا”.
وقد تعمَّد “نزار حسن” أنْ يُنهي رحلته الطويلة على طريق سيده عند “غزَّة”، بل لأوَّل مرَّة أظهر ملمحًا دراميًّا عندما صوَّر فريق الرحلة يقف مُصطفًّا ينظر إلى مشارف “غزَّة”، كما أنَّه ترك الكاميرا تصوِّر من ناحية “غزَّة” وهو ورفاقه يمضون في طريقهم عائدين. وكأنَّه يقدِّم اعتذارًا لها، وكأنَّه يقول لها لولا المصيبة لعانقتُكِ عناقًا طويلاً. لكنَّه أنهى برسالة الفيلم في آخر كلماته على لسان جدّه، عندما سأله عن الصهاينة المُحتلِّين، فقال له جدّه: “ما فيه شيء دائم يا سيدي”.
وفي النهاية يبقى أن نؤكد على رسالة الفيلم، بل نؤكد على أنَّ الوجود الصهيونيّ خطر حضاريّ على كلّ الوجود العربيّ، فهو لا يُهدِّد فلسطين وحسب -كما يعتقد بعض المُتساهلين في النظر- بل إنَّ غرضه كلّ البلاد العربيَّة. الدليل على ذلك أنَّه احتلَّها بالفعل 1967، وأنَّه ماضٍ في خطته أمام أعيننا جميعًا يحصد الأرض بعد الأرض ولا أحد يتكلَّم. ونؤكد أيضًا أنَّ هذا الوجود زائل، ولمَنْ يئس من زواله لمرور العقود عليه نذكِّر أنَّ المحتلّ الصليبيّ جاء واحتلّ الأرض لمدة قرون، وأنشأ واقعًا جديدًا أيضًا، ثمَّ رحل ورحل واقعه معه. وهنا نتذكَّر أبيات الشاعر “مهذل الصقور”:
أتظنُّ أنَّكَ عندما أحرقتَني
ورقصتَ كالشيطانِ فوقَ رُفاتِيْ
وتركتَني للذَّارياتِ تذُرُّني كُحلاً
لعينِ الشمسِ في الفَلَوَاتِ
أتظنُّ أنَّكَ قد طَمستَ هُويَّتِيْ
ومَحوتَ تاريخِيْ ومُعتقداتِيْ
عبثًا تحاولُ لا فناءَ لثائِرٍ
أنا كالقيامةِ ذاتَ يومٍ آتِيْ