ثلاث مشكلات أفسدت الفيلم المصري “الليلة الكبيرة”

Print Friendly, PDF & Email

نستطيع أن نحدد مشكلات ثلاث ساهمت معا فى الصورة التى ظهر بها الفيلم المصرى “الليلة الكبيرة”، والذى شارك فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى فى دورته السابعة والثلاثين. المشكلات الثلاث يسأل عنها كاتب الفيلم أحمد عبد الله، ومخرجه سامح عبد العزيز، وهما الثنائى الذى قدم من قبل فى إطار ما نطلق عليه “دراما اليوم الواحد” فيلمين مميزين (رغم بعض الملاحظات) هما “كباريه” و”الفرح”، كما قدم أحمد عبد الله مع المخرج وائل إحسان فيلما جيدا ينتمى أيضا الى دراما اليوم الواحد هو “ساعة ونص”، والأفلام الثلاثة، بالإضافة الى  فيلم “الليلة الكبيرة” من إنتاج أحمد السبكى، ولكن “الليلة الكبيرة” بدا أقل من هذه الأفلام  الثلاثة السابقة، رغم طموح صناعه، ورغم أن المكان والإحتفال بالموالد الشعبية المصرية، يمثلان فرصة رائعة لصناعة دراما قوية وثرية.

أولى مشكلات الفيلم الواضحة فى عدم وجود بؤرة تتجمع  فيها خطوط الحكايات، وتقودها الى النهاية. فى  فيلم  “كباريه” كانت البؤرة التى تمسك بالخيوط هى استعداد أحد الإرهابيين لتفجير الملهى الليلى، وفى فيلم “الفرح” كانت البؤرة هى وفاة الأم فى حين يجد ابنها نفسه مضطرا لاستكمال الفرح، وفى “ساعة ونص” كانت البؤرة فى مقتل سائق القطار، الذى يحتوى على شخصيات الفيلم المعذبة.

ولكن “الليلة الكبيرة” لم يفلح أبدا فى إيجاد هذا الخيط الذى يجمع حبات العقد، وكان من تجليات الفشل فى إيجاد بؤرة أن  بعض القصص بدت منفصلة رغم وحدة المكان والزمان. يمكننا أن نرصد محاولتين هزيلتين لإيجاد خيط  يمسك بالقصص : الأولى بحكاية بيع الأرض التى أنشىء عليها المقام،  مما سيترتب عليه احتمال هدم المقام وإلغاء المولد، والثانية بسرقة أموال بيع الأرض فجأة، ولكن هذان الحدثان لم يتطورا فى اتجاه تجميع الشخصيات فى بؤرة واحدة، وفى اتجاه ذروة تعقبها النهاية، ولذلك وجد أحمد عبد الله نفسه مضطرا الى اصطناع نهاية مفتعلة، حيث تسقط الأمطار على  المكان ، ويتحول تعبير الإغتسال من الذنوب الى معنى مباشر وساذج.

المشكلة الثانية هى ما أطلقت عليه “المبالغات فى كل الإتجاهات” : مبالغة ميلودرامية لم يكن يحتاجها الفيلم، لأن المأساة حاضرة بالفعل فى حياة الناس الغلابة، ومبالغة فى أداء الممثلين، الذين تباروا فى الصراخ، باعتبار أنهم فى مولد. فى أفلام أحمد عبد الله سالفة الذكر كانت هناك لمسات ميلودرامية، بل ومحاولة للشرح والوعظ فى بعض المواقف، ولكن فى إطار محدد، ولكنه فى “الليلة الكبيرة” اتفق مع المخرج (على ما يبدو) ، فتمت زيادة الجرعة بصورة أوصلتنا الى نوع من الصخب المزعج. الفارق كبير بين أن تصنع دراما عن المولد، وبين أن يتحول الفيلم نفسه الى مولد تختلط فيه الأمور، ويتكدس فيه شريط الصوت بالموسيقى لمضاعفة التأثير العاطفى. لم يكن ذلك على الإطلاق فى صالح الفيلم، لا من حيث الكتابة، ولا من حيث التنفيذ.

