“وداعاً ياخليلتي”.. رقصة الموت الأخيرة

Print Friendly, PDF & Email

طرح رائد الفلسفة الوجودية جان بول سارتر، افتراضا محوريا بأن “الوجود يسبق الجوهر”، أي أن ما من شيء يحدد شخصية المرء، إنما الفرد وحده هو الذي يحدد جوهره. فالوجودية بحسب “سارتر” تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته، حراً، يختار ما يشاء. وبما أن الإنسان محكوم بتصرفاته، فعليه أن يكتشف تفاصيل حياته بنفسه، وهذا لا يتحقق إلا بالبحث عن معنى الوجود والتفتيش عن الوجوه لا الأقنعة.

من هنا، نغوص داخل عالم المخرج الصيني تشين كايجي، أحد أبناء الجيل الخامس في السينما الصينية والذي تنطلق أفلامه من أفكار تبدو أساسية، كعلاقات الصداقة والعاطفة أو علاقة الإنسان مع السلطة، الطبيعة أو الزمن. وتهيم شخصياته بحثا عن هويتها الوجودية والجنسية لنختبر معها مشاعر كالغيرة والخيانة والحب. يرشدنا لمناطق مظلمة داخل النفس البشرية، مشاعر دفينة وأفكار وهواجس مضطربة يعكسها أمامنا لنتبين مدى ضخامتها وتعقيداتها.

في فيلمه السينمائي الخامس “وداعا ياخليلتي”، يأخذنا “كايجي” في رحلة ملحمية تتشابك فيها الأفكار الفلسفية والتاريخية والنفسية، يتداخل فيها الخاص والعام مشكلاً لوحة سينمائية غاية في الفرادة والتعقيد. أقتبس الفيلم عنوانه من الأوبرا الصينية الشهيرة “الملك الجبار يودع محظيته”، وهي قصة واقعية مأخوذة من سجلات المؤرخين، إلا أن أحداث العمل استندت على معالجة لرواية “وداعا ياخليلتي” للكاتبة الصينية ليليان لي، والتي ترصد حياة اثنين من نجوم فرقة أوبرا بكين على خلفية التاريخ السياسي للصين في القرن العشرين.

تتحدث الأوبرا التي تتداخل قصتها مع السياق الدرامي للفيلم، عن نزاع بين ملك شان “شيانج يوي” وملك هان “ليو بانج”، ينتهي بهزيمة الأول وتخلى الجميع عنه سوى محظيته المخلصة “يوي جي” التي تهيأت لها فرصة للهرب، لكنها تفضل البقاء والانتحار وفاء لملكها.

الحكمة من وراء هذه القصة هي أن كل شخص مسؤول عن مصيره، وهذا المصير – كما يراه الوجوديون – لا يتحدد إلا إذا تمتع الفرد بحرية مطلقة؛ فلا اختيار مع غياب الحرية، وبالتالي إذا ما استطاع الفرد أن يتحرر من كل هذه القيود يمكنه أن يصل إلى جوهر الوجود. وهذا يدفعنا للتساؤل، هل الحرية المطلقة تدفعها الغرائز بدلاً من العقل؟ وهل يُعد الإنسان حقًا مسؤولًا عن مصائر حياته؟ وكيف سيتعايش إذا ما فقد المسؤولية الفردية والجماعية؟

ينقسم الفيلم الفائز بسعفة كان الذهبية عام 1993، مناصفة مع فيلم “The Piano” للمخرجة جين كامبيون، إلى ثمانية فصول، يمثل كل قسم حقبة مختلفة في التاريخ الصيني وحياة الشخصيات، تغطي مساحة زمنية عريضة تتخطي النصف قرن. بداية من عصر أمراء الحرب مروراً بالغزو الياباني للصين عام 1937 ووصول الشيوعيين الى الحكم في 1949 واندلاع الثورة الثقافية عام 1966.

الذات بين الواقع والمتخيل

“أنا في الأصل صبي وليس فتاة”

تبدأ أحداث الفيلم عام 1977، بعد سنة واحدة على انتهاء الثورة الثقافية، بتجربة أداء أمام إحدى اللجان المسرحية لاثنين من فناني الأوبرا، داييه (ليزلي تشونج) ودوان (فينجي تشانج). افتتاحية بسيطة وتعريف موجز للشخصيات الرئيسية يتبين من خلاله مدي تعلق داييه الشديد بدوان وعمق رابط الصداقة بينهما. لا يزال داييه يتذكر تفاصيل كل شيء، متي قدما عرضهما الأخير؟ ومتي التقيا آخر مرة؟، ما يجعلنا نتوق للغوص في أعماق تلك العلاقة الاستثنائية.

