رؤية أخرى لفيلم “المنصة”: حيث يأكل الفقراء بعضهم البعض
أثار الفيلم الاسباني “المنصة” The Platform الذي بدأت شبكة نتفلكس عرضه مؤخرا في خضم الحالة التي تسيطر على العالم مع التفشي المرعب لفيروس كورونا القاتل، اهتماما كبيرا من جانب المشاهدين.
هذا الفيلم يعكس نوعا عن “الديستوبيا”، أي يعرض صورة خيالية للعالم، تلخص علاقة الإنسان بالسلطة، برفيقه الإنسان، بالطبقات بعضها ببعض، بالصراع الانسان من أجل النجاة، وبالشعور الخانق الذي يذيب المسافة بين الواقع والحلم، وبين الحقيقة والكابوس، ويجسد الهوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء. إنه يجعل المشاهدين يعيشون تجربة المشاهدة كما لو كانوا قد أصبحوا هم أنفسهم، أسرى داخل ذلك المكان الغريب المغلق الذي تدور فيه مشاهده.
التيمة الأساسية في الفيلم هي “الصراع على الطعام”. وهي تيمة رمزية تشير إلى فكرة “الالتهام” أو الاستهلاك الذي لا يتيح الفرصة لأحد أن يشبع قط. فنحن داخل ما يشبه السجن أو “الإصلاحية” التي يذهب إليها الناس طواعية أو إكراها. سواء للتعلم والإقلاع عن عادة سيئة كما يفعل بطل هذا الفيلم أي الشخصية الرئيسية فيه الذي يختار لنفسه اسم “غورينغ”، أو رجل الشارع “تريماغاسي”، نموذج الإنسان “العادي” الذي يأتي إلى هذا المكان الذي يجمع بين العقاب والاختبار، بعد أن قتل مهاجرا غير شرعي ولا يبدو أنه نادم بأي قدر على فعلته هذه بل يراها “شرعية” تماما. لكن غورينغ سيصبح رمزا، تماما كما سيصبح تريماغاسي كما لو كان انعكاسا للجانب المظلم في الانسان، لا يختفي أبدا حتى بعد أن يقتله غورينع!
غورينغ جاء بمحض ارادته راغبا في البقاء لستة أشهر بغرض الإقلاع عن التدخين وقراءة رواية “دون كيشوت” التي اختار أن يأتي بها معه، وأن يحصل على شهادة بقضاء الفترة في هذا السجن أو الإصلاحية أو المعتقل (لا فرق). أما زميله في نفس الزنزانة (في البداية) “ترايماغاسي”، فقد أرغم على قضاء فترة في هذا البرج العجيب، عقابا له على جريمته، مع السماح له باختيار أن يأتي معه بسكين. ولكن لا أحد أفضل من الآخر. والصراع سيكون على البقاء. والبقاء يقتضي تناول الطعام، لكن الطعام ينتقل فوق مائدة عامرة بين الزنازين العمودية الموجودة داخل هذا البناء أو البرج العمودي المكون من طوابق لا يبدو أن لها نهاية، عبر مائدة كبيرة نرى الطهاة في مطعم البرج، في بداية الفيلم وهم يعدونها من أشهى المأكولات. تخترق هذه المائدة الطوابق تتوقف للحظات في كل طابق حتى يتناول نزلاء الطابق بعض الطعام لكنها سرعان ما تهبط الى الطابق التالي قبل أن يكون النزلاء قد تناولوا ما يكفيهم. ونزلاء تلك الطوابق لا يعرفون ماذا سيحدث لهم. ففي كل شهر ينتقلون من طابق الى آخر على نحو عشوائي، لكننا نعرف أن طوابق الأثرياء في الأعلى والفقراء في الأسفل. ويمكن أن يتبول الذين في الأعلى أو يبصقون أو حتى يتبرزون على مائدة الطعام التي تقع في الزنزانة الموجودة تحتهم مباشرة.