أما المشكلة الثالثة فتتعلق بالتطويل. هناك ما لا يقل عن أربعين دقيقة زائدة، كان اختزالها سيجعل الفيلم أكثر تركيزا واختزالا. صحيح أن عدد الشخصيات كبير، ولكن المعول فى طول الفيلم أو اختزاله هو من ضبط الدراما، ومدى السيطرة على السرد،  لا كثرة عدد الشخصيات أو قلّتها. يعانى فيلمنا من الترهل، الذى ساهمت فيه كثرة الأغنيات، حيث بدا بعضها كفواصل بين السرد، بدلا من أن تندمج فى الدراما، مثلما فعل أحمد عبد الله وسامح عبد العزيز فى فيلميهما “كباريه” و”الفرح”. هناك استطرادات فى معظم القصص، ومشاهد يكرر فيها معنى قيل فى مشاهد سابقة، كل ذلك أثّر على الصورة النهائية للفيلم الطموح.

 دراويش ومذنبون

يمثل المولد أحد العناصر المحورية فيما نطلق عليه “الدين الشعبى فى مصر”. إنه مزيج بين الدين والفلكلور والكرنفال. عشت لسنوات طويلة فى مدينة صعيدية، وبالمصادفة فقد كان هناك مقام ومولد أمام منزلنا مباشرة( سيدى الضمرانى بمدينة فرشوط)،  فشاهدت عن قرب ملامح الطقوس الخاصة بتلك الأماكن، وعاينت ألوانا عجيبة من البشر الذين يحضرون فى أيام المولد، ثم يتكدسون فى ليلته الكبيرة.

هذا هو الفيلم الأبرز عن الموالد الدينية التى تظهر أحيانا فى خلفيات كثير من الأفلام المصرية، دون أن تكون موضوعا لها، فمثلا فيلم “المولد” لعادل إمام، حمل هذا الاسم، لمجرد أن بطل الفيلم فقد من أمه فى المولد، فعاش بعيدا عن أسرته، ولكن أبرز استيحاء للمولد وفنونه جاء من خلال الغناء، وعن طريق عمل فذّ لا نظير له هو “الليلة الكبيرة” لمؤلفه الراحل صلاح جاهين، ومن ألحان سيد مكاوى. كان أصلا صورة غنائية إذاعية تصف ليلة المولد، ثم قدمه مسرح العرائس المصرى فى بدايته من إخراج الراحل الكبير صلاح السقا، وما زال يعتبر من كلاسيكيات الغناء المصرى الكبرى. يطلقون عليه تعبير “أوبريت”، ولكنى أراه أقرب الى أوبرا شعبية مصغّرة.

اختار أحمد عبد الله أن يبتكر مولدا ومقاما لا وجود له فى الواقع، حتى يأخذ حريته فى التناول، بدلا من التورط فى مولد معروف مثل السيدة زينب أو مولد السيد البدوى فى طنطا، وبدأ فيلمه بمشهد قوى ومهيب لخادمة المقام (تلعب دورها القديرة سميحة أيوب) وهى تبتهل وتدعو بصوتها العميق المؤثر، ثم تدخل الى مقام سيدى عرش الدين الأنصارى، لتوقظ النائمين، ليستعدوا ليوم الإحتفال بالليلة الكبيرة.

 يمكن أن نتحدث عن ثمانية مجموعات من الحكايات، بعضها يتداخل مع غيره، والبعض يبدو منفصلا، وكل حكاية لها حبكتها وبدايتها ونهايتها، وهذه الحكايات هى حبات العقد التى ذكرتها من قبل، والتى كانت تحتاج الى بعض التكثيف، والتى تفتقد أيضا البؤرة التى تجمعها فى نهاية واحدة قوية.

يلاحظ أن الحكايات تصنف شخصيات المولد بصورة عامة الى فريقين: دراويش يمثلون ضمير الفيلم، ويصبغونه بالصبغة الروحية، ومذنبون تكشف الليلة الكبير ما خفى من حياتهم، وتضعهم فى مواجهة مأساة مزلزلة، تغير مسارهم.

الحكاية الأولى بطلها أبو قمر منشد الموالد (عمرو عبد الجليل)، الذى يعشق شابة صغيرة (ياسمين رحمى) ، يعمل والدها (أحمد صيام) عازفا للكمان. الأب ضعيف الشخصية، وأم الفتاة (سلوى محمد على) كانت عشيقة سابقة للمنشد الدينى، وسنكتشف فى نهاية ميلودرامية زاعقة أن الفتاة ابنه المنشد، وليست ابنة عازف الكمان، وأن المنشد كاد أن يتزوج ابنته، ولكن الله سلّم، وبركاتك يا سيدى عرش الدين!

