الفيلم السعودي “مندوب الليل”: شتاء المدينة الطويل
حسن أبو مازن
على مدى التاريخ الطويل للسينما، تعامل مخرجون كثر مع سردية المدينة ووجهها المألوف أو الخفي، فكانت هناك روما “فيلليني” التي تختلف حتماً عن روما “أنطونيوني” أو نيويورك “وودي آلان” أو ووجهها الآخر كما رآه “سكورسيزي”.
من هذا المنطلق أسس المخرج السعودي “علي الكلثمي” سرديته الخاصة لمدينة “الرياض” وذلك من خلال فيلمه الروائي الطويل “مندوب الليل”.
الفيلم الذي عرض للمرة الأولى عالميا في مهرجان تورنتو 2023، ثم في السعودية في سبتمبر من نفس العام ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي، من إنتاج شركة “تلفاز 11” وشارك في كتابته محمد القرعاوي ومن بطولة محمد الدوخي وسارة طيبة وهاجر الشمري ومحمد الطويان.
الشخصية الرئيسية هي شخصية “فهد القضعاني”، مندوب توصيل الطلبات في الفترة المسائية كنوع من العمل الإضافي بجانب عمله الأساسي في إحدي شركات خدمة العملاء والتي يُفصل منها بقرار تعسفي من وجهة نظره.
“فهد” شاب محدود الدخل، يرعى والده المسن وأخته المطلقة التي تقيم معهم في نفس المنزل هي وابنتها الصغيرة. ومن بداية الفيلم يسهل على المشاهد ملاحظة المشاعر المضطربة التي يعاني منها البطل وذلك من خلال طريقة معاملته للمحيطين به ومن خلال رؤيته الضبابية للأحداث.
يجوب فهد شوارع الرياض ليلاً بعيون مسهدة مضطربة يعاني من شتائها الطويل الذي لا ينتهي.. البطل هنا شخص رمادي لا شرير ولا طيب لا يعتنق فكرا تطهيريا مثل “ترافيس بيكل” بطل “سائق التاكسي” ولا يمكننا اعتباره شرير في المطلق حتى وإن خطط لسرقة زجاجات الخمور من العصابة وبيعها تحت ستار وظيفته كمندوب توصيل.. “مندوب” الكلمة ودلالتها اللغوية التي استهل بها المخرج فيلمه من خلال تعريفين مختلفين؛ فالدارج هو مندوب التوصيل الذي ينقل الطلبات من مكان لآخر، بينما التعريف الثاني يأتي من فعل “الندب” أو العويل لذا فالمندوب هو الشخص الميت أو تعيس الحظ.. وهو ما ينطبق تماما على “فهد” المندوب.
تناول الفيلسوف الألماني “جورج زيمل” في كتابه “متروبوليس والحياة الذهنية” ما يمكن اعتباره توصيفاً للمدينة الميتروبوليتان في شكلها الحديث، من حيث التوسع والتمدد أو من حيث أثرها على الفرد والمجموع، لذلك اعتمد “زيمل” في تحليله للمدينة على مقاربة ترى أن المدينة أسلوب معيشة وثقافة يشكلها الأفراد ونمط عيشهم وأن هذا النمط سيتمدد ويتسع ليشمل المجتمع ككل.
وإذا نظرنا لمدينة الرياض كمثال فإن التغيرات التي طرأت عليها منذ سبعينيات القرن العشرين سواءً من ناحية العمران أو من الناحية السيسيولوجية، كان لها الأثر الأكبر على حياة الفرد والمجتمع، فـ رياض الأحياء القديمة كـ “الديرة” و”البديعة” و”عتيقة” تختلف تماماً وكلياً عن رياض “العليا” و”المعذر” و”الخزامى”، وكذلك الأفراد هنا ليسوا كأفراد هناك.
وقد ظهر ذلك بشكل غير مباشر في رؤية “علي الكلثمي” لمدينته؛ قاتمة تحيا ليلاً أبدياً.. نراها من خلال عيون “فهد” المسهدة. لذلك كانت مشاهد الرياض مختلفة تماماً عن صورة المدينة التي نعرفها أو رسخت في أذهاننا، وأسست تلك المشاهد للطرقات المظلمة والمباني الصامتة رؤية المخرج لمدينته كما تمناها أن تخلد في ذاكرة المشاهد.
