البحث عن النفط والرمال.. والسينما!
استمتعت كثيرا بمشاهدة الفيلم التسجيلي “البحث عن النفط والرمال” في مهرجان أبوظبي السينمائي. لم أكن أعرف كثيرا عن مخرجي الفيلم وهما فيليب ديب ووائل عمر. المعلومات المنشورة في دليل المهرحان تقول إن ديب فرنسي من أصل لبناني نشأ في القاهرة، والثاني مصري درس السينما في بوسطن بالولايات المتحدة.
لكن من حضر ممثلا للفيلم إلى مهرجان أبوظبي هو محمود ثابت، وهو مصري يقيم في فرنسا، وابن عادل ثابت الذي ينتمي بصلة قرابة للملك فاروق، وكان والده قد أصدر في لندن كتابا في أوائل الثمانينيات عن علاقته بالملك فاروق بعنوان “فاروق الذي خانوه” Farouk, A Betrayed Kingصدرت له ترجمة في التسعينيات في القاهرة بعنوان “فاروق الأول الذي غدر به الجميع”.
سحر السينما
“البحث عن النفط والماء” فيلم عن الماضي، عن السينما وسحر السينما، وعن مصر التي كانت ثم كيف أصبحت، ولكن من خلال وجهة نظر أحادية، عي رؤية طبقة حرمت لعقود طويلة من أن تعبر عن رأيها فيما حدث وما كان منذ انقلاب 1952 الذي أطاح بالملك فاروق وبحكم أسرة محمد علي إلى الأبد. المتحدث الرئيسي في الفيلم هو محمود ثابت نفسه، المسؤول الأول عن إنتاج الفيلم، فهو الذي ظل ينقب إلى أن عثر على نسخة 8 مم من فيلم قديم صورته مجموعة من أعضاء وأصدقاء الأسرة المالكة قبيل انقلاب يوليو 1952 مباشرة.
يقول محمود ثابت إن الفيلم الأصلي (وكان بالألوان) حرق مع مخلفات الأسرة في مصر بعد أن استولت الحكومة (حكومة الضباط) على قصر الأسرة، وتمكن هو من العثور على تلك النسخة فيما بعد (بالأبيض والأسود) وهو الفيلم الذي يعتبر العمود الفقري لفيلمنا هذا.
مخرج الفيلم القديم هو عادل ثابت نفسه. ويشترك في الفيلم بولنت رؤوف زوج الأميرة فائزة شقيقة الملك فاروق، ونيفين حليم ابنة الأمير عباس حليم حفيد محمد علي باشا، الذي كان بالمناسبة، مغرما بالاشتراكية وموسسا لعدد من النقابات العمالية، ونيفين هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة من أبطال الفيلم وقد ظهرت معلقة على الفيلم وعلى التطورات السياسية في مصر حتى اليوم، وتمثل في الفيلم القديم أيضا فرنسيس رامسدين، زوجة عادل ثابت ووالدة محمود، وكانت قد قدمت إلى مصر بعد تجربة أو أكثر لها في التمثيل في أفلام بهووليوود، ووقعت في حب مصر وتزوجت من عادل ثابت.. كما اشترك في الفيلم جيمس موراي مساعد السفير الأمريكي في مصر وقتذاك ومسؤول سابق في السفارة البريطانية.
الفيلم داخل الفيلم هو فيلم بسيط في تكوينه، فالإنجليز يقومون باختطاف أميرة، إبنة حاكم مملكة وهمية في الشرق الأوسط، والهدف من هذا إبتزاز الحاكم من أجل الحصول على النفط، في حين يسعى الأمريكان لإنقاذها، والفيلم يدور في أجواء التنافس بين الطرفين للسيطرة على النفط. وتظهر مجموعة من البدو الذين جلبهم صناع الفيلم لكي يساعدوا في إنقاذ الفتاة. يصور الفيلم كيف يأتي الفارس البطل (صلاح) على حصانه لكي يخلص الأميرة المخطوفة في النهاية، على غرار أفلام المغامرات البدوية الغربية التي كانت تفتن الغرب في بدايات السينما ومنها فيلم “إبن الشيخ” الذي قام ببطولته رودلف فالنتينو.
والفيلم القديم صامت وتستخدم فيه اللوحات المكتوبة التي تشرح الحوار المفترض، على طريقة السينما الصامتة. وقد تم تجميع مشاهد الفيلم من واقع المواد السريعة التي كانت ترد بعد التصوير (ما يسمى بالنسخ السريعة أو الـ rushes)، بعد اختراق الفيلم المتكامل حسبما صرح محمود ثابت
نبوءة
لكن الفيلم القديم الذي يدلل على اهتمام الأرستقراطية المصرية والأسرة الملكية بالسينما والفنون، يصور كيف كانت المجموعة التي صنعت الفيلم تملك من الخيال ما يجعلها تقدم شبه نبوءة لما وقع بعد فترة قصيرة للغاية من تصوير هذا الفيلم، أي انقلاب ضباط يوليو على الملك فاروق، وكيف أيد الأمريكيون الانقلاب وشجعوا الضباط على السيطرة على السلطة في مصر، تحت تصور أنهم سيتمكنون من خلالهم، من السيطرة على مصر ووراثة الاستعمار البريطاني التقليدي القديم الذي كانت أمريكا قد قررت أن تطرده من مستعمراته وتسيطر عليها بطرق جديدة بعد الحرب العالمية الثانية. هذه النقطة تحديدا، أي علاقة ضباط يوليو بالأمريكيين يتحدث عنها تفصيلا في الفيلم محمود ثابت.. الشخصية الرئيسية فيه والمعلق على أحداثه وصاحب اكتشاف الفيلم القديم. وهو الذي يروي أيضا كيف تنازل الملك فاروق عن الحكم دون إراقة دماء رغم أن البحرية ومعظم فرق الجيش المصري كانت تؤيده ولم تكن قد انحازت بعد إلى ضباط الإنقلاب الذين كانوا أقلية صغيرة داخل الجيش، وكيف اختار الملك الخروج السريع من مصر ورفض أن يعطي الأوامر للقوات البحرية بسحق التمرد حقنا للدماء.
