“العشيق المزدوج”: كثيرٌ من المشاهد قليلٌ من الدراما
يبدأ الفيلم بمشهدٍ مُشجعٍ وواعدٍ للغاية: سيّدة فاتنة، نعرف لاحقًا أنّها كلويه (مارين فاكت)، تُنقّل نظراتها بين الأرض و الشاشة/الجمهور ويدا رجلٍ ما تقصان شعرَها، في ظروفٍ أخرى قد يبدو ذلك مشهد لطيف لسيدةٍ تتجمّل، ولكن نظراتها اللائمة وصوت “الخششش” المُرافق للقص يجعل الأمرَ أقرب لعقاب نزيلات “أوشوفيتز” في فيلم “قائمة شندلر” منه لتَزَيّن امرأة فرنسية “شابّة وجميلة”، قد تُذكّر طلتُها البعض بأسلوب المصوّر فرانشيسكو سكافُللو (1921–2004) إلا أنّ نظرات كلويه كانت بعيدة تمامًا عن الحالة التي يُقدّم بها سكافُللو بطلاته.
يلي ما سبق انتقال الكاميرا إلى أداة طبيّة وهي تنسحب ببطء من تجويفٍ عضوي، وبعد خروجها تمامًا، أو قبل ذلك بثوانٍ، نعرف أننا كنّا نرى فحصًا مهبليًا، على اتساع الشاشة، لكلويه، ليندمج بعد ذلك مع عينها الواسعة ذات اللون المحيّر.
كلويه عارضة أزياء سابقة، في الخامسة والعشرين، خاضت علاقات متعددة، وتُعاني من علاقة سيئة مع والدتها (النجمة جاكلين بِسِت) ومن ألمٍ غامضٍ في بطنِها، تذهب لزيارة الطبيب النفسي بول (جيريمي رينييه) بإحالة من الطبيبة النسائية، ثم نراهما يقعان في الحب أسرع من المتوقع، وينتقلان لشقتهما الجديدة، تكتشف كلويه أنّ بول يستخدم في حياته المهنية اسمًا مختلفًا عن اسمه الحقيقي المدوّن في جواز السفر، تستفسر منه عن ذلك فيُقدّم لها عذرًا واهيًا، ثم تراه في اليوم التالي، وكانت قد حصلت على وظيفة كمراقبة في متحف، وهو يُحادث امرأة أخرى، تتبع القصة لتكتشف أن من رأته لم يكن سوى لوي (جيريمي رينييه أيضًا) توأم حبيبها الذي يعمل طبيبًا نفسيًا كذلك.
تستغرب كلويه، ونحن معها، عن سبب إخفاء بول لهذه المعلومة، ثم يحدث ما يُمكن توقعه من اللمحة الأولى لملصق الفيلم: تعقد كلويه علاقة جنسية مع الشقيقين دون علم أحدهما بالآخر، ويسير الفيلم هبوطًا وصعودًا حتى نكتشف أنّ الأمر ليس كما نرى، أو بالأحرى ما نراه لم يكن يحدث من الأساس.
القرين/ التوأم/ الازدواجية
إنّ فكرة أن يكون للإنسان شخص ما يُطابقه شكلًا ويخالفه جوهرًا، فكرة مروّعة وشيّقة للغاية، في الميثولوجيا الإسلامية هناك نصوص تؤكد أنّ لكل إنسان قرين/ توأم من عالم الماورائيات يوسوس له بارتكاب الخطايا، ولا يموت إلا بموت الأصل البشري، وهي فكرة قريبة إلى حدٍ ما من ظاهرة “الدَبلغانغِر” لدى الثقافة الشعبية الغربية.
وبالنسبة للتوائم فقد استحوذت هذه الثيمة على خيال المجتمعات منذ زمنٍ طويلٍ، ومع الاهتمام العلمي بهم وتحليل الروابط الشعورية والعلائق النفسية التي تربطهم، جاشت قريحة الأدباء والفنانين في مواكبة ذلك الاهتمام الذي بلغ ذراه بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ارتُكبت الكثير من الفظاعات في معامل التجارب على التوائم، ومازال هذا المجال يشغل العلماء حتى هذه اللحظة.