هنا يمكننا اعتبار تلك المشاهد والصور تتمة لرؤية فهد المشوشة عن المدينة وعن ناس المدينة فنراه لا يستطيع التفاعل مع زميلته السابقة في العمل ولا يأنس بالجلوس مع زملائها الجدد.. أو أفراد المدينة الجدد المختلفين عما رآه وعاشه في مدينته القديمة.
يقدم الفيلم نقداً اجتماعياً لمظاهر سلبية مثل التعنت والبيروقراطية كما حدث في مشهد التحقيق معه في العمل، أو في مشاهد سعيه مع والده القعيد لمحاولة سفر الوالد للخارج للعلاج وذلك عن طريق التماس المساعدة من أحد الوجهاء.. وهنا تظهر مرة أخرى هلاوس فهد حين يرى الموظف وهو يضع ملف والده في دولاب بجانب ملفات أخرى متشابهة فيدرك أن سفر والده مستحيلاً وهو ما سيثبت عدم صحته في نهاية الفيلم.
وبتحليل بسيط لشخصية البطل ندرك أنه من نوعية الشخصيات التي لا يمكنك أن تكرهها أو تحبها، بطل مأزوم محدود المهارة يوظف ذكاءه في غير محله، فعندما سنحت له الفرصة لكسب المال لم يفكر في مصدره أو تبعات سرقته لزجاجات الخمر. إنه يحمل في جنباته ميلاً فطرياً للإنحراف لا يشغله عفن المدينة بقدر ما تشغله مصلحته الشخصية وهنا نأتي للتعريف الثاني لكلمة “مندوب” وهو الشخص الميت أو المقصود بالرثاء.. فهد المندوب الذي فقد براءته وسار في طريق اللاعودة.
على جانب آخر يؤطر الفيلم شخصيات أخرى كـ “سارة” أخت فهد، التي تسعى للحصول على تمويل لمشروعها الصغير والذي يبدو في ظاهره مشروعاً طموحاً يحاول أن يرضي الذوق الاستهلاكي مع المحافظة على التراث في ذات الوقت. وهي فكرة تحمل قدراً كبيراً من النمطية حتى وإن بدا عكس ذلك. فحتى في تناوله للأشخاص العاديين يصر المخرج على تضمين نوعاً من النقد اللاذع للمجتمع ولكن بصورة ذكية وغير جارحة.
لا يمكن اعتبار “مندوب الليل” من نوعية أفلام الطريق حتى وإن كانت أغلب مشاهده في سيارة “فهد” أو في شوارع الرياض وطرقاتها، لكن رغم ذلك لا يمكننا تجاهل الظهور الجلي لسيارة البطل في تجواله الليلي.. من البداية للنهاية كانت السيارة بطلا آخر صامتا إلا في مشهد النهاية وركوب البطل لحافلة النقل العام.

للسيارات في المجتمع السعودي خصوصية يدركها الجميع، فهي ليست فقط وسيلة للتنقل والسفر، ولكنها وسيلة ترفيه أو حتى وسيلة استعراض كـفعاليات “التفحيط” مثلاً، في الفيلم هنا كانت ساعد البطل في وظيفتها كمندوب توصيل وكانت أيضاً طريقة هروب من عصابة تصنيع الخمور.
من الناحية الفنية لا يمكننا إنهاء المقال دون الحديث عن طاقم التمثيل الذي أجاد بشدة تحت قيادة مخرج مهموم بقضايا مجتمعه ويستطيع تقديمها بشكل فني رصين مبطن بنقد لاذع لمجتمعه.
في خاتمه للفيلم يترك “علي الكلثمي” القوس مفتوحاً مع الكثير من الأسئلة في مشهد ختامي يستقل فيه البطل حافلة النقل العام وسط حشد من المهمشين أو المناديب حظاً أو صفةً، وهنا يضيف “الكلثمي” تعريفاً أخير لمعنى كلمة مندوب؛ وهو الشخص المصاب بجرح أو عاهة عقب حادثة، لا يمكننا تخيل ما بعد الفيلم لكن ببساطة يمكننا رؤية جروح “فهد” الظاهرة والباطنة.
