“القدس العربي”: السينما وسيلة لتصفية الحسابات السياسية


كتب كمال القاضي في جريدة “القدس العربي” مقالا بعنوان “السينما وسيلة لتصفية الحسابات السياسية” تناول فيه كيف استخدمت السينما المصرية في تبرير السياسات في الماضي وكيف يرغب نظام حكم الإخوان المسلمين حاليا في إستعادة التقليد القديم…



في منتصف السبعينيات ظهرت موجة من الأفلام السياسية كان الهدف منها تصفية الحسابات مع حكم عبدالناصر وما أسماهم السادات بمراكز القوة، الفيلم الأشهر من هذه الأفلام كان ‘الكرنك’ للمخرج علي بدرخان والنجمان الكبيران نور الشريف وسعاد حسني، فقد دارت الأحداث حول ممارسات التعذيب والقتل في سجون صلاح نصر وتلفيق التهم للناشطين السياسيين لحملهم على الاعتراف بتشكيل بتنظيمات سرية تعمل لقلب نظام الحكم ومن ثم تبرير ما يتم ضدهم من جرائم إنسانية.


كان الهدف أفلام مثل الكرنك وثلاثة على الطريق وحافية على جسر الذهب إقناع الشارع المصري والعربي بأن ما كان يحكم في فترة الستينيات هو نظام صلاح نصر التخابري وليس جمال عبدالناصر، وذلك للتمهد لقبول المتغيرات السياسية والاجتماعية التي أعد لها السادات لتكون عنوان المرحلة الجديدة، حيث الانفتاح الاقتصادي والاتجاه نحو أمريكا وإسرائيل وإبرام معاهدة كامب ديفيد.


في فيلمي “ثلاثة على الطريق”و”حافية على جسر الذهب”قدم الفنان القدير عادل آدهم نموذج رجل المخابرات صاحب النفوذ الذي يستقوى على البسطاء ويستبد بهم ويبطش بمن يحاول رفع رأسه ويقاوم ولو من بعيد، كان عادل إمم هو الضحية التي جعل منها عادل أدهم عبرة أمام شمس البارودي الزوجة التي ارتكبت اكبر حماقة في حياتها عندما تمردت للحظات وفكرت في البحث عن إنسان آخر طبيعي تعيش معه قصد حب بعيداً عن حياتها مع السجان خلف الأسوار العالية.


على مدى ساعتين تقريباً تناول فيلم ‘اثنين على الطريق مثالب فترة الحكم البوليسي إلى أن جاء عصر الحرية بعد تولي الرئيس السادات زمام البلاد تغيرت الأحوال وهُدمت المعتقلات وتنفس الشعب الصعداء وعم الرخاء البلاد ونزلت تترت النهاية الدرامية إيذانا ببدء عهد جديد، هكذا كان الهدف والمغزى والمعنى من قصة الحب الرومانسية وعذابات البطلين في زمن الحديد والنار!


لم يكتف صُناع السينما الموالين لنظام ما بعد عبدالناصر بالأفلام المذكورة ولكنهم عملوا على تأكيد مشروعهم الفني الساعي إلى تشويه المرحلة الناصرية بكل رموزها فانتجوا فيلماً آخر هو “إحنا بتوع الاتوبيس”لتستمر فيه القراءة للواقع الستيني على نفس المنوال وتستبدل فيه شخصية كمال الشناوي في الكرنك وعادل أدهم في الفيلمين سالفي الذكر، اثنين على الطريق و”حافية على جسر الذهب”بالفنان سعيد عبدالغني فهو من أسند إليه دور الضابط الشرس ليوحي بشخصية صلاح نصر في تكرار ممجوج وممل للحدوتة إياها، حيث استنباط الأفكار والدلالات المغرضة من بين السطور والمشاهد والجمل الحوارية وحركة الممثلين وزوايا الكاميرا والديكور والاكسسوار والموسيقى لتصويرية والإضاءة، أي أن جميع الأدوات الفنية كانت موظفة توظيفاً دقيقاً لخدمة الهدف الرئيسي ألا وهو طمس كل جماليات الفترة الناصرية وانجازاتها بالتركيز على السلبيات والمبالغة فيها لتثبيتها في ذهن المشاهد كعنوان رئيسي تتوارى خلفه كل الايجابيات.


وبرغم قبول الجمهور بأفلام وجهت نقداً حاداً للدولة في أعقاب نكسة 67 مثل أغنية ‘على الممر’ وأبناء الصمت إلا أن العكس هو ما حدث لأفلام التشفي والدعاية السيئة التي أنتجت بتوجيه خاص من أجهزة الدولة في فترة السبعينيات، فقد تنبه النقاد والجمهور إلى اللعبة السياسية وتم تقييم الأفلام في إطارها الدعائي وليست كأعمال سينمائية وثائقية يمكن الاعتداد بها.


الآن وبعد مرور سنوات تقع السينما في نفس الإشكالية، حيث احتمال انتاج أفلام تتناول المشكلات القائمة وترصد ما يقع من أحداث وجرائم تتم تحت سمع وبصر الحكام الجدد، فليس منطقياً أن تمر وقائع السحل والقتل والضرب مرور الكرام دون ان تسجلها السينما، ومثلما خرجت أفلام توثق لأيام الثورة الأولى مثل “18 يوم”، و”موقعة الجمل”، وصرخة نملة وغيرها ستخرج بالقطع أفلاماً أخرى تكشف الكثير من الحقائق الغائبة وتميط اللثام عن الغموض الذي يكتنف المشهد السياسي الآن.


واتساقاً مع هذه الفكرة صرح المخرج خالد يوسف منذ أيام بأنه ارتكب خطئاً كبيراًَ عندما انشغل عن السينما بالسياسة طوال العامين الماضيين مؤكداً أنه سيعود مجدداً للتعبير عن آرائه من خلال الإبداع فذاك أفضل وأبقى حسب قوله ورؤيته الأخيرة.


ما صرح به خالد ربما ليس بعيدا عن تفكير مبدعين آخرين مهمين كداود عبدالسيد وخيري بشارة ويسري نصر الله وجيل أصغر من المخرجين يرون أن تلاحق الأحداث وإيقاعها السريع يستدعي إبداعاً موازياً يتضمن التفاصيل الصغيرة والكبيرة في الواقع الذي بات مليئاً بالمتناقضات على مستويات عديدة مختلفة، وتأكيدا لوجهات النظر هذه بدأت بالفعل بوادر لمحاولات فنية تستلهم موضوعاتها من يوميات المواطنين وتعرض صوراً لمعاناة البسطاء المتوالية في ظل حكومة هشام قنديل وسيطرة الإخوان المسلمين على مفاصل الدولة وهو التعبير الأكثر شيوعاً في وسائل الإعلام المعارضة والفضائيات المستقلة.


المحاولات تبدت في تجارب انتاجية قليلة التكلفة يتحمل نفقاتها المخرجون أنفسهم فهم يقومون بالتصوير والإخراج والمونتاج، من هؤلاء يوسف هشام صاحب الفيلم التسجيلي المهم اسطبل عنتر وشريف البنداري مخرج فيلم “صباح الفل”وحازم متولي وطارق أبو العلا وسميح منسي ونخبة متميزة ممن لهم توجهات سياسية ضد مبدأ السمع والطاعة.

Visited 15 times, 1 visit(s) today