من هو غورينغ هذا؟ ومن هو زميله؟ غورينغ الذي لا يوحي اسمه المختار قط بحقيقته قد يكون من المؤمنين بالاشتراكية. إنه نموذج المثقف الذي يقترح في البداية، توزيع الطعام بالتساوي، فيتطلع إليه رفيقه الفظ في دهشة واستغراب: هل أنت شيوعي؟ وغورينغ سينحاز أيضا إلى الجانب الضعيف: المرأة التي جاءت الى هذا المكان الغريب فقط من أجل العثور على ابنها الطفل المحتجز لسبب لا ندريه. وهي تهبط وتصعد بين الطوابق الجهنمية التي لا نهاية لها، فوق تلك المائدة التي تتدرج في الصعود والهبوط من خلال ما يشبه مصعد تديره قوة خفية لا نراها قط. وعندما نرجع في فلاش باك يتكرر مرة أو مرتين عبر الفيلم، الى غورينغ وهو يمر بما يشبه الاستجواب من جانب امرأة تعمل لحساب هذا البرج الغامض، سرعان ما نرى أن هذه المرأة ستصبح بدورها نزيلة أو رفيقة الزنزانة مع غورينغ. فبعد 25 سنة في خدمة “المؤسسة” جاءت طواعية لتقضي أيامها الأخيرة بعد أن فشلت في مقاومة السرطان.
إننا أمام رؤية عبثية عن المصير الإنساني. هناك بحث مرهق عن التفوق، عن تحقيق الخروج والانعتاق من تلك الآلة الجهنمية، من الطوابق السفلى إلى الطوابق العليا بحثا عن النجاة، عن البقاء الذي يرغم الكثيرين على تناول اللحم البشري لقلة الطعام الذي توفره “الإدارة” الخفية التي تحكم وتتحكم في اللعبة بأسرها، واللعبة تبدو أبدية، لا مخرج منها. هنا سيتعين عليك أن تقتل أو تُقتل، فالتشكك يسيطر على الجميع، والبحث عن الحقيقة هدف بعيد المنال، فالحقيقة تبدو أبعد كثيرا من أي خيال.
هناك شخصيات من أجناس مختلفة، من السود والبيض والصينيين والهنود، العملاق القوي المفتول العضلات الذي يستخدم القوة والعنف للنفاذ عبر الطوابق المختلفة مع حليفه غورينغ، والحكيم الطاعن في السن، الذي يفسر الإشارات وينصح باتباع التعاليم الحكيمة التي سرعان ما يثبت عدم جدواها، وحتى رمز البراءة، الطفل، الذي كان يُعتقد أنه لا وجود له في هذا المكان الغريب، سيعثر عليه غورينغ ورفيقه في الطابق الأسفل، لكن لا يبدو أنه سيكفل النجاة لبطلنا “المثقف” الذي سيصبح مثل دون كيشوت، يصارع طواحين الهواء حتى النهاية!
هذا مكان للاختبار أكثر منه للإصلاح والتهذيب. والفكرة المتكررة في الفيلم هي فكرة البقاء للأقوى، لمن يمكنه أن يتغلب على الآخر ويقهره بل وإذا اقتضى الأمر أيضا، أن يقتله ويأكل جثته. هناك الكثير من المفاجآت والمناظر المفزعة والمقززة المقصودة للتعبير عن قسوة المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي وضراوته وخاصة انعكاس “القمع الاستهلاكي” على الفقراء، مثل القتل والخنق وقضم اللحم البشري الحي والانتحار والشنق والدماء المتفجرة والأمعاء التي تبرز من الجسد المقتول، وبقر البطون.. الخ لكن المشكلة أن المتفرج سرعان ما سيدرك المغزى الرمزي الكامن وراء هذا المزيج من المشاهد، ولا يجدي أن يصبح التكرار سمة غالبة على الفيلم، كما يفقد الفيلم قوة ايقاعه وقدرته على المفاجأة، بعد أن أصبحت لعبة المخرج غالدر غاتزيلو أوروتيا Galder Gaztelu-Urrutia واضحة المعالم، ومن دون أن يصل المتفرج الى شيء في النهاية، فالفيلم رغم طرافة فكرته، والتنفيذ الممتاز للكثير من مشاهده، ينتهي نهاية أقل كثيرا مما توحي به بدايته القوية. ولكن لعل ما يجعله عملا جديرا بالمشاهدة إلى جانب قوة الخيال، الأداء التمثيلي القوي من جانب مجموعة الممثلين جميعا، وخاصة إيفان ماساغي في دور غورينغ، وزوريان ايغيليور في دور “تريماغاسي”.