الحراك العربي وسينما العرب في مهب الريح!

Print Friendly, PDF & Email

في مهرجان الرباط لسينما المؤلف


مهرجانات السينما ليست ساحات لعرض الأفلام فقط، ولا لتسويقها والترويج لها، بل لمناقشة المفاهيم والقضايا السينمائية التي تنتج مما يدور في الواقع وما تصوره الأفلام، وقد ينعكس بالسلب أو بالإيجاب على كل من الأفلام والواقع.

إن وجود نقاد السينما في المهرجانات السينمائية الدولية ليس نوعا من الترف، كأداة للكتابة أو نقد الأفلام وهو ما أصحبت تضيق به الصحف العربية على كل حال، وتتقلص باستمرار المساحات المخصصة للنقد السينمائي التحليلي، وهو ما يجعل تلك الصحف مساهمة بذلك، في تراجع الاهتمام النخبوي – ولا نقول الجماهيري- بالفيلم وثقافة الفيلم. وجود النقاد مهم لدفع المناقشات التي تدور في المهرجانات من خلال اندوات النوعية المتخصصة، في إتجاه علمي منهجي يقوم على المعرفة وعلى الفكر السينمائي الذي لا يتحرك وحده في الفراغ بطبيعة الحال، بل يشتبك مع الفكر السياسي والاجتماعي ونظريات علم الجمال.

أخطأت بالأمس حينما ذكرت أن مهرجان الرباط لسينما المؤلف المقام حاليا في العاصمة المغربية، ألغى الندوة التي كانت مخصصة لمناقشة “الحراك العربي”- هكذا أطلق المنظمون عليه بدلا من التسمية التي أصبحت مبتذلة أي “الربيع العربي”- وتأثير ذلك الحراك على الفيلم العربي والسينما العربية، وكيف كانت الصورة قبله ثم كيف أصبحت بعده.

وقد اعتذرت من الأصل عن المشاركة في الندوة كمتحدث رئيسي بعد أن أبديت بعض التحفظات على طبيعة الموضوع مع تشككي في أن الحديث يمكن أن ينجرف نحو تمجيد ما يسمى بـ”الثورات العربية” والمغالاة في تأثيرها على “السينما” وأنا أضع كلمة السينما بين قوسين لأننا في الواقع أصبحنا نتكلم حاليا، ليس عن السينما التي نعرفها أو عن الفيلم السينمائي الذي يستند إلى تقاليد وأساليب متنوعة معروفة في الحكي بما في ذلك الفيلم التسجيلي أيضا، بل أصبحنا في الحقيقة، نتكلم عما يتم تصويره من صور ولقطات من الساحة السياسية اليومية، على شرائط الفيديو الرقمية كيفما أتفق، تحت تصور ساذج أن التقاط الصورة الآنية أهم كثيرا من الإنتظار إلى حين القدرة على “عقلنة” الصورة والبحث الحقيقي العميق في مغزاها وفي علاقتها بغيرها من الصور، وما يمكن أن تنتجه من “تأثير”!

أقيمت الندوة بالفعل صباح السبت، وحضرت وتورطت فيها كالعادة، “ورطني” الصديق الناقد خليل الدمون، رئيس جمعية نقاد السينما في المغرب الذي أدار الندوة بكفاءة. وكان المتحدثون الرئيسيون فيها كل من الناقد الفلسطيني بشار إبراهيم، والناقد المغربي مصطفى المسناوي، والناقد التونسي كمال بن وناس. وقد حضر أيضا المخرج التونسي الناصر خمير الذي أثرى النقاش بمداخلته العميقة.

كان مما أسعدني وجود مجموعة كبيرة من طلاب وطالبات الجامعة الذين استمعوا جيدا وسجلوا باهتمام واضح ملاحظاتهم على ما يقال. كما حضر الناقد المغربي عادل سمار ومدير المهرجان حمادي كيروم، والناقد آيت عمر المختار وآخرون لا أعرفهم بالأسماء، ولكن غاب بالطبع أصحابنا من “شلة الأنس والفرفشة” من ذوي الاهتمام الأساسي بـ”شد الأنفاس” وأشياء أخرى!

وقد يتساءل البعض وما علاقة “شد الأنفاس” بما نحن فيه هنا؟ وأقول لهم: إن شد الأنفاس فن “عبقري” يوفر لأصحابه راحة البال والهروب الطويل من الواقع ومن الأحداث المتلاحقة ووجع الدماغ الذي تأتي به المهرجانات أحيانا، وهو فن يمارسه الكثير ممن أعرفهم من السينمائيين (بعضهم من المرموقين) للهروب من الثقافة ووجع الدماغ تحت تصور أن الفنان في حاجة إلى مساحة للتأمل والاستلهام.. وأشياء أخرى!

