“سبنسر”: حرب الأيام الثلاثة
جمال لا يمكن إنكاره يأسر العين مع اللقطات الأولى لمساحات خضراء ممتدة، تمنح شعورًا مخادعًا بالحرية. إذ نرى سريعًا رجالًا متجهمين في ملابس عسكرية يسيرون بخطوات ثقيلة، ويحملون ما يبدو كحاويات أسلحة إلى قبوٍ فارغ بارد، بجدية المقبل على معركةٍ ما، ثم يتأكدون من جهوزية المكان ويغادرون، فقط لتنكشف حمولتهم عن الأطعمة المخصصة لعطلة العائلة الملكية، ونكتشف أننا بمطبخ القصر الذي تسلمه للتو فيلق الطهاة! الصمت السائد الثقيل مقصود، ففي منتصف الشاشة تمامًا نقرأ تنبيهًا مكتوبًا للعاملين بالمطبخ: “ابق ضجيجك في حده الأدنى؛ يمكنهم سماعك”.
لا نسمع الموسيقى الأخاذة، الحزينة إلا مع ظهور ديانا في سيارتها، بينما تقودها بنفسها وتنظر في الخريطة، ولا نرى إلا الألوان الباردة الكالحة إلى أن تكسرها بألوان ملابسها الدافئة. شعرها المتطاير في السيارة المكشوفة هو آخر ما ستختبره من انطلاق قبل وصولها القصر.
لذلك لا يبدو فقدانها الطريق وتأخرها بريئًا بالكامل ـ أول جملة حوارية على لسانها تعلن فيها أنها لا تعلم أين هي، وأنها قد تاهت ـ فمن قد يتعجل الوصول لمحبسه؟
تنتظرها هناك النميمة الشامتة، التي تدينها بالفعل لأنها لم تصل قبل الملكة. تعرف ديانا أنها اقتربت من منزل صباها المجاور للقصر عندما ترى فزاعة اعتادت اللعب حولها في طفولتها، فزاعة ترتدي سترة قديمة لوالدها.
تصطحب السترة المهترئة معها، كأنها تتزود بدرعٍ من ماضيها ليؤازرها في حرب الثلاثة أيام، فترة العطلة. بمجرد دخولها عبر الباب تبدأ المعركة؛ يستقبلها رجل أمن سابق بوجه صارم، وعينين تخترقانها، لقد عين في مكانه خصيصًا لأجلها، ليتأكد أنها لن ترتكب حماقة ما، وأن “لا أحد فوق التقاليد”. يربح هو الجولة الأولى في نزال الإرادة بينهما، ويجبرها على الخضوع للوزن كجزء من تقليد خاص بعيد الميلاد.
معضلتان تلاحقان أميرة ويلز وتحرقان أعصابها ببطء: غياب حرية الاختيار، وكتمان كل ما هو حقيقي، فملابسها تفرض عليها بترتيب محدد مسبقًا لا دخل له بمزاجها الشخصي، وقد يعتبر استبدال ثوب بآخر من قبيل التحدي للنظام. لا يمكن رفع التدفئة مهما زادت برودة الجو لأسباب غير مفهومة. بل تجبر على ارتداء قلادة من اللؤلؤ مطابقة لتلك التي اشتراها زوجها لعشيقته.
طوال مدة الفيلم لا يجمعها إطار بأحد أفراد الأسرة إلا لتناول الطعام والتقاط الصور. لا تتبادل حوارًا حقيقيًا، يحوي شيئًا من التعاطف، إلا مع الخدم وولديها. لا أحد في القصر/ العائلة يكترث لرأيها أو مشاعرها، هناك دور مسند إليها عليها أن تقوم به كأي مؤدٍ محترف. هذه الاحترافية المفترضة تتجسد في البطاقات المثبتة على فساتينها، كأنها مخصصة لعمل فني، تحمل اسم الشخصية والمشهد: “أميرة ويلز. ثوب إفطار يوم العيد”. تحاول تذكير ابنها الأكبر بأنه يستطيع أن “يريد” أو لا يريد، فتسأله إن كان “يريد أن يكون ملكًا”، لكنه يجيبها برد واقعي ناضج: هل أملك خيارًا؟
“آسف.. ظننتك تعرفين”. هذا ما ختم به تشارلز كلامه لزوجته في حوارٍ قصيرٍ كاشف، يحاكي في قسوته وأثره الطلقات النارية التي نسمعها في خلفية المشهد. يتحاشى النظر إليها مباشرةً، ويعلن ببرود أن عليهما القيام أحيانًا بما يكرهانه لأجل البلاد، ولأجل الناس. كأن الحياة المزدوجة لهما معًا، التي يعلنان فيها عكس ما يبطنان، هي بند أساسي في صفقة الانضمام للعائلة الملكية. لا أحد يريد الحقيقة، يجب أن تطمس ببساطة، وترخى دونها الستائر الكثيفة كما حدث مع نوافذ غرفتها. لهذا يتم إبعاد مساعدتها الخاصة حين تفضي إليها بما يعتريها من اضطراب، وتُخبَر مرة بعد أخرى ألا تتحدث لأحد بثقة، لأن كل ما تقوله “يمكن سماعه”.
