الغريب بين كامو وفيسكونتي.. قراءة جديدة لفيلم قديم
حظيت رواية “الغريب” التي نشرها الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو عام 1942 على شهرة كبيرة وترجمت إلى معظم لغات العالم، وكانت سبباً في حصول كامو على جائزة نوبل مع رواية “الطاعون”، والروايتان تنتميان إلى الأدب الوجودي، وإلى فلسفة العبث تحديداً في فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها.
وترجع شهرة الرواية إلى جدة الموضوع وخصوصيته، إذ أنها ترصد تفاصيل الحياة اليومية البسيطة لرجل فرنسي الأصل جزائري المنشأ، يعيش في الجزائر، ويدعي “ميرسو”. ماتت أمه في دار للمسنين في بداية الرواية، وارتكب جريمة قتل في منتصف الرواية، ثم حُكم عليه بالإعدام في النهاية.
وبهذا المعنى فنحن لسنا إزاء بنية سردية تقليدية (بداية – عقدة – حل)، وإنما إزاء تجربة وجودية واحدة، متماسكة، يعيشها صاحبها بنفس الدرجة وبنفس الروح، وبنفس القناعة منذ اللحظات الأولى عندما جاءه خبر وفاة الأم، وحتى اللحظات الأخيرة عندما فتح عليه باب الزنزانة لاصطحابه لتنفيذ حكم الإعدام.
تشبه الرواية سيرة حياة مؤلفها في بعض النواحي، فكامو – مثل ميرسو – فرنسي الأصل، جزائري المولد، وكلاهما انتهت حياته نهاية عبثية، “ميرسو” عن طريق المقصلة و”كامو” في حادث سير.
لهذه الأسباب، كانت “الغريب” موضوعاً للعديد من الدراسات النقدية، كما تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه الإيطالي لوتشينو فيسكونتي عام 1967.
والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً في هذه الحالة، هو إلى أي مدى التزم الفيلم بالعمل الأدبي؟ أو بعبارة أخرى: ماذا أضافت الصورة المرئية للرواية المكتوبة؟
سنحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا التساؤل من خلال قراءة خاصة لكلا العملين “الأدبي والسينمائي”.
غريب كامو
توقف الشراح كثيراً عند العبارتين الافتتاحية والختامية للرواية للتدليل على روح العبث التي تسيطر على العمل، واعتبارهما مفتاحين هامين لتفسير سلوكيات “ميرسو” غير المتسقة مع العقل أو الدين أو المجتمع. ففي العبارة الأولى يقول ميرسو: “اليوم ماتت أمي، أو لعلها ماتت أمس. لست أدري. وصلتني برقية من المأوى: “الام توفيت. الدفن غداً. احتراماتنا”. وهذا لا يعني شيئاً. ربما حدث الأمر أمس”.
ويتضح العبث هنا من استهانة “ميرسو” وعدم اكتراثه بتاريخ الوفاة بنحو لا يتناسب وجلال الحدث (وفاة الأم).
وفي العبارة الأخيرة يقول وهو في طريقه لتنفيذ حكم الإعدام:
“… أحسست أني كنت سعيداً، وأنني مازلت سعيداً. وحتى يكتمل المشهد، حتى أحسّ نفسي أقل وحدة، بقى لي أن أتمنى شيئاً واحداً: أن يحضر إعدامي جمع غفير، وأن يستقبلوني بصرخات حقد”.
وهنا أيضاً نجد ذات الروح العبثية، غير المبالية، التي تجعل “ميرسو” يتصرف بما
لا يتفق وجلال الحدث، الذي هو إعدامه هو نفسه.
والرواية تحفل بالكثير من المواقف التي تؤكد هذا العبث الصادم لأعراف وعادات المجتمع التي تبدو معقولة ومرعية. والحقيقة أن نظرة مختلفة، من زاوية أخرى، يمكنها أن تكشف لنا عن تفسير آخر لسلوكيات “ميرسو” التي أدانها القانون والمجتمع ويفترض أن يدينها القارئ كذلك، باعتباره جزءاً لا ينفصل من المجتمع ونظامه وأعرافه وقوانينه وتقاليده.