يوسف شاهين

أتذكر الآن أن المخرج يوسف شاهين هوجم هجوما عنيفا عندما صرح في عام 1985 لمجلة سينمائية بريطانية مازلت أحتفظ بعددها هذا حتى الآن، بأن تقاليد العمل في السينما أصبحت تشعره بالقرف الشديد، وأن السينمائيين لا يستطيعون العمل إلا بعد تدخين الحشيش وأنهم يعطلون العمل ويذهبون لتدخين الحشيش في أركان الاستديو بين فترات التصوير. وكنت من الذين غضبوا وقتها من شاهين ورفضت حديثه هذا واعتبرته نوعا من المبالغات التي قصد منها الادعاء أمام الغرب بأنه “مختلف” يعمل من خلال تقاليد “مختلفة”.. إلى أن تجسد هذا الواقع المخيف مرات عديدة أمامي.

أعود إلى ندوة السينما والحراك العربي، فأقول إنه على العكس مما كنت أتصور، جاءت مداخلات معظم الحاضرين تحمل تشككا في أن يكون ما وقع ولايزال يقع في العالم العربي، قد ترك تأثيرا إيجابيا على السينما.

الناقد بشار ابراهيم قام في البداية، بالإشادة باختيار الندوة لتعبير “الحراك” بدلاً من تعبير “الثورة”، أو “الربيع العربي”، لأنه بعد مرور كثير من المياه من نهر الأحداث الجارية منذ ثلاث سنوات، بات من الصعب الركون بسهولة واطمئنان إلى تلك التعابير.

ثم تحدث عن تحولات جوهرية حدثت خلال سياق “الحراك”، حيث بدأ في حقل السياسة من خلال محاولة إعادة تنضيد العلاقات السياسية السائدة في المجتمعات، ما بين حكام ومحكومين، على قاعدة الشعار العريض “الشعب يريد”، الذي عبر حينها عن رغبة في التخلص من أنظم استبدادية شمولية، أمضت سنوات طويلة في الحكم (مبارك أمضى في الحكم 30 سنة، وبن علي 23 سنة، وحافظ الأسد ثم ابنه بشار 40 سنة).. ولكن المفاجئ أن “الحراك” انتقل في مرحلة تالية إلى الحقل الفكري الأيديولوجي، خاصة مع صعود قوى إسلامية يمينية محافظة إلى سدّة الحكم، عبر صناديق الانتخاب، أو هيمنة القوى المسلحة الإسلامية المتشددة (النصرة، داعش، في سوريا)، الأمر الذي يعتبر مفاجأة حقيقية، إذ بدل أن يأتي “الحراك” بقوى ثورية تقدمية صاعدة تاريخياً، وجدنا حدوث ما يمكن أن نسميه “نكوصاً تاريخياً” من خلال قوى محافظة سلفية.

انتقل بشار ابراهيم بعد ذلك إلى الشأن السينمائي.. فقال: ربما كان من اليسير على السينما، تناول “الحراك” خلال السنة الأولى، إذ كانت التقسيمة على قدر من البساطة، ما بين ثورة وفلول، أو مؤيدين ومعارضين، وبناء على هذا شاهدنا العديد من الأفلام (ذكرت منها أفلام: 18 يوماً، التحرير 2011، لا خوف بعد اليوم، نصف ثورة، ميدان التحرير).. بينما أصبحت اللوحة اليوم أكثر تعقيداً وغموضاً (ذكر مثلاً: ما جرى في 30 يونيو، هناك من يراه ثورة شعبية، وهناك من يراه انقلاب عسكري، وهناك من يراه ثورة شعب مدعومة بانقلاب عسكري، وهناك من يراه انقلاباً عسكرياً بغطاء شعبي).. وانتهى إلى القول بأنه يعتقد أن السينما سوف تحاذر مقاربة “الحراك” قبل اتضاح معالمه وتخومه واتجاهاته التاريخية.

أما الناقد مصطفى المسناوي فقد أبدى الكثير من التحفظ على قيمة ما ظهر من أفلام تسجيلية يرى أن معظمها أقرب ما يكون إلى الريبورتاج، وأنها تعاني من البدائية والافتقاد للحس الاحترافي بل وللصنعة الجيدة، وأنه ليس من الممكن التعبير في الأفلام الروائية عن الأحداث الثورية الآن بل يجب أن تمر سنوات قبل أن يتجلى الخيال الفني ويبدع أعمالا روائية درامية.

وكان كمال بن وناس قد أعد مداخلة باللغة الفرنسية إلا أنه قرر أن يتكلم بالعربية وقدم كلمة رائعة سلسلة ومفهومة تماما، وحذا حذوه بعد ذلك المخرج الناصر خمير الذي تشكك في البداية في امكانية أن تسنده اللغة العربية فيما يريد التعبير عنه، إلا أنه بدوره أبدى فصاحة وطلاقة عندما بدأ يتكلم بالعربية.

