“المسافات بيننا”.. والمسافات الإنسانية أبعد من الفضاء
محمد كمال
سلوفينيا ليست من الدول صاحبت الإنتاج السينمائي الغزير لكن أفلامها القليلة أصبحت حاضرة بقوة في المهرجانات المصرية في السنوات الأخيرة ففي العام الماضي حصل الفيلم السلوفيني “جسد ضئيل” للمخرجة لورا ساماني على جائزة الهرم الفضي في مهرجان القاهرة السينمائي، وهي ثاني أرفع جوائز المهرجان، وفي هذا العام يتواجد في المسابقة الرسمية للدورة الـ 38 لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط الفيلم السلوفيني “المسافات بيننا” أو “The Space Among Us” وأيضا للمخرجة راحيلة جاكريك بريك التي تقدم تجربتها الأولى في الأفلام الروائية الطويلة بعد فيلمين قصيرين وآخرين تسجيليين، شوارك في بطولة “المسافات بيننا كولجا شيليما بوديسان وإيفو بارسيك ومانكا دورير.
أهم ما يمميز الإنتاج السلوفيني في الأعوام الخمس الأخيرة التحول الذي حدث في مضمون تلك الأعمال التي كانت في السابق معظمها يتخذ فترات الحرب والإنفصال عن يوغوسلافيا كركيزة أساسية للطرح أما الوضع الآن مختلف قليلا فقد بدأت تظهر أفلام على الساحة تتحدث عن الواقع السلوفيني نفسه ومنها أفلام تبتعد عن العاصمة وتبدأ في تقديم أزمات الريف السلوفيني على غرار فيملي “جسد ضئيل” وفيلم “المسافات بيننا” الذي تدور أحداثه في قرية صغيرة بعيدة عن العاصمة ليوبليانا حيث يبدأ الفيلم بعودة كرستينا وابنها توبي إلى الوطن بعد سنوات من الحياة في كندا.
بالنظر إلى عنوان الفيلم وتحديدا كلمة “Space” كان التساؤل هل الكلمة تشير إلى المسافة أم إلى الفضاء وبمرور الأحداث نكتشف أن المخرجة تشير إلى الاثنين معا، فالأساس بالنسبة لها المسافات الإنسانية في العلاقات البشرية التي زادت بمرور الوقت وأصبحت أبعد من المسافة بيننا وبين الفضاء وهو اختيار ذكي دراميا ودعمت المخرجة رؤيتها بوجود شخصية العجوز هيرمان الذي يمتلك مرصدا صغيرا حيث يمتلك أجهزة التليسكوب البسيطة التي حصل عليها بعد التقاعد لظروف فقدانه بصره وانعزاله عن أهل القرية وتعاملهم معه على أنه شخص مختل.
في الظاهر تبدو عودة كريستينا وابنها إلى الوطن فترة راحة قصيرة حيث تحججت كريستينا بأنها ستقيم معرض لوحات فنية لها للمرة الأولى في مسقط رأسها لكنها في حقيقة الأمر هروبا من تبدل أحوال حياتها في كندا بعد أن تراجعت علاقتها مع زوجها فلم تجد سوى الفرار قليلا من تلك العلاقة والهروب إلى الموطن الأصلي أملا في مساعدتها للخروج من أزمتها النفسية وعودة قدرتها الإبداعية من جديد وتقريب المسافات أكثر في علاقتها بابنها توبي الذي يبدو أنه أقرب إلى والده عكس والدته.
تعد المسافات البطل الأساسي للحبكة فهي التي تتحكم في كل شيء، وهي التي فرضت الواقع الحالي طبقا لماض سابق عندما تركت كريستينا سلوفينيا لشعورها بوجود مسافة كبيرة في علاقتها بوالدتها وحبيبها السابق أندريه مما جعلها تختار البعد المكاني أيضا وهاجرت إلى كندا التي فيها دخلت صراع الحياة الرأسمالية السريعة التي جعلتها بمرور الزمن تفقد قدرتها الإبداعية كرسامة ووجدت أيضا أن المسافات أصبحت بعيدة بينها وبين ابنها وزوجها الذي بدأت شهرته تزيد كأحد أهم خبراء الطهي في تورنتو وزادت فترات غيابه عن أسرته.