في السينما كان للتوأمة ملعب عريض، هناك أفلام قدّمت التوأم الطيب والشرير (فيلم حياة مسروقة من بطولة بيتي دايفِز)، والتوأمان اللذان يستغلان تشابههما لتمرير أهدافهما المشتركة (فيلم ذي بريستيج) أو التواءم الذين تفرقهم صروف الحياة القاسية في ميلودراما تهز المشاعر (الفيلم الهولندي اللوكسِمبُرغي الشقيقتان التوأمتان)، بجانب الفكرة الكابوسية عندما يحاول شخصٌ ما الاستحواذ على حياة آخر عن طريق التشبه به ليُصبح توأمه/قرينه (فيلم أنثى بيضاء وحيدة).
بل حتى الأفلام التي تناولت اضطراب الهوية الانفصامي (فيلم ستة أرواح مثلًا) كانت إحدى التنويعات على هذه الحقيقة البيولوجية المُثيرة.
ولذلك فإنّ الخوض في غمار قصة “قديمة” ومُستهلكة المفردات (امرأة “خائنة”، توأمان أحدهما طيب والآخر شرير، امرأة لديها اضطراب جنسي، امرأة في علاقة غرامية مع شقيقين) فإنّ الأمر يتطلب معالجة جديدة وزاويا غير مطروقة وهذا لم يحدث في “العشيق المزدوج”.
الألغاز المتعددة واللاحلّ
كلويه هي النموذج الأفضل تمثيلًا لأمنيات أي مخرج لأي فيلم ثريلر إيروتيكي: امرأة جميلة ومضطربة، بعينين تعلوهما غشاوة من الدموع والإجابات، ويهاجمها جسدها المُنمّق بآلام مجهولة الأسباب، لا تُحب والدتها، بسبب إهمالها لها وليس من أجل عقدة إلكترا، وتختبر هواجس نفسية تقودها إلى سلوك جنسيّ يستقيم عليه الفيلم.
هل استطاع المخرج فرَنسوا أوزون أن يستغل هذا “الكنز” الدرامي؟
سندع جانبًا حقيقة أنّ الاضطراب الجنسي لا يتأخر للإعلان عن نفسه حتى سن الخامسة والعشرين، فضلًا على أنه من السهل تخمين حالة كلويه بقليلٍ من الذكاء بعد مشهدها مع لوي وهو يشرح لها معلومات عن التوأم المُهيمن أو الكانيبالي قبل انتصاف الفيلم بقليل.
كلويه تقع في علاقة مزدوجة مع شقيقين متطابقين، ونقضي ثُلث الفيلم تقريبًا ونحن نراها تنتقل من شقة هذا إلى عيادة ذلك دون أن تتقدم القصة شبرًا واحدًا رغم مرور الوقت في الشريط السينمائي، حتى يعترف لوي لكلويه في لحظة عنف مُفتعلة بأنه يعرف أنّها عشيقة أخيه، ويُخبرها في لقاء آخر بأن تبحث عن تفاصيل قصة فتاة تُدعى ساندرا شينكير (فاني سايج) لتعرف حقيقة حبيبها بول، وتبدأ بالبحث فعلًا وتتوالى الأحدث حتى يقع ما يجعلها تقرر قتل لوي.
إنّ اللغز الأساسي في القصة هو الألم الذي تشعر به كلويه في بطنها، وهو الذي ساقها إلى بول ومنه إلى لوي، وفي نهاية الفيلم نعرف أنّ الألم كان بسبب وجود توأمتها غير المكتملة التي امتصتها كلويه حينما كانتا في المرحلة الجنينية باعتبار أنّها كانت التوأم المُهيمن، وأنّ حالتها الصحية هي السبب في كل ما حدث، وبالتالي لا وجود للوي ولا أي شيء متعلق به.