الحكاية الثانية بطلتها آيتن عامر، وهى فتاة منتقبة، تعمل بائعة للشاى مع والدها الذى يستند على عكاز ( سامى المغاورى). هو الذى أراد حمايتها بارتداء النقاب، ولكن الفتاة لها حياة أخرى مستقلة، وتحمل اسما آخر عند سفورها، بل إنها تتزوج عرفيا من شاب يدير فندقه للعشاق (وائل نور)، وتنتهى هذه القصة باكتشاف الأب لازدواجية ابنته، مما يؤدى الى المزيد من الصراخ والبكاء.

الحكاية الثالثة بطلها الشاب المجذوب (أحمد رزق) الذى يتحرش بفتيات المولد، والذى يتحدث طوال الوقت مع شبح أمه (صفية العمرى) التى تظهر له على طريقة والد هاملت. نعرف أن الأم هى سر مأساته، وأنها كانت عاهرة محترفة. علاقتهما معقدة للغاية، فمن كراهية تدفعه الى قتلها فى خياله، الى عشق مبطن يعبر عن نفسه فى علاقة لم تكتمل مع بائعة للذرة (نسرين أمين) تحمل نفس اسم الآم.  المجذوب لم يقتل أمه التى نراها  معه وهى على الرصيف فى سن كبيرة. هذه الحكاية فريدة ومبتكرة شكلا ومضمونا، ولم يفسدها سوى مبالغات أحمد رزق وصفية العمرى فى الأداء.

الحكاية الرابعة بطلها لاعبة السيرك ( سمية الخشاب)، التى يغرر بها زميلها (محمد لطفى) ، لتحمل منه، فيجبرها على الزواج منه. لكن صاحب السيرك، ووالد الفتاة ( أحمد بدير) لايخضع للإبتزاز، ويدير اللعبة فى اتجاه طرد لاعب السيرك، الذى رباه صغيرا. يعود الشاب الى الشارع، بينما تحتفظ الفتاة بالطفل.

الحكاية الخامسة بطلتها وفاء عامر، إنها أم لفتاة (زينة) لاتنجب سوى البنات من زوج تحبه ويحبها (محمد وفيق)، ولكن الأم تخشى أن يسيطر أعمام حفيداتها على الميراث، مثلما حدث مع الأم منذ سنوات طويلة. تحت ضغط هذا الهاجس، تصر على أن تنجب الابنة من زوجها ولدا، تتوسل بمقام الشيخ، وتلجأ الى سيدة الزار، التى تعطى الابنة مشروبا يقتلها. مأساة جديدة فى الليلة الكبيرة.

الحكاية السادسة بطلها صاحب الفندق (سيد رجب) الذى يعمل فيه ابن أخيه (وائل نور). من الواضح أن صاحب الفندق متدين شكليا، ويسيل لعابه عندما يعرض عليه مجموعة من أصحاب الذقون شراء الأرض التى يقام عليها المولد، والتى يمتلكها أيضا، ولكنه يخشى أن يهدموا المقام ( من الواضح أن المشترين من السلفيين الذين يحرمون الموالد). يتعهدون له بالمحافظة على المقام، وبعد حصول صاحب الفندق على المال، يكتشف فساد ابن أخيه، فيطرده، ثم يقوم عامل فى الفندق بسرقة المال، الذى يتناثر أثناء هروبه حول مقام الشيخ.

الحكاية السابعة رسمت معالمها بخطوط سريعة وغير كافية، بطلها محمود الجندى، الذى يبدو شخصا على قسط كبير من التعليم، ولكنه يؤمن أيضا ببركات الأولياء، وحواراته مع الشيخ السلفى (علاء مرسى)، أو حوارات ابن الشيخ (محمد أحمد ماهر)  مع نفس الشيخ السلفى، ليست فى حقيقتها سوى تعبير عن رأيين متعارضين فى شرعية الموالد من الناحية الدينية. ينفى الرجل المتعلم الذى يحضر الليلة الكبيرة أى شبهة للشرك فى التوسل بأولياء الله الصالحين، ويعتبر ذلك محاولة مشروعة للإستعانة بمن يحبهم الله. الفيلم بالطبع مع هذه الرؤية، وسرقة مال شراء أرض المقام ، ليست سوى إحدى الكرامات السريعة فى الليلة الكبيرة.