يعود “كايجي” بالزمن إلى عام 1924، ليلقي نظرة على طفولة بطلي الفيلم، بمشهد داخل أحد الأسواق تم تصويره بالأبيض والأسود باستثناء اللون الأحمر للإشارة إلى بداية تمدد الفكر الشيوعي داخل المجتمع. حيث تصطحب الأم ابنها داييه لمشاهدة أحد العروض الاستعراضية التي يشارك بها دوان.

تسعى الأم، التي قدمها النص بشخصية عاهرة، لتأمين حياة بديلة لابنها داخل تلك الفرقة بعيداً عن عالم البغاء. ولكن هناك عقبة وحيدة تحول دون قبوله، فهو يمتلك في إحدى يديه ستة أصابع، فتغامر الأم بقسوة لقطع الأصبع الزائد، ويوقع داييه على وثيقة انضمامه للفرقة بالدم، لترتبط الأوبرا في ذهنه منذ اللحظات الأولى بمشاعر الألم والفقد.

ألقت المشاهد الأولي الضوء على طفولة داييه ودوان المشوهة والمتناقضة، فتقديم المكان وشخصية (الأم/ العاهرة) أعطانا الفرصة لفهم طبيعة كل شخصية، داييه المتخفي دوما وراء ثياب الفتيات ويبدو عليه علامات الترف والدلال ودوان ذا البنية الجسدية القوية وهيئته القاسية. هذا التناقض شكَّل أساس ناجح لعلاقتهما، فكلاهما يكمل ما ينقص الآخر. داييه يريد الحماية ودوان بحاجة للعطف والاهتمام.

إن تاريخ أوبرا بكين هو خلفية حية لتطوير الفكرة الرئيسية في الفيلم والترابط بين الشخصيات الرئيسية. فجميع الأحداث يتم عرضها في سياق الأوبرا، وبالتالي، فإن خصائص أوبرا بكين لا تتم مناقشتها فقط كجزء من الحياة الثقافية الصينية ولكن أيضًا كتعبير عن إيديولوجية الحياة التي يعيشها الممثلين والتي تتداخل مع خصائص دراما المسرح.

لذلك، وظف “كايجي” الأوبرا كي تتناسب مع شكل ومضمون الفيلم، فقام بتقسيمها على عدة فصول بما يلائم طبيعة كل مرحلة والحالة النفسية للشخصيات. وسارت الدراما على ثلاثة مستويات، إبراز شخصيتي دوان وداييه في الحياة العادية، طبيعة الشخصيات المطروحة من خلال الأوبرا، ثم هناك الخط الفاصل بين الجمهور والفيلم، وفيه تذوب الفروق تدريجيا بين الواقع والمتخيل. بالإضافة إلى تأثيرها وتأثرها – الأوبرا – بكل خط زمني مرت به.

تتشكل ماهية شخصيتي الفيلم خلال مرحلة التدريب على الأداء واختيار الشخصيات. تركيبة دوان الجسدية جعلته مؤهلاً لدور الملك، أما داييه فيكافح للعثور على ذاته ويتعثر مراراً وتكراراً خلال الفقرة التي تتحدث فيها شخصية المحظية عن كونها راهب تم اجباره منذ الصغر على التحول لفتاة كي يتم وهبه للملك. يتعمد داييه في تلك الفقرة أن يخطئ في جملة “أنا في الأصل صبي وليس فتاة”، كرفض داخلي منه لعدم تخليه عن كرامته ورجولته، لكنه سرعان ما يتحطم وينكسر تحت ظروف التدريب القاسية.

إن من أهم مبادئ الوجودية، الحرية. فالإنسان حر في اختياراته لا يحتاج إلى موجه أو مرشد. ولكيلا يجعل “كايجي” من داييه شهيداً، منحه الفرصة للهرب، لكنه عاد مجدداً بكامل رغبته. ففي ذلك الوقت، كانت الأوبرا تحظى بشعبية هائلة، وهو ما اكتشفه داييه خلال رحلة هروبه القصيرة حينما شاهد كم الحفاوة والاحترام التي يتمتع بها هؤلاء الفنانين. فيقرر العودة وتحمل سادية أساتذته في سبيل الحصول على مثل تلك اللحظة الآسرة. وهي الجزئية التي استخدمها “كايجي” مجدداً للتأكيد على فشل داييه في الهروب، ولكن هذه المرة من مصيره. فأثناء قبوله أداء دور المحظية تتقاطع صورته مع رسومات جدارية للحظة نحر عنقها، وكأن “كايجي” يحذره من عواقب السير في هذا الطريق.