إذن، كيف يُمكن لقصة الشابّة ساندرا شينكير التي لم تكن سوى ضلالات أخيرة لكلويه، حسب نهاية الفيلم، أن تجعلها في مواجهة مع بول ولوي التي كانت على سبيل الضلالات أيضًا؟ ماذا عن الأوراق والرسائل التي وجدتها كلويه في خزانة بول عن قصة ساندرا؟ هل ساندرا كانت رمزًا لحالة كلويه باعتبارها ضحية لشقيقين شريرين؟ إذا لم يكن للوي أي وجود، حسب نهاية الفيلم أيضًا، فكيف لقصة ساندرا التي جاءت كمبرر درامي باعتبار أنّها ضحية اغتصاب لوي أن تُقدم حلًا لمشكلة كلويه أمام نفسها وأمام المشاهدين؟ لو كان الألم في بطنها بسب وجود شقيقتها الجنين، لماذا قالت في جلساتها الأولى مع بول أنّها تشعر بالألم حينما تستوعب فكرة أنّ والدتها لا تُحبها؟ هل كان كل ما يحدث خيالًا في عقل كلويه؟
لو كانت علاقة كلويه بلوي واقعًا فما تفسير مشهد إطلاق الرصاص ومشاهد الفانتازيا تلك(مشهد خروج الجنين من بطنها مثلًا)؟ وإن كانت مجرد خيال في عقل كلويه فكيف يُفسر ابتلاعُ توأمها اضطرابَها الجنسي الذي لم يكن يحدث أصلًا إلا في خيالها؟ ما تفسير المشاهد التي كانت تصحو فيها كلويه من نومها فزعة؟ هل كانت تُهلوس مرتين؟ مرة في الخيال ومرة في خيال الخيال؟ إذا كانت كل تلك الأحداث تدور داخل كلويه فقط ماذا كان يحدث في علاقتها الواقعية مع بول؟ ما جدوى الفيلم بعد كل ذلك!
حتى اللقاءات الجنسية بين كلويه و بول/ لوي لم تنفخ الروح في السيناريو المتجمّد، ولم تُرينا تغييرات الأبطال ومعالمهم النفسية كما يحدث في أي فيلم إيروتيكي يعرف كيف يقوم بواجبِه، لقد كانت مشاهد ثابتة ورتيبة و”ثقيلة دم”، ولا جديد سوى اختلاف طفيف في أداء كلويه مع الاحتفاظ بنظرتها الذائبة ولا شيء آخر.
إنّ ما جعل أفلام مثل ” مُولهولاند درايف” و “سايكو” أفلامًا ماسية هو السيناريو المحكم حيث كانت الأحاجي والقرائن منثورة فيه بذكاءٍ ودقةٍ متوافقةٍ مع النهاية المُفاجئة دون ثغرة واحدة ولو كانت بحجم رأس الدبّوس.
في “العشيق المزدوج” انطلقت بنا القصة في سلسلة من الألغاز التي ينفي كل واحد فيها ما يليه على سبيل التضليل لا التشويق، فجاء الفيلم بمنطقٍ يلتهم بعضه بعضًا.
وقد بدا الفيلم كأنّه كولّاج بصري لمشاهد رأيناها في أفلام سابقة، هناك مثلًا جارة لطيفة متطفلة نوعًا تطهو وجباتٍ ترتاب منها الوافدة الحسناء (فيلم طفل روزماري)، قطة تشاهد بطلي الفيلم أثناء ممارسة الجنس (الفيلم الأرجنتيني الفرنسي لا تنظر للأسفل)، والفيلم ككل يبدو كأنه قادم من عوالم فيلم “دِد رينغرز” لديفيد كرونِنبرغ بشكلٍ أو بآخر.
أما عدد المرايا فقد كان أكثر من تلك الموجودة في فيلم “مرايا” نفسه، وبالمناسبة هناك عدد من أفلام أوزون تستطيع أن تجد لها أصلًا شبيهًا بها من الأفلام الكلاسيكية الشهيرة بكل سهولة.
هناك بعض الجمل الحوارية الواهنة مثل تلك التي قالها بول لكلويه:” أعتقد أنّ الألم الذي تحسين به يكشف شيئًا ما بداخلك” وهو أمر بديهي بالطبع خاصة أنّ كلويه قد قالت في بداية اللقاء أنّها جاءت أصلًا لهذا السبب.
وفي جلسة تالية تقول كلويه بأنّها عندما تتخيل جنازة والدتها فإنّها لا تشعر بشيء، ثم تستدرك بـ”أشعر بنفسي داخل النعش”، إنها عبارة مؤثرة لولا أن نصفها الثاني يُناقض نصفها الأول بضراوةٍ.
وهناك أيضًا مشهد كلويه مع لوي وهي تقول له: “عندما أكون معك أفكر فيه، وعندما أكون معه أفكر بك أنت”وهي عبارة تم دهسها عشرات المرات في عدد هائل من روايات الحب والخيانة المُستهلكة منذ أيام روايات عبير.