وهنا أتوقف لكي أتساءل: لماذا يحجم زملاؤنا في بلدان المغرب العربي (سأستثني هنا الجزائر لأنها حالة خاصة جدا) عن الحديث بالعربية في تظاهراتهم السينمائية وغيرها ويفضلون الحديث بالفرنسية؟ كان الناصر خمير شجاعا حينما عبر عن شعوره بنقص ما في اللغة العربية وفي فقدانها القدرة على التعبير الدقيق عن الأشياء، وأن الفرنسية تطورت لكي تستوعب العلوم الحديثة فيما توقفت العربية عن التطور.. وهو ما لا أتفق فيه معه، فنحن، أي من يكتبون بالعربية، هم الذين يطورون التعبير باللغة العربية، والاستسلام للغات الأجنبية بزعم أنها الأقدر، هو زعم خاطيء أولا، وثانيا يساهم في تخلف التعبير بالعربية بسبب هدرنا لها وتوقفنا عن الابداع بها.

كنت قد قضيت فترة في الجزائر في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ولاحظت أنه عند مناقشة أي موضوع ذي طابع فكري أو ذهني أو ثقافي مع مثقف جزائري، سرعان ما بلجأ هو إلى استخدام الفرنسية. وفي الحالة الجزائرية يكون هذا مفهوما لأن كلمات ومصطلحات مثل الحداثة وما بعد الحداثة والعصرنة والعقل النقدي والرؤية الجمالية والموقف الفكري..إلخ كل هذه الكلمات مرادف عربي في عقل المثقف الجزائري صاحب التكوين التعليمي الفرنسي. ولابد أن يكون المثقف قد قطع بنفسه شوطا طويلا في القراءة وتطوير ثقافته ومعارفه باللغة العربية حتى يمكنه فهم واستيعاب والتعبير باستخدام مفردات ومصطلحات من النوع الذي ذكرناه. مازال تعليم الفلسفة الحديثة يتم بالفرنسية، ناهيك عن الدراسات الأدبية والسوسيولوجية وغيرها. وبشكلعام الاعتقاد السائد هناك هو أن اللغة العربية ليست لغة للفكر الحديث والفلسفة الحديثة بل مجرد لغة بسيطة لتسير الحياة اليومية، وأداء الصلوات وما إلى ذلك.

الأمر أقل حدة بالتأكيد في كل من تونس والمغرب رغم وجود الكثير من السينمائيين في هذين البلدين الذين لا يمكنهم التعبير الصحيح باللغة العربية، بل تستخدم العربية عادة كوسيلة للتعاملات اليومية البسيطة مثل تبادل السلام والتحية والدعاء والسؤال عن الأهل وما إلى ذلك. وينظر الكثير من المثقفين في بلدان المغرب العربي عموما إلى اللغة العربية باعتبارها لغة الجامع أو لغة الدين. وقد وصف المخرج الناصر خمير الثقافة الإسلامية بأنها ثقافة “شفوية” أي تعتمد على الخطب والمواعظ الأخلاقية المستمدة من السيرة والحديث. وهو في ذلك محق إلى حد كبير. في حين يرى مصطفى المسناوي أن الاسلاميين استخدموا الصورة منذ أوائل الثمانينيات ولكن في نشر أفكارهم، ويعود ليتفق على أن الصورة كرست أيضا لنشر الفكر السلفي مثلا على نحو شفوي. وهذا صحيح فمن الممكن أن يكونوا قد استخدموا تسجيلات مصورة على أسطوانات مدمجة للشيخ الشعراوي أو الشيخ كشك مثلا أو لأئمتهم ودعاتهم الجدد، ولكن الصورة هنا أصبحت كل وظيفتها أن تظهر لك الشخص- الذي يقال له “الداعية” وهو يتكلم.. أي أن الخطاب يظل بالفعل شفويا كما يشير خمير.

من هنا تأتي فكرة معاداة الصورة لأنها تكشف الحقيقة، أو اقتناص نصف الحقيقة فقط. يلاحظ كمال بن وناس في مداخلته مثلا الغياب التام للجانب الآخر من الصورة، جانب السلطة المهزومة المنسحبة.. ويتساءل” لماذا لم تظهر أبدا صورا لزين العابدين بن علي وهو في المطار أو وهو يلملم أغراضه هو وأسرته في القصر الرئاسي؟ بل ولماذا لم نر صورة بورقيبة وهم يحملونه ويغادرون به القصر الرئاسي في انقلاب 7 نوفمبر 1987؟ ويتشكك في الصور التي نراها اليوم للمظاهرات والتي يرى أنه توضع عادة في سياق “دعائي” وليكن هنا دعائي للثورة أو للحراك المناهض للسلطة لكن قيمتها تظل محدودة بسبب انحياز صاحبها لجانب محدد في الصراع. ويضرب خمير مثالا آخر على قدرة العين الغريبة- لمصورة ايطالية- على تقديم الصور الأفضل والأكثر تعبيرا وقوة، بسبب حيادية نظرتها من البداية وأنها أقدمت على تصوير الحدث الثوري ليس لأنها جوء منه، بل لشعرها بأهميته من الزاوية الاحترافية، دون أن ينفي هذا تعاطفها معه.