بحث داييه المستمر عن ذاته جعله يخوض تجربة فردية قائمة على التخيل والأحاسيس الداخلية المشبعة بعواطف ورغبات ذاتيه بحتة، لذلك قام بمعايشة الواقع وجدانيا أكثر من معايشته عقليا، وبات الخط الفاصل بين الواقع والتمثيل ضبابي. وهو ما يؤكد مقولة “سارتر”، بأن الإنسان لا يستطيع أن يجد ذاته إلا بإطلاق العنان لرغباته وشهواته، بحيث يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ولا يبالي بالعرف أو الدين.

في الجزء الذي تبدي فيه المحظية إعجابها بالملك، يركز “كايجي” على علاقة الصداقة المشوهة، لنري داييه يحرص على هندام دوان وتزيينه باستمرار قبل كل عرض، فضلاً عن إيماءاته الجنسية المتكررة التي لا تلقي قبولاً لدي دوان. لذا لا يجد داييه متسعا للتعبير عن هذه المشاعر المكبوتة سوي من خلال المسرح، فهو بالنسبة له بديل لممارسة الجنس.

ظهور شخصية عاهرة دار الزهرات جوشيان (جونج لي)، زاد من تعقيد الأحداث وتوتر العلاقة بين داييه ودوان، خاصة بعد زواج الأخير منها. ليُحلق طيف الأم حول داييه مجدداً ولكن هذه المرة في ثوب جوشيان، ويتولد صراع عاطفي هرمي، رأسه دوان وقاعدته داييه وجوشيان.

حياة وموت بحد السيف

إن “وداعا ياخليلتي” فيلم غني بالرمزية، فظهور السيف بشكل مكثف منذ البداية وحتى النهاية حمل العديد من الدلالات المرتبطة بالشخصيات الرئيسية، فهو يرمز إلى الشغف والمأساة في حياة داييه.

في المرة الأولي التي يظهر فيها السيف يكون داييه ودوان في مرحلة الطفولة، وعلى وشك تقديم عرضهم “وداعا ياخليلتي” أمام الارستقراطي المتقاعد زانج، سليل عائلة تشينج العريقة. عقب انتهاء العرض، يتباهى دوان بالسيف أمام داييه ويخبره بأنه لو أصبح إمبراطورًا لتوج صديقه المقرب ملكة القصر، ليرد داييه على الفور بأنه يريده أن يمتلك سيف كهذا، في إعلان صريح عن مشاعر الحب الأبدي التي يكنها له.

وخلال الليلة التي يتعهد فيها دوان بالزواج من جوشيان، يغضب داييه ويقدم نفسه للسياسي الثري يوان، وبالصدفة يجد عنده نفس السيف القديم والذي استولي عليه بعد افلاس زانج. يسارع داييه بحمل السيف إلى دوان، لكنه يشعر بالصدمة بعدما يكتشف أن رفيقه نسي وعده الطفولي منذ فترة طويلة.

ومن المفارقات أيضاً، أن الشخصية الوحيدة التي تعترف بقيمة هذا السيف هي منافسة داييه، جوشيان. بعد الحرب الصينية اليابانية، اتُهم داييه بالخيانة، فقامت جوشيان بأخذ السيف إلى يوان وحثته على انقاذ داييه. وأثناء الثورة الثقافية، عندما تم التخلي عن الرموز المسرحية المحظورة، ترفض جوشيان التخلي عن السيف على مسؤوليتها الخاصة. فهي تعرف أن هذا السيف هو حياة داييه. أما في نهاية الفيلم، عندما يؤدي داييه ودوان عرض “وداعا ياخليلتي” للمرة الأخيرة، ينهي داييه حياته مع هذا التذكار (السيف)، ظنا منه أنه رمز لحب دوان اللانهائي.

عبثية الحياة بين الألم والسأم

“لم يغفل كايجي الأحداث السياسية المتلاحقة التي شهدتها الصين، وأخذ يتنقل بين الخاص والعام محاولاً من خلالهما تعرية مشاعر الانسان الدفينة والملتبسة.”

منحت وتيرة الأحداث المتصاعدة الكثير من الحيوية للقصة التي صاغها المؤلفين ليليان لي ولو وي. فبالرغم من طبيعة العلاقة النفسية المعقدة بين داييه ودوان، إلا أن “كايجي” لم يغفل الأحداث السياسية المتلاحقة التي شهدتها الصين، وأخذ يتنقل بين الخاص والعام محاولاً من خلالهما تعرية مشاعر الانسان الدفينة والملتبسة.

فبعد انسحاب القوات اليابانية من الصين وانتهاء الحرب العالمية الثانية، يصبح الفيلم أكثر شمولية واتساعا في مناقشة البعد السياسي واتصاله الوثيق مع خط الأحداث العام، خاصة مع دخولنا مرحلة حكم الشيوعيين وعصابة الأربعة والثورة الثقافية.

