“سفاح الجيزة”.. شهادة ميلاد لشرير جديد للشاشة العربية

عرفت السينما المصرية، على مدار تاريخها الطويل، عددا من الممثلين الكبار الذين برعوا في أداء أدوار الشر مثل زكي رستم ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وعادل أدهم. وقد أجاد هؤلاء في تجسيد الشر على الشاشة بنحو كان يفوق أحيانا أداء النجم الذي يقوم ببطولة العمل ويمثل جانب الخير في الصراع الدرامي المحرك للأحداث.

وقد كان لكل واحد من هؤلاء الأشرار العمالقة سمة تميزه، فكان البعض يتسم بخفة الظل مثل استيفان روستي وتوفيق الدقن، وكان البعض الآخر يجيد المزج بين الطيبة والشر مثل زكي رستم ومحمود المليجي، وكان هناك من برع في أداء الشر الخالص مثل عادل أدهم.

ومن السمات التي كانت تميز أدوار الشر في السينما المصرية وجود “دويتو” بين النجم الذي يلعب دور الخير، وكان فريد شوقي في الغالب، وبين بعض نجوم الشر مثل زكي رستم ومحمود المليجي وتوفيق الدقن. ولم يسد فراغ هؤلاء سوى عادل أدهم عندما وقف أمام فريد شوقي في فيلم “الشيطان يعظ” وجميل راتب في فيلم “وحوش الميناء”.

وقد اختفت هذه الثنائيات التي كانت تميز أفلام السينما المصرية في مرحلة سابقة، كما اختفي نجوم الشر من على الشاشة في الألفية الثالثة، فلم يظهر بعد عادل أدهم الذي توفي عام 1996 وجميل راتب الذي تحول إلى أدوار الخير قبل رحيله عام 2018، من أخلص لأدوار الشر أو ترك بصمة مثل الأشرار القدامى حتى الآن.

وفي رأينا أن أحمد فهمي بطل مسلسل “سفاح الجيزة” الذي عُرض على منصة شاهد قبل الموسم الرمضاني، يمكن أن يكون هو شرير الشاشة العربية القادم بقوة. والغريب أن فهمي كان قد بدأ حياته الفنية ضمن الثلاثي الكوميدي الذي تكون منه وهشام ماجد وشيكو، وقدموا أفلاما ناجحة، على مستوى الفكرة والأداء، مثل “سمير وشهير وبهير”، و”بنات العم”، و”الحرب العالمية الثالثة” كما قدموا مسلسلات كوميدية ناجحة مثل “الرجل العناب”.

لكن فهمي انفصل عن الثلاثي لينفرد بالبطولة في فيلم “كلب بلدي”، ويكرر نفس التجربة الكوميدية في فيلمه الأخير “مستر إكس”. وبالرغم من النجاح الجماهيري للفيلمين إلا إن فهمي لم يكن مقنعا للجمهور بحيث يترك بصمة مميزة لأدائه إلا عندما لعب دور الشرير (راضي) أمام أحمد عز في فيلم “العارف”.

ويمكن القول، دون مبالغة، أنه نجح في أن يخطف الكاميرا من عز في كل المشاهد التي جمعت بينهما، ولولا القانون التجاري الذي يحكم سوق الإنتاج السينمائي والتقاليد الأخلاقية التي تحتم انتصار الخير على الشر، خاصة إذا كان الذي يمثله نجما محبوبا في وسامة أحمد عز، ما كان لفهمي أن ينهزم أمام عز في مشهد النهاية المثير الذي جمع بينهما فوق قمة ناطحة سحاب!

فملامح أحمد فهمي تؤهله، بجدارة، للعب أدوار الشر، وهي تذكرنا بحمدي الوزير، الشرير الذي حبس نفسه في أدوار الاعتداء الجنسي حتى لُقّب ب “متحرش السينما المصرية”. غير أن فهمي لديه من الثبات الانفعالي ما يجعله يؤدي أداء ثلجيا، بحيث يقتل بدم بارد، وضح ذلك في فيلم “العارف” ووضح أكثر في مسلسل “سفاح الجيزة” الذي تدور أحداثه حول قصة حقيقية بطلها قاتل متسلل، احترف النصب والإجرام، فكان يخطط جيدا لجرائمه بحيث لا يترك أثرا يدل عليه، ساعده في ذلك قدرته على التخفي وانتحال شخصيات متعددة.

القصة التي كتبها أحمد صلاح العزب وأخرجها هادي الباجوري توفر لها من عناصر الإثارة الدرامية الخصبة ما أتاح لأحمد فهمي أن يقدم أفضل ما عنده، فقد لعب عدة أدوار مختلفة لنفس الشخصية، وأجاد التلون في الأداء ما بين اللين والعنف، الطيبة والشر، غير أن أجواء الرعب التي نجح الباجوري في تصويرها جعلت المشاهد يشعر بالخوف كلما وقعت الكاميرا على ملامح أحمد فهمي بالرغم من كونه يؤدي كرجل صالح ومتدين على مستوى الظاهر. فمن المفارقات الصارخة تلك النغمة الدينية التي يرددها تليفونه المحمول حتى في أشد اللحظات إجراما!