من جانبي أنا رأيت أن ما يحدث في مصر وتونس وغيرهما ليس بثورة

بل انتفاضات شعبية واسعة تخلق حالة ثورية لكنها لا تصل أبدا خلال 3 سنوات إلى فعل الثورة بالمفهوم التاريخي الذي نعرفه، أي وجود كتلة جماهيرية منظمة لها أهداف واضحة وقيادة تطيح بالنظام القديم وتستولي على السلطة لتقيم نظاما جديدا ثوريا ينفذ برنامجها، بل وحتى المعارضة التي نراها تزعم أنها أسقطت النظام القديم وتولت السلطة بعده أي المعارضة الاسلامية، هي معارضة من نفس النظام وليست تلك المعارضة الراديكالية الثورية المضادة جذريا للنظام ولذلك فإنها تعيد إنتاج نفس النظام مع تغيرر اللافتة أو اليافطة، وتعد بعمل- أو تقوم بالفعل- بعمل بعض الاصلاحات المحدودة التي لا تمس العمق أبدا أو تسقط النظام القديم. ومن هذا الالتباس تتكرر الانتفاضات لأن الثورة ليس من الممكن تاريخيا، أن تأتي بقوى إلا أن تكون تقدمية تريد نقل المجتمع إلى الأمام وليس قوة رجعية محافظة كما رأينا، وعندما تعجز الجماهير عن الاطاحة بالقوة الرجعية الحاكمة فإنها تطلب تدخل المؤسسة العسكرية وترغمها على العودة إلى الشارع لكي تتولى تغيير السلطة مع الابقاء على النظام في مجمله وعدم مس جذوره العميقة التي صنعت البؤس والتفاوت بل والخراب الاجتماعي عبر عقود طويلة. ويقود هذا الالتباس في المشهد السياسي إلى التباس في المشهد السينمائي أيضا، فالسينمائي لم يعد يعرف ما الذي يجري- وهو ما عبر عنه بشجاعة ووضوح الناقد التونسي كمال بن وناس- الذي قال إنه رغم كل ما حصله من معرفة ورغم أنه يبحث بدأب وبتابع كل ما يحدث حوله يوما بيوم، إلاأنه مازال غير قادر على فهم ما يجري بشكل كامل.

قلت أيضا إننا – نتيجة لهذاالعجز عن اسقاط النظام القديم- أصبحنا محاصرين بين الفاشية الدينية التي تحتكر الحقيقة باسم الدين، والفاشية الوطنية التي تحتكر الحقيقة باسم الوطن.

هل من الممكن بعد هذا أن نتحدث عن “سينما” أخرى.. ثورية ظهرت؟ هل هذه الموجة من أفلام الفيديو التي تلتقط، على نحو عشوائي، كل ما تجده أمامها، تكسر القيود المفروضة على الفن ولكن دون أن تطرح رؤية أو فلسفة بديلة تتجسد في نسق للعلاقة بين الصور واللقطات وما يمكن أن يستنبطه المتفرج من دلالات،أي تخلق لنفسها قواعد جديدة ولا تتحرر فقط لكي تسقط في الفراغ العشوائي، أم أننا أمام ظاهرة توالد واعادة انتاج متكرر لنفس النمط: الشارع في حالة انتفاض، انتفاضات الغضب الجماهيري التي تبحث عن زعيم أو عن مخلص، قد يكون هو المهدي المنتظر أو المسيح- لا يهم؟ هل صحيح كما يقول بن وناس أن الثقافة الاسلامية ثقافة البحث عن الغفران، أي غفران الذنب بشكل بسيط ومضمون من خلال الحج أو الدعاء في ليلة القدر مثلا؟ في حين أن الثقافة المسيحية تقوم على محور الاحساس بالذنب.. ذنب ترك المسيح يصلب؟!

كل هذه الأفكار وغيرها: حول قدرة الشعب على أن ينتج قوة في اتجاه التقدم وليس أن يأتي، حتى من خلال صناديق الانتخاب، بقوة بديلة معادية للتقدم والحداثة بطبيعة تكوينها، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في اعتبار أن اختيارات الشعب هي اختيارات تقدمية دائما!

والحكاية مستمرة.. والتفكير في مغزى ما يحدث مستمر…

Visited 18 times, 1 visit(s) today