ولا يجب أن نفوّت الحديث عن مشهد البداية آنف الذكر، فقد كانت كلويه تشعر بالألم في بطنها فلماذا رأيناها في بداية الفيلم تقوم بفحصٍ مهبليٍ وليس منظارًا للمعدة؟ الإجابة ببساطة: إنّه فيلم إيروتيكي من وجهة نظر أوزون، فيجب، حتى لو كان ذلك مخالفًا لمنطق القصة، أن نشاهد مهبل كلويه لا مريئها.
هناك مشاهد تم تكديسها لتشتيت الجمهور وظلت دون شرح حتى النهاية، فلم يتم، مثلًا، تفسير لماذا كانت كلويه تتلمس النباتات في عيادتي بول ولوي، لماذا كانت الجارة تحتفظ بكل تلك القطط المحنطة في أوضاع مُريبة، لماذا هرب القط ميلو من عند الجارة، وما معنى المشهد التخيلي الذي يظهر فيه بول (أو لوي!) و كلويه وتوأمان في سن الطفولة يلهوان ببراءة ويقبلانها.
وحتى عندما علمنا أنّ كلويه هي التوأم المسيطر التي ابتلعت شقيقتها لماذا لم تظهر تلك “السيطرة” في حياتها وعلاقاتها ووظيفتها وعلاقتها الحميمة مع لوي أو بول خاصةً أنّ الأخير كان رقيقًا ليّن الجانب؟، لم يكن هناك سوى مشهدها وهي ترتدي عضوًا بلاستيكيًا لتأخذ دور الرجل معه ثم تكتشف أنّها كانت تحلم.
إنّ مغالطات الفيلم أفقدت المشاهدين، أو من لم يُعجبهم على الأقل، سمة مهمة وهي سمة التعاطف، فأصبح الموضوع كأنّك ترى عراكًا في شارعك، يثير فضولك أكثر مما يُمتعك أو يتحدّى ذكائك، خاصةً إذا أضفنا المشهد النهائي غير المُفسّر الذي ختمته أغنية آلفيس بريسلي “ما دُمت ملكي”، ولا أسوأ من أن تمر قصة امرأة جميلة و”خاطئة” وهشّة دون أن يتعاطف الجمهور معها.
لم يكن كل ما في الفيلم مُحبطًا بطبيعة الحال، فقد كان السينماتوغرافي بديعًا (التصوير لمانويل ديكوس ) والموسيقى الرائعة (لفيليب رومبي) كأنها تنساب من شوارع باريس وتذكرنا بكل الروايات والنصوص التي أثْرت عاطفة قرّاء العربية نحو “بلد الجن والملائكة”، هذا بجانب سحر مارين فاكت التي تُجسد الجمال الفرنسي كما ينص الفهرس، وقد بدت في اللقطات البعيدة شبيهة بناتالي بورتمان مع فارق الجمال لصالح فاكت وفارق الموهبة لصالح بورتمان.
“العشيق المزدوج” مُقتبس من رواية “حيوات التوائم” للروائية الأمريكية جويس كارول أوتس وقد شارك به أوزون في مهرجان كانّ العام الماضي، وهو من إنتاج فرنسي بلجيكي مشترك.
وإن كان لابد من تعليقٍ أخير على الفيلم فهو النكتة التي اشتهرت قبل أكثر من عقد عن رجلٍ ذهب إلى أحد المطاعم ليشتري دجاجًا مطهوًا وحينما وصل هناك سأله العامل: هل تريده مقليًا أم مشويًا فردّ الزبون أنّه يريد الدجاج مقليًا، فأجابه العمل أنّ عليه الذهاب إلى الدور الثاني، وهناك قابله موظف آخر وسأله هل تريده مع السلطات أم مع المقبلات فقال أريده مع المقبلات فأشار عليه أن يذهب إلى الدور الثالث، وهكذا ظل الموظفون يحيلون الزبون من طابقٍ إلى آخر حسب طلبه إلى أن وصل للدور الأخير فقابله المدير الذي فاجأه بقوله: لقد خدعناك ! إنّنا لا نبيع الدجاج هنا، ولكن ،بالأمانة، ما رأيك بنظامنا؟ خارق ! أليس كذلك!
في “العشيق المزدوج”، مشهد يقودك إلى مشهد، ولغز يُحيل إلى لغز وفي الختام لا يوجد حبكة مُحكمة، ولا نهاية مُقنعة على الإطلاق، فعذرًا عزيزي الجمهور ولكن، بالأمانة، ما رأيك بالمشاهِد!