وقد أجاد السيناريو في رسم الشخصية المعقدة التي تتصرف بأخلاقية الخير بينما تحتفظ داخلها ببركان من الشر، وهي شخصية تذكرنا بالدور الذي لعبه أنتوني بيركنز في فيلم هيتشكوك الشهير “سيكو”. حيث يهجم الرعب من بين ملامح ترتسم عليها البراءة طوال الوقت.

وقد نجح الباجوري في التركيز على مجموعة من التفاصيل الصغيرة ذات الدلالة في تصرفات السفاح في بيته من خلال كادرات ذكية تصوره وهو يقوم بإعداد الطعام بنحو يجمع بين دلالة العقلية المنظمة لدى المجرم وبين شراهته لأكل اللحوم، فمهارته في تقطيع اللحم وشيّه تفسر لنا الجانب الوحشي في شخصيته الذي لا يظهر إلا لحظة ارتكابه لجرائمه البشعة وتقطيعه لأوصال ضحاياه!

إن جمالية الخوف تنبع، في مثل هذا اللون من الدراما، من تلك المفارقة الصارخة التي تجمع بين الإنسان والوحش في كيان واحد، بحيث تجعل المشاهد في حالة ترقب ورعب كلما اقترب أحد من شخصية السفاح، ويجسد هذا المعني، عالميا، المشهد الأيقوني الشهير الذي يصور لقاء كلارس ستارلينج (جودي فوستر) العميلة المتدربة في إف بي أي بهنيبال لكتر (أنتوني هوبكنز) المريض النفسي الذي تم إيداعه مستشفي بالتيمور بتهمة أكل لحوم البشر، في فيلم “صمت الحملان”.

وشخصية سفاح الجيزة الحقيقية أثارت جدلا واسعا بعد عرض المسلسل الذي حاول أن يقترب أكثر من روح الشخصية، وفي هذا السياق تم إعادة طرح الحالة على الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي في لقاء أجرته معه صحيفة مصراوي الألكترونية بتاريخ 3 سبتمبر 2009، الذي وصف صاحبها ب “سيكوباتي متصاعد النزعة” وهو يتمتع بالسلبية واللامبالاة وعدم الاهتمام بتوابع تصرفاته وليس لديه أي مشاعر أو أحاسيس، بل يقتل أو يؤذي أي أحد، وهو هادئ ويشعر بالانبساط، دون الإحساس بأي ندم أو ذنب نهائيا، لأن ما يهمه هو إرضاء ذاته فقط.

فكرة القاتل المتسلسل لم تعرفها الشاشة المصرية سوى في فيلم “ريا وسكينة” والمسلسل الذي يحمل نفس الاسم، وفيلم “اللص والكلاب”، غير أن سعيد مهران، سفاح اللص والكلاب، كان يقتل عشوائيا بدافع من الشعور بالظلم الاجتماعي والرغبة في الانتقام، وكانت ريا وسكينة تقتلان بدافع من الطمع والرغبة في تحقيق الثراء السريع، ولم يكن ينقصهما الذكاء الإجرامي ولا التنظيم اللذان كانا ينقصان سعيد مهران.

ربما كان جابر قذافي سفاح الجيزة أقرب في أسلوبه الإجرامي من ريا وسكينة، خاصة أنه كان يمارس النصب والاحتيال بجانب جرائم القتل ويقوم بدفن ضحاياه بنفسه لإخفاء معالم جرائمه، غير أن دراما المسلسل جنحت إلى الشكل الأمريكاني، لأن السفاح كان يتصرف بدافع من أمراض نفسية ترسبت داخله منذ الصغر. والمريض النفسي لديه دائما رؤية مشوهة للعالم وموقف وجودي معاد للآخرين، ولا سبيل أمامه سوى أن يعمل على تغيير واقعة بالقوة، مستخدما في ذلك كل ما يملك من حيلة وذكاء.

السفاح الحقيقي

لقد صدق أحمد فهمي عندما ذكر أن المسلسل يحمل أبعادا درامية أعمق من القصة الحقيقية التي اعتمد عليها في نسج أحداثه، لكنه لم يكن موفقا عندما ذكر أنه قبل القيام بدور السفاح كنوع من التغيير، رغبة في التنقل بين الكوميديا والتراجيديا، لأن فهمي قد لا يضيف كثيرا إلى اللون الكوميدي الذي يلعبه الكثيرون، ربما باحترافية أكثر، لكنه يمكن أن يشكل إضافة حقيقية في أدوار الشر التي مازالت تبحث عن نجم يعيد أمجاد الماضي، كما أن الاستمرار في أداء الأدوار الكوميدية بجانب أدوار الشر من شأنه أن يضعف تأثير الممثل على المتلقي الذي سيظل محتفظا في ذاكرته بالشكل الهزلي الكاريكاتيري للممثل عندما يؤدي بنحو تراجيدي.

وربما كان هذا هو سبب اعتراض البعض على اختيار أحمد فهمي للدور، وترشيحهم لفتحي عبد الوهاب أو محمد فراج أو باسم السمرة بدلا منه، بالرغم من أنه أجاد في الأداء وكان مفاجأة للجميع، وستثبت الأيام، إذا ما أحسن اختيار أعماله القادمة وأولى اهتماما أكثر بهذا اللون من الأدوار، أنه شرير الشاشة العربية القادم دون منازع.

Visited 4 times, 1 visit(s) today