وينتقل الفيلم من قصر الأميرة فائزة، أي قصر الزهرية الذي تحول إلى مدرسة وأهمل كثيرا بعد مصادرة أملاك أسرة محمد علي، إلى منزل عادل ثابت المهمل في الزمالك، إلى شهادة نيفين حليم على العصر، ما كان وما صار، ويستخدم المخرجان الكثير من المواد الوثائقية المصورة من الفترة التي سبقت الإطاحة بالملك فاروق، كما تظهر في الفيلم لقطات نادرة للأسرة الملكية وهي في الاسكندرية ومنها شخصيات أميرات يسبحن في البحر، ولقطات للدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين، وللملك فاروق في حياته الشخصية، قبل وبعد أن طرد من مصر وهو على ظهر الباخرة الملكية “المحروسة” التي نقلته من مصر وعند وصوله إلى منفاه في كابري بإيطاليا، إلى جانب لقطات نادرة لشارع الإهرام عام 1952، وشاطيء الاسكندرية وشوارعها في العام نفسه، ولقطات للمزاد الذي أقيم في قصر القبة لبيع مقتنيات فاروق، وغير ذلك.
والطريف أيضا أن المخرجين يأتيان بعدد من البدو من أقارب البدو الذين شاركوا في الفيلم القديم ومازالوا على قيد الحياة، يعرضان عليهم الفيلم ويسجلان تعليقاتهم وذكرياتهم وأحدهم – على سبيل المثال- يتعرف على عمه، كما تتذكر الأميرة نيفين أيضا المشاهد التي أدتها في الفيلم بنوع من الحنين (قامت بدور الأميرة المخطوفة) ولكنها تشعر بأسى لما آلت إليه الأمور اليوم في مصر. ويعقفد الفيلم مقارنة سريعة بين نزول الجيش إلى شوارع القاهرة في 1952 ونزول الجيش إلى شوارع مصر بعد ثورة 25 يناير.
نظرة أحادية
هذه العلاقة بين الماضي والحاضر، وبين الأرستقراطية المصرية والثورة، وبين الأمريكيين والبريطانيين، وبين الضباط والشعب (هناك الكثير من اللقطات النادرة لضباط الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ومحمد نجيب وغيرهما) لا يتم تقديمها من وجهة نظر “موضوعية” أو محايدة، بل من خلال رؤية أحادية واضحة في انحيازها من البداية بل ولا تخفي انحيازها للماضي، للملكية، لمصر التي كانت أجمل وأفضل وأكثر رونقا وتقدما وتحضرا وأقل في عدد السكان كثيرا، وأكثر نظافة وحرية، حسبما يرى محمود ثابت الذي يروي ويعلق ويصطحبنا إلى الكثير من الأماكن القديمة في الفيلم.
ويتابع محمود مصائر الشخصيات التي اشتركت في الفيلم القديم، ومنها محمود ناموق الذي اعتقل في العراق وأرسل إلى مصر حيث مات في سجن طره عام 1956، أما الأمير حسن حسن فقد أصبح رساما يبيع لوحاته ويعيش من عائدها، ووالده الذي قبض عليه بعد الانقلاب بسنوات، في قضية تخابر لحساب فرنسا، ثم أطلق سراحه بعد أن ثبتت براءته، وتمكن مع زوجته، والدة محمود، من الهرب من البلاد واللجوء إلى ألمانيا حيث عاشت الأسرة في بون.. بالقرب من مبنى السفارة المصرية هناك. وفيما بعد تمكن رؤوف بولنت (وهو من أصول تركية) من اللحاق بأسرة ثابت التي استضافته- كما يروي محمود- في شقتهم الصغيرة في بون، حيث قضى سنتين ينام تحت طاولة في المطبخ!
ومن الطبيعي أن يكون الفيلم كذلك، أي أحادي النظرة، نوستالجي الطابع، كما أن من الطبيعي أن يكون فيلم كهذا انطباعيا وليس تحليليا، وانتقائيا ذاتيا وليس موضوعيا، لكنه يبدو من الناحية البصرية، ممتعا، بفضل اللقطات الجديدة التي لم نرها من قبل، والتي تعكس بدقة أجواء تلك الفترة من تلك مصر.
“البحث عن النفط والرمال” شهادة تحمل وجهة نظر، ووثيقة على عصر مضى.