رصد “كايجي” الحالة التي بات عليها المسرح خلال تلك الفترة معتمداً على تجريد الصورة من اثار الحقبة الإمبراطورية، وهذا كان واضحاً في اندثار عناصر رئيسية كالأغاني والألعاب البهلوانية والملابس الزاهية، كذلك الخلفيات المزركشة التي تم استبدالها برسومات لأبراج الكهرباء كدليل على ازدهار فترة القفزة الكبرى.

انتجت هذه الحقبة شخصية شياوسي (لي هان)، ذلك الفتي الذي عثر عليه داييه رضيعا داخل أحد قصور النبلاء نتيجة لعلاقة غير شرعية، ثم أودعه بفرقة الاوبرا حيث نشأ وتعلم. لكنه بمرور الوقت وجد أن الجهد والعرق ليسا هما السبيلين الوحيدين للنجاح، وأن هناك طريقا آخر وهو التملق، سلاحا سيشهره لاحقاً في وجه داييه، الذي لطالما رآه مجرد تابع وضيع.

ساهم طموح شياوسي في تصعيد الأحداث واثراء البعد السياسي، فتعنيف داييه المستمر له جعله يكفر بالتقاليد المسرحية التي شاب عليها وبدأ بتملق الطبقة الحاكمة، يهتف ويرقص في تظاهراتهم، ليتحول الثعبان إلى تنينًا مدمراً. قوة جذبت الفتي دون أن يؤمن بها لكنه وجهها لكسر واذلال داييه ودوان معاً، فهما بالنسبة إليه وللمجتمع أيضاً مجرد رمزين لعهد بائد.

هذا الجيل من الشباب والمراهقين كان أساساً لما يعرف بالحرس الأحمر، الشعلة الأولي التي انطلقت منها الثورة الثقافية في منتصف الستينيات، وكانت مهمتها مهاجمة البيروقراطية المحلية وتنديد الشخصيات ببعضها البعض علنا، والتخلص من كل رمز يمكن اعتباره “برجوازيا” أو “إقطاعيا”، فتم حرق المكتبات ونهبت المعابد والمتاحف وأبيد جزء كبير من تراث الصين الثقافي.

تركت تلك الفترة بصمة واضحة على شريط “كايجي” السينمائي، فلقد كان من بين الشباب الذين تم إدخالهم في صفوف الحرس الأحمر وأجبر على التنديد علنا ​​بوالده المخرج تشين هواياي، وندم بشدة على هذا الفعل لاحقاً. لذلك حاكي هذه الأحداث في واحد من مشاهد الفيلم القاسية، يتم خلاله جر فناني أوبرا بكين بملابسهم المسرحية التي تعود إلى الحقبة الإمبراطورية، وأرغموا على حرقها والتنديد ببعضهم البعض علنا.

لحظة مهيبة كان الخوف محركها الأساسي لدرجة لا تجعل الفرد يتردد في التخلي عن أقاربه وأصدقائه للنجاة بحياته. وبالفعل يندد دوان بداييه ويتهمه بالخيانة، ويكشف داييه حقيقة جوشيان بأنها عاهرة ليتم سحقها هي الأخرى بلا رحمة بين جموع الناس وتلقي مصيراً مروعا في نهاية المشهد.

إن بقاء أوبرا بكين على الإطلاق خلال خمسة عقود من الاضطرابات أمر مدهش كتقليد ثقافي صيني أصيل ورمزية واضحة على صمود المسرح وبقائه على مر العصور. لذا جاءت خاتمة الفيلم كامتداد للمشهد الافتتاحي، لتتجلي خلاله حالة ثبات الأوبرا بكين وسط الفوضى المحلية وفي التلازم المهني والروحي والعاطفي الذي لا يمحى بين هذين الفنانين رغم مرور أكثر من عقد على لقائهما الأخير.

لم يتعثر داييه في مشهد الرقصة الأخيرة كما كان يفعل من قبل، وردد جملة “أنا في الأصل صبي” بيقين تام هذه المرة، فلعله أدرك أخيراً حقيقة ماهيته الوجودية، فالحياة بنظره باتت عدمية وعبيثة لا معني لها، وبالتالي لا جدوى ولا مفر من الانتحار، فهو كان يفضل الموت بأي حال من الأحوال بين يدي رفيقه الأبدي دوان. لذا حذا حذو المحظية بعدما أصبح أنين القلب يحجب ألام الجسد، في مشهد بديع ذات وقع سريالي اختلطت فيه الحياة بالفن والواقع بالخيال.

Visited 34 times, 1 visit(s) today