والكلمة المفتاح – من وجهة نظرنا – هي ” الصدق ” وليس ” العبث “. إن “ميرسو” ليس ذلك الإنسان السييء إلى هذه الدرجة، ليس ذلك الشيطان الرجيم العائش في جنة محفوفة بالملائكة.. إنها لحظة “صدق” نعيشها جميعاً، ونستشعرها بقوة في عالمنا الداخلي عندما نتعرض للمواقف المصيرية، أو حتى العادية، ذاتها التي تعرض لها “ميرسو”. غير أن الفارق أننا نجيد ارتداء الأقنعة، ونحفظ الكثير من العبارات المعلية، الجاهزة، التي تقال في مناسبات بعينها إذا دعت الحاجة.
فكلنا نحزن كثيراً ونبكي كثيراً – في الظاهر – لموت الذين نحبهم، لكننا- من الداخل- نمتلك قلوباً جامدة وأعصاباً فولاذية بحيث نمارس طقوس الدفن والعزاء بكل القوة والثبات. وما أن ننتهي، حتى يستدير كل منا مولياً وجهه شطر حياته اليومية ومصالحه الدنيوية الخاصة.
إن المسألة لا تعدو ان تكون طقساً اجتماعياً نمارسه لعدة ساعات أو أيام على الأكثر، ثم نلقى به خلف ظهورنا حتى لا يفسد علينا مسيرة حياتنا وأيامنا المكرورة بالصورة نفسها التي تعكسها أسطورة “سيزيف”. فيقول “ميرسو”: “كنت مشوش الذهن قليلاً، إذ كان يتعين عليّ الصعود عند إمانويل لأستعير منه ربطة عنق سوداء وشارة حداد. كان هو قد فقد عمّه منذ بضعة شهور”.
إن هيئة القضاة رأت أن الجريمة الكبرى التي ارتكبها “ميرسو”، ليست قتل الشخص العربي الذي التقاه مصادفة على شاطئ البحر، لكن هي قتل الأم معنوياً. فميرسو كان شخصاً بارداً جداً، منعدم الإحساس، بحيث كان يحتسي القهوة ويدخن السجائر ليلة وفاة الأم، ثم واصل حياته المعتادة غداة وفاة والدته: “سادتي القضاة، إن هذا الرجل، غداة وفاة والدته ذهب للسباحة، وبدأ فصول علاقة غير شرعية، ثم ذهب للضحك أمام فيلم فكاهي. ليس لي ما أقوله بعد “.
لاشك أن ما قام به “ميرسو” من أفعال، إنما هو من الأمور المستهجنة، وربما المشينة، لكن المسألة ليست في تفاصيل ما قام به “ميرسو”، ولكن في المعنى الكلي لأفعاله – فما فعله “ميرسو” – في كل الأحوال – هو مواصلته لحياته اليومية المعتادة. أما أن هذه الحياة مشروعة أو غير مشروعة، فليست هذه هي المآخذ التي ينبغي أن يواجه بها وأن يحاسب عليها، خاصة أننا جميعاً نواصل حياتنا بالروح نفسها ونحن نردد “الحي أبقى من الميت”. كما أن احتساء القهوة وتدخين السجائر بات في مجتمعاتنا جزءاً مرتبطاً بطقوس العزاء، حتى أنه لتقام السرادقات الكبيرة، الفخيمة، التي تعمل على التسرية عن المعزين بتقديم المشروبات والمياه المثلجة فيما يشبه الاحتفال.
لم يكن “ميرسو” شخصاً شريراً بشهادة جيرانه وزملائه في العمل، بل كان هادئ الطبع، دمث الأخلاق، لديه القدرة على الإنصات للآخرين، والاستماع إلى شكواهم مهما بدت تافهة، كان محباً للحياة وللناس، ولم يتعمد – مرة – أن يؤذي أحداً. وإذا كان من تفسير لقتله المعنوي للأم – على نحو ما اتهمه القضاة – وقتله المادي للشخص العربي، فربما كان محاولة لا واعية للتخلص من كل ما يمكن أن يكبل حياته التي لا يرتضي إلا أن تكون بسيطة وحرة. إنها نوع من القتل الرمزي للسلطة: سلطة الأصل الذي تسبب في وجوده (الأم) وسلطة المجتمع والمكان الي نشأ وتربى فيه (الشخص الجزائري).