أما الابن توبي فهو لم يختار وضع مسافات بينه وبين والدته لأنها موجودة بشكل أساسي وفق طبيعة العصر التكنولوجي الحديث حيث المكوث أمام شاشات الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر لساعات وتلك النقلة الحضارية صحيح قربت المسافات في بعض الأمور خاصة الاتصالات لكنها في المجمل جعلتنا أكثر بعدا عن بعضنا وعن أنفسنا، ولأن توبي في الأساس يرفض فكرة السفر إلى سلوفينيا حتى وان كان الأمر مجرد عطلة صيفية مما جعل المسافات تزيد أكثر مع والدته.
هيرمان العجوز الكفيف الذي فقد بصره بسبب تعلقه الشديد بالعمل في المرصد وعشقه للفضاء مما جعله لا يهتم بمعالجة عينه إلى أن فقدهما تماما اختار أيضا أن يضع مسافات بينه وبين أهل القرية من خلال الحياة في منزل قديم متهالك على أطراف القرية وترك جيرانه يعتقدون أنه مجنون ويقومه باختراع الحكايات الأسطورية عنه، ونفس الشئ لوالدة كريستينا رغم انها ظاهريا تبدو قريبة من الجارة يانا التي تزوجت أندريه بعد ان ترك كريستينا لكن في نفس الوقت جيزيلا الأم تضع مسافات في علاقتها مع جارتها مع يانا التي تبدو وكأنها في حالة من التسلط الدائم على الآخرين.
فيلم في ظاهره يبدو هادئ لكن في تفاصيله وأحداثه يمتلك زخما كبيرا فعودة كريستينا وتوبي حركت المياة الراكدة في مسألة المسافات التي أصبحت بعيدة، في البداية يظهر الارتباك في هذه المشاهر خاصة في محاولة عودة الحب القديم بين كريستينا وأندريه من ناحية وبين محاولات تقريب وجهات النظر بين كريستينا ووالدتها من جهة أخرى، أما توبي فيدخل في مسارين جديدين الأول قصة حب مع فتاة سلوفينية تدعى تاجا اختارت هي أيضا وضع مسافات بينها وبين الجميع بسبب أن والدها ووالدتها يعملان بالسياسة في العاصمة وأهل القرية يتحدثون عن الأمر بسخرية لهذا فأن تاجا ارتضت بصداقتها بثلاثة أولاد من المشاغبين والمتنمرين حتى تبتعد عن أهل القرية قليلا.
أما المسار الثاني لتوبي في سلوفينيا فكان اكتشافه شخصية هيرمان واقترابه من مرصده ومشاهدة الفضاء عن طريق التليسكوب الكبير الذي يملكه هيرمان الذي بدأ بدروه الكشف لتوبي عن أدق التفاصيل المتعلقة بكيفية استخدام التليسكوب، ومن هنا واكتشف توبي أن الفضاء السحيق المكتسي بالسواد ليس فقط أجمل وأفضل على المستوى الشكلي لكنه أيضا على الجانب المعنوي أفضل بمراحل من فضاء المسافات التي أصبحت تفرضه الحياة على علاقته بوالدته وجدته حتى مع أصدقائه سواء في كندا او حتى مجموعة المتنمرين الذين التقى بهم في الوطن.
مثلما كانت سلوفينيا هي الحل الأمثل للوالدة كريستينا للهرب من مشاكلها الحياتية كان المرصد هو الملجأ الجديد للابن توبي أولا لاكتشاف ذاته ونمو قصة حبه وثانيا يهرب من خلاله من مسألة المشكلات الأسرية وتخطيط والديه للطلاق الذي اكتشفه بعد السفر من كندا، وعلى الجانب الآخر أصبح كل من كرستينا وتبي يمثلان “المخلص” للآخرين فقد أقتنعت الجدة جزيلا بضرورة تحسين العلاقة مع ابنتها وعودة استقرار العلاقة بين الزوجين يانا وأندريه، وأيضا العجوز هيرمان الذي اتخذ الخطوة الأولى نحو التغيير وقرر التبرع بمعدات الفضاء الخاصة به للأحد المراكز العلمية حتى يستفيد منها الجميع وفي الغالب سيتخلى عن عزلته رغم أن الفيلم لم يشير لهذا بشكل صريح لكنه أعطى ومضات عن طريق استعانة هيرمان بالثلاثي المتنمرين لمساعدته في نقل الأدوات وتنظيم المكان.