تحاول ديانا استدعاء نفسها الأصيلة والتشبث بها بشكل يائس، بعد أن تم استبدال صور المجلات الرسمية بهويتها. تتسلل ليلًا لبيت عائلة سبنسر القديم المغلق، رغم المخاطرة في الظلام بين الأجزاء الآيلة للتحطم. هناك كانت سعيدة يومًا. لكن الأشباح تطاردها حتى إلى ملاذ طفولتها. بالتحديد شبح آن بولين. كان هذا أفضل استثمار لفكرة القصر المسكون والمحكوم بموتاه/ ماضيه، وأفضل تجسيد لمقولتها لابنها: “هنا لا يوجد مستقبل.. الماضي والحاضر هما نفس الشيء”.
تمت عائلة سبنسر بصلة قرابة لآن بولين، زوجة هنري الثامن، التي تم إعدامها عقب محاكمة مدبرة من الملك لأنه أراد الزواج بأخرى. ما أن تخبرنا ديانا بذلك، في شرحٍ لخوفها من انتهاء دورها، حتى نرى في المشهد التالي لوحة ضخمة تجسد هنري الثامن، وقد غطت نصف الحائط خلف أفراد العائلة الجالسين للعشاء. باتت ديانا ترى آن بولين في يقظتها وأحلامها، ونستطيع فهم الإحالة التي صنعها وعيها من الألم والقنوط. هذا لا يمنع ملاحظة الإفراط في استخدام تلك الإحالة من قبل كاتب السيناريو، إلى درجة تحول ديانا إلى آن بولين حرفيًا، هلوسة كانت أم تخيل واعٍ، في إحدى اللقطات.
حين تستسلم أميرة ويلز أخيرًا للحقيقة؛ أنها لا تملك أي فرصة للبقاء بتلك الشروط، وأنها بحاجة للانسلاخ من حياة لم تكن يومًا مؤهلة لها، لأنها” شخص عادي يحب شبح الأوبرا”، نراها وقد تخففت وانطلقت كطفلة، مستردة جزءًا من حريتها. تستمد الدعم اللازم لتلك الخطوة من الحب، مهما بدا ذلك نمطيًا: حب ولديها اللذين تصحبهما في هروبها، وحب مساعدتها الذي ينقذها من كآبة الرفض. مشاهد متتالية قرب النهاية لديانا وهي ترقص، في مراحل عمرية مختلفة.
وفي أثواب أيقونية عديدة، توحي بالضياع والسوداوية، وتنتهي بها وهي تجري، تهرب بأقصى سرعة لحياتها. نعرف أنها وجدت طريقًا ما حين نراها وقد تركت أحد فساتينها على الفزاعة بدلًا من سترة أبيها. الفستان الأصفر ـ القبيح في رأيي ـ والذي تم اختياره من قبل منسقة الملابس، معلق على جسد ميت من المعدن الصدئ، إيذانًا بنهاية تلك الحقبة من حياتها وبداية أخرى.
الكلمة الختامية التي تأتي على لسانها في نهاية الفيلم، عندما يسألها عامل في مطعم وجبات سريعة عن اسم صاحب الطلب، تأتي موجزة، وتعلن انتصارها في تلك الجولة الأخيرة من الحرب، مصحوبة بابتسامة الخلاص والثقة وهي تقول: سبنسر.
كريستين ستيوارت في أدائها لدور ديانا أكثر من رائعة، مشاعر التيه والانحدار مطبوعة على وجهها وجسدها، وجمالها يبدو أسطوريًا حتى في أسوأ لحظاتها، كما يليق بأميرة، لا تمل من النظر إليه.
استخدام مبهر للصورة لنقل الإحساس بالوحدة والبرودة والتباعد عمومًا، والدفء الشديد في مشاهد الأميرين مع أمهما. تجعلك الإضاءة عالقًا في دراما نفسية سوداوية أحيانًا، وفي رعب قوطي عن الأشباح أحيانًا أخرى.
مديرة التصوير كلير ماثون بطلة رئيسية، تركت بصمة ستبقى طويلًا في ذاكرتنا البصرية.
سالي هوكنز برعت في دور ماجي مساعدة ديانا، كلما ظهرت شعرنا تلقائيًا بالراحة والحب. كذلك جاك فارثنج في دور تشارلز، بنظراته المجسدة للأزمة أغلب الوقت.
أما كاتب السيناريو، ستيڤن نايت، فرغم ذكائه الملحوظ في بناء المشاهد واختياراته السردية، ودور الحوار البارز، عابه كثرة استخدام الكنايات والرموز المباشرة حين كان في أقل الحاجة إليها. التجربة إجمالًا ممتعة، غنية، زاد من ثرائها الموسيقى الشاعرية، المهيبة لجوني جرينوود، وتشجع حتمًا على البحث عن الأفلام الأخرى للمخرج بابلو لارين لمشاهدتها.
سؤال أخير أظنه طرأ على بال كل من شاهد إعلان الفيلم، ولا أحد يملك له إجابة يقينية: هل سيكتفي عالم الدراما أبدًا من تناول قصة أميرة القلوب، الليدي دي؟ وهل سنكتفي نحن من مشاهدتها؟