لقد تحرر “ميرسو” من القيود التي كانت تكبله وتشده إلى الأرض، وصار – في النهاية – طليقاً، وحيداً، يقف وجهاً لوجه أمام مصيره المظلم، إلا من شعور غامض بأن يبدأ حياة من جديد، فيقول: “… أحسست نفسي مستعداً لأن أعيش أي شيء من جديد. وكأنما هذا الغضب العظيم قد خلصني من الألم، وأفرغني من الأمل، إزاء هذا الليل المليء بالإشارات والنجوم”.
ترى هل هو نور الإيمان وقد انبثق فجأة في نفس “ميرسو” عندما وقف عند الحدود القصوى الفاصلة بين الحياة والموت؟ هل هو شعور عارم بأن ثمة حياة أخرى تمتلئ به النفس عندما تقف عند حافة الوجود، وتبقى على قيد شعرة من العدم؟
ربما.. فكاموا يضع القارئ في دائرة التساؤل، ولا يقدم إجابات.
غريب فيسكونتي
ينتمي لوتشينو فيسكونتي إلى مدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة، ويعتبر أحد مؤسسيها، مع روبرتو روسيليني، وفيتوريو دي سيكا، وقد ظهرت هذه المدرسة في الأربعينيات من القرن الماضي في فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وأهم ما يميزها التصوير الخارجي المباشر والبسيط لمعاناة الطبقات الفقيرة في المجتمع، وبالطبع لا يمكن اعتبار فيلم “الغريب” يندرج في اطار أفلام هذه المدرسة، لأنه يعتمد على رواية فلسفية بالدرجة الأولى، ولا نلمح فيها ظلاً للطبقات الفقيرة في المجتمع، لأنها غير معنية بمشاكل العيش قدر عنايتها بمشاكل الوجود الفردية، الأكثر كلية.
وفي علاقة الفيلم بالرواية، يرى البعض أن الفيلم قد حافظ على الرواية شكلاً ومضموناً، وأن ذلك يعود إلى أن السيدة كامو (زوجة الكاتب) طلبت من المخرج الحفاظ على الرواية كما هي ودون أدنى تغيير. وقد كان فيسكونتي ينوي أن يعطي للفيلم اهمية أكبر وأن يربطه بأحداث الجزائر آنذاك وخاصة على المستوى الثوري، وقد أكد الذين يفرقون بين الأدب والسينما على أن المخرج لو أخذ برؤيته كسينمائي لتمكن من صنع فيلم أكثر جمالاً، لأنه يبقى للسينما جمالها وخصوصيتها بعيداً عن النص الأدبي.
(كريمة ناوي الإبراهيمي، رواية الغريب من الرواية إلى الفيلم، موقع مسارب).
بينما يرى البعض الآخر، أنه بالرغم من التزام فيسكونتي بالنص الأدبي، إلا أنه استطاع أن ينقل شيئاً من المزاج الوجودي، وهو الشيء الأهم من الحبكة بحد ذاتها – (بلال سمير الصدر، الغريب 1968 لوتشينوفيسكونتي: اليوم بالنسبة لي هو شيء للمرور من خلاله ليس إلا، موقع الحوار المتمدن، 24/7/2014).
فيسكونتي
والحقيقة أننا إذا ما قرأنا الرواية وشاهدنا الفيلم دون ترجمة أمكننا أن نضع أيدينا على بلاغة التعبير البصري لدى فيسكونتي حتى وإن بدا ملتزماً بالنص الأدبي، فهناك دائماً إضافة يمكن أن تقدمها الصورة للنص المكتوب مهما كان هذا الأخير له سحره الخاص الناجم عن مساحة الخيال التي يمنحها للقارئ.
هناك عدد من المشاهد المعبرة التي يمكن ان تكون ملهمة للمتلقي وتمنحه المزيد من فائض المعنى الناجم عن تحويل النص إلى صورة. ولعل مشهد البداية في غرفة التحقيق خير معبر عن ذلك. فمشهد البداية هو نفسه مشهد النهاية والأحداث تدور بين المشهدين في بنية دائرية أشبه بالساقية أو الطاحونة التي يدور فيها البغل أو الثور مغمض العينين.