أما الحكاية الثامنة فهى أيضا محددة بخطوط قليلة، وبطلاها خادما المقام ( سميحة أيوب)  و( صبرى فواز)، إنها ضميرا الفيلم اللذان يحذران من هدم المقام، والشخصية الثانية تبدو أحيانا مجذوبة، وفى أحيان أخرى تنطق بالحكمة مثل مهرج الملك فى مسرحية شكبسبير “الملك لير” . لن نعرف شيئا عن ماضى هاتين الشخصيتين ولو فى عبارات قليلة، لأنها أقرب الى الضمير الذى ينبه ويحذر. إنهما فكرتان مجردتان تظهران وتختفيان وسط شخصيات من لحم ودم.

 عدم التوازن

هناك اختيار جيد حقا لنماذج متنوعة، ولها وجود حقيقى فى الموالد، ولذلك لم يكن الفيلم فى حاجة الى اللجوء الى نهايات مليودرامية، وكأنه لا يثق فى قدرة هذه الشخصيات على التأثير، بمجرد وصف ظروفها، كما زاد الأمر سوءا ضعف القدرة على ضبط التوازن بين هذه الحكايات، وضعف القدرة على تضفيرها معا بصورة متماسكة، مثلما فعل أحمد عبد الله فى أفلامه السابقة ، التى تعتمد وحدة الزمان والمكان والحدث فى يوم واحد، وهو الشكل الكلاسيكى للدراما كما أراده أرسطو.

من ناحية أخرى، استطرد السيناريو فى بعض الحكايات، بينما رسمت معالم شخصيات أخرى بصورة عامة، ستجد مثلا شخصية لعبها سليمان عيد فى حكاية المنشد أبى قمر. إنه مجرد مطيباتى للمنشد، يتعرض دوما للإذلال المتواصل، وفى النهاية يطرده المنشد بصورة مهينة للغاية، ولا أعرف بالضبط أهمية هكذا شخصية فى حكاية محورها رغبة أبى قمر فى الزواج من فتاة، لا يعرف أنها ابنته من عشيقة سابقة!

ثم ظهرت المشكلة على نحو أوضح مع هذه الطريقة  الخطابية التى يؤدى بها معظم الممثلين، ربما كان عمرو عبد الجليل وأحمد وفيق الأفضل.  كما تم استخدام الموسيقى (خالد داغر) على شريط الصوت بشكل صاخب،  وبصورة ملحة، و فشل شريف عابدين ( وهو مونتير متميز للغاية) فى ضبط إيقاع الفيلم، بسبب عدم الرغبة فى الحذف، وهى أيضا مسؤولية المخرج بالدرجة الأولى، واكتمل التشويش البصرى مع وضوح الصنعة فى الديكور ( عماد الخضرى)، فالأرض الملساء كشفت الديكور، ولم يتميز من العناصر الفنية فى رأيى سوى إضاءة جلال الزكى، وملابس مونيا فتح الباب.

ولأن منطق الفيلم هو أن المولد سيكشف الذنوب وسيغسلها أيضا، فإن أحمد عبد الله لم يجد أمامه سوى افتعال سقوط أمطار، ليخرج أبطال الفيلم من بيوتهم وهم يجرون بالحركة البطيئة، ينظرون الى السماء، ويصرخون، ويطلبون الرحمة، وكأنهم فى يوم الحشر. تنفيذ المشهد لم يكن جيدا، وصلت المياه الصناعية لبعض الممثلين، ولم تصل للبعض الآخر، مما جعلنا أمام نهاية كوميدية، سواء بسبب سوء التنفيذ، أو بتحويل المطر الى مادة لغسيل الذنوب، وتطهيرها.

لا شك عندى فى موهبة أحمد عبد الله سواء فى مجال كتابة الكوميديا أو التراجيديا، ولا شك عندى فى اجتهاد سامح عبد العزيز لكى يترك بصمة بصناعة أفلام تجمع بين الفن والحس الشعبى على طريقة صلاح أبو سيف، ولكننا هنا فى مجال التقييم لما شاهدناه  بالفعل، وليس لنوايا طيبة فى نفوس صناع العمل.

“الليلة الكبيرة” عمل طموح كان يمكن أن يكون فيلما رائعا، ولكن مشكلاته الفنية حرمته من التميز، فأصبحنا أمام فيلم يفتقد الى نضج المعالجة، ويفتقد الى براعة التنفيذ، وهما أمران لايمكن التسامح بشأنهما فى نقد الأفلام.

Visited 147 times, 1 visit(s) today