“زينة” ومأزق السينما المستقلة في سوريا
إذا كان ثمّة من يعتبر فيلم “البشرة المالحة” لنضال حسن (2002) بمثابة البداية الفعلية للسينما المستقلة في سوريا فإن تظاهرة الوردة التي عُقدت سنة 2006 في دمشق هي بمثابة إعلان صريح عن ولادة هذه السينما التي صنعها سينمائيون شباب استفادوا من كاميرات الفيديو و الديجيتال ومن تجربة السينما المستقلة في مصر فأنجزوا أفلامهم بجهودهم الفردية و بميزانيات ضيّقة، ومع اندلاع الحرب في البلاد تغيّر المشهد السينمائي برّمته وانقسمت السينما السورية إلى ما عُرِفَ بسينما الخارج وسينما الداخل، مع اهتمام الأولى بالأفلام التسجيلية وإطلاق الثانية التي تتصدّى لإنتاجها المؤسسة العامة للسينما مشروع دعم سينما الشباب، والذي نظر إليه البعض باعتباره محاولة لاحتواء صنَّاع السينما المستقلين، طُمِسَت ملامح السينما المستلقة حتى انفطأت.
وسط هذه الظروف أنجز معن جمعة فيلمه الروائي الطويل الأول “زينة” (105 دقيقة)، 2018، وهي حسب علمنا تجربته السينمائية الأولى إذ لم يسبقها أفلام قصيرة أو تسجيلية أو عمل كمساعد للإخراج، و تدور أحداث الفيلم في غرفة على جبهة قتال حيث يمكث جندي لا يقدر على الخروج بسبب سيطرة القنَّاصة على المنطقة فتأتي زوجته الكاتبة الشابة لزيارته و تُسجَن معه في تلك الغرفة النائية و تأخذ بتوثيق يومياتيهما بكاميرا فيديو منزلية أحضرتها معها و لكنها تضطر بين الفينة و الأخرى لحذف مقاطع فيديو قديمة للحفاظ على ذاكرة الكاميرا الرقمية و من خلال استعراضها لهذه الفيديوهات نشهد “مقاطع” من حياتهما الزوجية في المنزل و الشارع قبل أن يموت الزوج فتّبدل زوجته ثيابه العسكرية بالمدينة لإخراج جثته من الجبهة.
فيلم بلا رابط
وإن كانت حكاية الفيلم بسيطة، وهذه ميّزة وليست عيباً بالتأكيد، إلا أنها بساطة تجنح نحو الاستسهال فقد أطاح كاتب السيناريو ومخرجه بالبناء التقليدي لصالح التجريب، وهذه واحدة من سمات السينما المستقلة حين تعتمد على منطق واضح، أما زينة فبدا وكأنه فيلم يبحث عن فيلم فلا ترابط درامي بين مقاطع الفيديو الكثيرة التي تعرض زمناً ميتاً بلا حدث أو صراع، فتارة يطلب الزوج من زوجته إعادة إخباره بحملها بجنين مراراً وتكراراً وتارة أخرى يمثّل مع زوجته مشهداً يفترضان من خلاله خيانتها له، وتارة يغرق الزوجان في حَبسِهما على الجبهة بصمت طويل بلا مبرر مفهوم بالنسبة إلينا!
وقد أضاع البطلان “لجين اسماعيل”، الذي لعب بطولة عدة أفلام من إنتاج المؤسسة، و”علياء سعيد” التي قدمت تجارب صغيرة في الدراما التلفزيونية، فرصة إضفاء حيوية مطلوبة على هذه “الأزمان الميتة” وإن كان بعض الممثلين يميلون للافتعال أمام الكاميرا فكيف قد يكون الحال عندما يتعاملون مع كاميرا داخل كاميرا أو فيلم داخل فيلم؟ كما عجزت أحجام اللقطات الضيّقة والمتوسطة والزوايا المتكررة (مدير التصوير حسن يونس) عن انتشال “حكاية الأزمان الميتة” هذه من مآزقها أو تحقيق إضافة تُحسب لصالح الفيلم.
أزمة سينما
يعكس “زينة” الكثير من أزمات السينما المستقلة في سوريا في إنتاجاتها القصيرة و لمتوسطة و الطويلة، على قلّتها، خاصة عندما يتخلّى مخرجوها عن القصص و البناء الدرامي أو يقدّمون قصصاً مشوّهة، وحين يتوهمون أن التقشف في صناعة الفيلم الذي دعا إليه رواد الواقعية الجديدة والموجة الفرنسية والدوجما قد يعني التخلّي عن القيمة الجمالية للصورة متناسين أن الكثير من نتاجات هذه المدارس السينمائية نفسها تزخر بقيمة فنية وجمالية، أو حين يظنون أن السعي لمعايشة الأبطال الدراميين في حالات ضجرهم ومللهم قد يعني صناعة فيلم ممل وقطع صلة الوصل بين الفيلم و المتفرج وكأن عناصر اللغة السينمائية الكثيرة قد عجزت عن التعبير!
وإن كان التخلّي عن الموسيقى التصويرية والاعتماد على شريط الصوت، على غير مجرى العادة في الأفلام السورية التي تكاد لا تنقطع موسيقاها، يُحسب لصالح الفيلم فإن الأهم في وجهة نظرنا هو عرض الفيلم تجارياً في صالات الكندي التابعة لمؤسسة السينما خلال صيف 2018 وهذه أول مرة يشق فيلماً سورياً مستقلاً طريقه لدور العرض في البلاد دون أن يحقق بالتأكيد حضوراً جماهيرياً يُذكَر في بلد عَزَفَ جمهوره عن مشاهدة الأفلام المحلية منذ زمن بعيد فكيف يكون الحال بعد سنوات الحرب الطويلة؟
وإن كنا في المحصلة نثمّن الجهود الساعية لصناعة سينما مستقلة فإننا متيقنون من أن الحماسة والنوايا الطيّبة لا تصنع فيلماً سينمائياً إن لم تتكامل مع الدراية والسعي لتطوير اللغة السينمائية واستلهام تجارب السينما المستقلة العالمية وفي مقدمتها في منطقتنا السينما المستقلة في مصر التي أضافت لسينماها أرفع الجوائز في المهرجانات العربية على الأقل، وهذه دعوة لصنَّاع السينما المستقلة والعاملين في إطار مشروع دعم سينما الشباب لمراجعة نتاجاتهم فالكاميرات المتطورة لا تصنع الفيلم لوحدها و الدليل عجز “زينة” عن الحضور في المهرجانات وهذا يعود لضعف المستوى في العموم وليس بسبب ارتفاع تكلفة المشاركة كما صرّح مخرج الفيلم في لقاء صحفي فالمشاركة اليوم أصبحت مجرد كبسة زر والبقية يتحمّل مسؤوليتها الفيلم وحده.