إنها رحلة حياة الإنسان الدائرية اليومية والتي تشمل العمر كله في آن. وهذا الدوران الذي لا ينتهي، وهذا التيه الواقع في براثنه الإنسان، هو ما يبرر ظهور المراوح الهوائية داخل الكادر في معظم مشاهد الفيلم، بدءاً بمشهد مكتب مدير دار المسنين، مروراً بمكتب التحقيق، وانتهاءً بمشهد المحكمة.
فسخونة الطقس وانتشار العرق فوق الملابس يبدو واضحاً لدى “ميرسو” بنحو يفوق شعور الآخرين وتأثرهم بهذا الطقس. إنه شعوره بوطأة الوجود فوق كاهله، وبرغبته الدائمة في التخلص منها سواء بالنوم أو بالاستحمام في المصايف او بالجلوس معظم الوقت في الشرفة مراقباً الآخرين في غدوهم ورواحهم دون أدنى شعور بالمعاناة.
في مشهد تالٍ، يطارد ميرسو اﻷوتوبيس الذاهب إلى مارنجو حيث توجد دار المسنين التي ماتت فيها والدته. وكان من المفترض أن يمضي متكاسلاً، اتساقاً مع موقفه غير المكترث، إلا أنه في الحقيقة كان يطارد القدر الذي كُتب عليه، ويحاول اللحاق بالمصير المعد لنا سلفاً، مهما أظهرنا من احتجاج ومن تمرد، فهناك دائماً قوة فوقية نخضع لها وهناك مصير لا فكاك منه.
خلد “ميرسو” إلى النوم داخل الأوتوبيس، ربما من التعب، وربما لشعوره بالاستقرار- ولو نسبياً- بعد أن نجح في أن يضع نفسه داخل عربة القدر التي ستوصله حتماً إلى المصير الذي كتب عليه في ذلك اليوم، حيث يتلقى جثمان الأم التي لم يرها منذ سنوات. وربما استسلاماً لسلطة المجتمع التى لا تقبل من أحد أن يتباطأ في اللحاق بمراسم الدفن الخاصة بالأم.
يجلس “ميرسو” على كرسي بجوار التابوت الذي يرقد فيه جثمان الأم بعد أن يرفض رؤيتها.. يجلس يدخن ويحتسي القهوة، ﻷنه في الحقيقة لم يرفض رؤية الأم، لكن رؤية الموت، فالأم قد رحلت بينما الموت هو الذي يجثم داخل التابوت.
إنه مشهد رمزي بامتياز، فكلنا يمارس حياته الطبيعية بكل الراحة والهدوء، ربما والاستمتاع، بينما يجثم الموت على مقربة منا.
نعلم ذلك وربما نلمحه يومياً، لكن – مثل “ميرسو” – من الخارج ودون أي محاولة منا لفتح الصندوق وإلقاء نظرة على الحقيقة الوحيدة التي تنتظرنا، ربما نلمحه على وجوه الآخرين الذين شارفوا على الموت على نحو ما لمحها “ميرسو” على وجوه المسنين من نزلاء الدار الذين كانوا يرافقون أمه في حياتها، وربما في طقوس الموتى الذين نشيعهم كل يوم، وكأن الموت حادثة تقع للآخرين على نحو ما عبر هيدجر.
إصرار “ميرسو” على احتساء فنجان القهوة حتى النهاية، هو إصرار على الحياة والتمسك بكل قطرة فيها في مواجهة الموت.
يكشف هذا المعنى حركة الكاميرا الدائرية حول التابوت وهي ترصد نظرات المسنين المستسلمة لكلمة النهاية التي لم تكتب بعد، وكذا الذين راحوا في نوم عميق فيما يشبه البروفة الأخيرة لمشهد الوداع الاخير.
الانتقال السلس من مشهد الدفن المكلل بصمت أبدي وسماء صيفية حارقة ووجه عجوز يحتضر (رفيق الأم بالدار) إلى مشهد البحر وضوضاء المصطافين ووجه ماري الجميل، وجسدها المفعم بالشباب والحيوية وهي مرتدية ملابس البحر، إنما يوحي بقوة الحياة، وطي صفحة الموت إلى غير رجعة.
الموت دائماً صفحة مطوية لا نعود إليها، لكنه لا يكف عن الظهور في صفحات أخرى جديدة. لكنه – لحسن الطالع – يمر سريعاً، مثل جملة اعتراضية، بعدها تعود الحياة لتواصل رحلتها الأبدية.
وهكذا تستمر جدلية الحياة والموت، قد ينتصر الموت في معاركه الصغيرة ضد الأفراد، لكن الحياة هي الشعار الباقي للجماعات، وهو ما يؤكده الفيلم والرواية في النهاية، حيث يحكم على “ميرسو” بالموت، بينما يستمر المجتمع بتقاليده وقوانينه باقياً لا يموت.
يُكثر فيسكونتي من مشاهد الشمس الحارقة في كبد السماء ووقعها على “ميرسو” الذي لا يطيق حرارتها ولا ضوءها الذي يؤذي عينيه.. فالحرارة هي الحياة والحقيقة والقدر والضوء هو المعرفة، و”ميرسو” لا يريد أن يعرف، لكن يريد أن يعيش. أن يعيش فحسب، دون هدف، أو غاية سوى الاستمتاع بالحياة حتى الرمق الأخير.
وهكذا في مشهد القتل، تغلب القدر على المعرفة، أو اتحدا معاً ليدفعا “ميرسو”
إلى التورط في جريمة مجانية لا مصلحة له فيها، وليس ثمة باعث سوى أن حرارة الشمس كانت مرتفعة، أو أن صوت القدر والمصير كان عالياً في ندائه هذه المرة بحيث لم يستطع “ميرسو” إلا أن يلبي النداء. وكأن التخلص من المصير المحتوم، مهما كان كارثياً، لا يكون إلا بالانصياع إليه.
واجه “ميرسو” مصيره وحده، لأنه أوصد باب شرفته دون سماع الأذان ودون رؤية المارة الذاهبين إلى الكنيسة في أيام الآحاد. لقد اختار أن يحيا دون وصاية من دين أو مجتمع سوى ضميره الشخصي الذي ينحصر في معاملة الناس بالحسنى.
لقد تمتع “ميرسو” بالحرية التي كان ينشدها، لكن دون المسئولية. هكذا كان ينبغي أن يعرف وأن يعي أن لا حرية بغير مسؤولية على نحو ما قال سارتر.
وفي عبارة موحية يقول “ميرسو” في الرواية: “في الظهيرة، كانت المراوح ما تزال تمزج هواء القاعة الثقيل، ومراوح القضاة الصغيرة المتعددة الألوان تتحرك، في اتجاه واحد”.
وهي عبارة تشير إلى تحالف القضاة رغم اختلاف أطيافهم، وكذا الحضور في القاعة، بحيث يمضي الجميع في اتجاه واحد ضد مصلحته.
وقد عبّر فيسكونتي أبلغ تعبير عن هذا الموقف عندما جعل كل الحضور بالقاعة يمسكون بمراوح هوائية يدوية ثم يقومون بتحريكها بقوة في إيقاع واحد كلما تحدث أحد القضاة في غير صالح “ميرسو” وكأنهم جوقة تؤيد ما يردده القاضي دون تفكير، أو كأنها فرقة موسيقية تعزف بالتبعية وراء لحن رئيسي.
فالقضاة هم حماة القيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية المرعية، ومن يخرج عليها لا ينال سوى الإدانة من قبل الجميع.
وفي المشهد الأخير، في زنزانة “ميرسو”، قبيل الفجر، وفي اللحظات الأخيرة قبل إعدامه تقترب الكاميرا من وجهه الذي ينعكس عليه ضوء شحيح بينما تغرق الزنزانة في الظلمة، إشارة إلى وجوده الشاحب المحاط بالعدم من كل جانب، ثم يطلق عبارته الاخيرة المعبرة عن استسلامه للمصير المحتوم غير عابئ بقسوة النهاية، لكن بأن يرسل احتجاجه لهؤلاء الذين يعيشون الزيف، ويسعدون برؤية الموت وهو يحصد رأس أكثر الناس إخلاصاً وصدقاً مع النفس، فيقول: “بقي لي أن أتمنى شيئاً واحداً: أن يحضر إعدامي جمع غفير، وأن يستقبلوني بصرخات حقد”.
ثم تظلم الشاشة على وجه “مارشيلو ماستروياني” الممثل الإيطالي العبقري الذي لعب دور “ميرسو”.