أوراق القاهرة السينمائي- 5: “جلال الدين.. الحقيقة هي الحب
أمير العمري- القاهرة
فيلم جريء آخر من المغرب هو “جلال الدين” للمخرج حسن بنجلون، صاحب البصمة الخاصة على الإنتاج السينمائي المغربي. فيلم جريء، يناقش موضوعا معقدا بأسلوب مركب، يصيب حينا، ويضل الطريق حينا آخر، لكنه يبقى في النهاية، عملا يثري الفكر ويدعو للتأمل. وقد عرض الفيلم بالمسابقةالرئيسية للأفلام الطويلة بالدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي.
من الوهلة الأولى يبدو وكأن الفيلم يتمحور بين الخير والشر كما لو كان هذا الانقسام أمر فطري. وهناك كثير من الإشارات والعلامات التي يمكن أن تدعم هذا التقسيم كما سنرى، لكنه ليس كذلك بالضبط، فالخير والشر قضية نسبية، تلعب فيها الظروف والبيئة المحيطة دورا أساسيا. وأما غرابة الشخصيات فتنبع من مواقفها واختياراتها في الحياة، وهي قد تبدو أيضا اختيارات غريبة تخالف المنطق المعروف السائد.
شخصية “جلال الدين” (ياسين أحجام) شخصية مركبة، فهو رجل ثري، يمتلك ضيعة يربي فيها الخيول، ويعيش حياة هانئة مع زوجته “هيبة” (فاطمة ناصر) التي يحبها كثيرا ولا يستطيع أن يتصور حياته من دونها. لكنها مريضة مرضا خطيرا، لا يفصح عنه الفيلم، وأيامها في الحياة معدودة، لكنها تستقبل الموت بصدر رحب، فقد عاشت حياة سعيدة مع جلال الدين. وسوف نعرف فيما بعد، مع تطور الأحداث، أن “هيبة” تونسية التقت بجلال الدين عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها وكان هو يتيما، فأحبته وارتبطت به وجاءت معه إلى المغرب كما تقول، وتبرا منها أهلها لهذا السبب. أنه ان كلاهما عاشا الوحدة الاغتراب.
لكونها عاجزة عن اشباع رغباته، ولفرط حبها لجلال تشجعه “هيبة” على أن يبحث عن المتعة مع غيرها، وأنها لن تتألم أو تشكو بل ستسعد لما يسعده. فشخصية “هيبة” تلك السيدة الجليلة، هي أساسا شخصية فيها الكثير من الملامح الصوفية التي تؤمن بالتسامي وتستمد السعادة من اليقين والروحاني. وهي تسجل شبه يوميات في دفتر صغير، تفضي من خلالها بمشاعرها وأفكارها التي نسمعها عبر شريط الصوت، في سياق شعري. ولا شك في وجود علاقة بين الفيلم وبين فلسفة الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، فالفيلم يقتبس الكثير من المعاني التي تتردد في كتاباته وأشعاره الصوفية، خصوصا مما سيتردد على لسان الشيخ مولاي عمر ثم جلال الدين بعد تصوفه.
يختار حسن بنجلون، الذي كتب كعادته، سيناريو فيلمه، تجسيد فكرته حول التسامح والتسامي، من خلال خلق علاقات شديدة التنافر، أو بين النقيض والنقيض. فهو يجعل “جلال الدين” يقابل امرأة تعمل في محل للساونا والتدليك، كغطاء للدعارة، تدير المكان سيدة تدعى “فضيلة” (يجب أن نلاحظ هنا التناقض بين الاسم وحقيقة الشخصية) وهي تجلب الفتيات اليتامى من عمر صغير، وتتولى تربيتهن وتعليمهن كيف يرضين الزبائن من الرجال. ومن بين هاته الفتيات “ربيعة” (فاطمة الزهراء بلادي) التي يوحي الفيلم بأنها تغوي جلال الدي وأن الفعل الجنسي يحدث بينهما، رغم أنها تؤكد فيما بعد أنه لم يلمسها، لكننا سنراه في (شرائط فضيلة) المسجلة، يلمسها وأكثر من ذلك!
المشكلة أن “عادل” الابن الشاب لهيبة وجلال الدين، يقع في حب “ربيعة”، ويتزوجها رغم معرفته بماضيها الشائن. لماذا قبل بهذا؟ يبقى الأمر لغزا كبيرا، لا يفسره الفيلم ولا يتوقف أمامه كثيرا بل إنه يجعل جلال الدين يتغاضى عن الأمر عندما يقدم له ابنه عادل ربيعة باعتبارها المرأة التي سيتزوجها. من الممكن أن تحدث مثل هذه الأمور بالطبع، لكن عادة يكون لها أساس، وربما يكون تغاضي جلال الدين نابع من فكرة التسامح الذي يؤمن به، التسامح إزاء كل الخطايا البشرية. لكن المسألة هنا أكثر تعقيدا لأنه قضى وطره معها بالفعل، وربما يكون مؤمنا بحرية الارادة البشري، كما يردد فيما بعد، أي ترك كل انسان يختار طريقه بنفسه.
على أي حال، المشكلة ليست في العلاقة العابرة التي ستحدث بين جلال الدين وربيعة، فبعد وفاة هيبة، سيضطرب جلال الدين ويذهب إلى زاوية الشيخ الصوفي (مولاي عمر) التي تقع في منطقة ريفية جميلة خارج المدينة، ينشد العثور على اليقين والصفاء الذهني والتسامي الروحاني، تاركا خلفه كل شيء، المنزل الكبير والثروة والعائلة والإبن “عادل”. والفيلم يدور بين مستويين في الزمن، فهو يبدأ بوصول جلال الدين الى الزاوية الصوفية لمولاي عمر، لكننا سنعود إلى الماضي لكي نرى كيف وصل هو إلى هذا المنعطف الكبير من حياته. بعد ذلك، سنقفز عشرين عاما في الزمن، بعد أن يكون “عادل” قد تزوج ويفترض أن يكون أبضا قد أنجب ابنه “وليد” أي حفيد جلال الدين (وهناك إشارات كامنة إلى أنه قد يكون أيضا ابنه).
لقد رأينا في الماضي كيف أن ربيعة (التي روت لجلال أنها كانت ضحية استغلتها فضيلة أبشع استغلال وأنها لم ترض قط عن مهنتها الشائنة) وشت بفضيلة الى الشرطة قبل أن تغادر المنزل، فتهاجم الشرطة المكان وتقبض على فضيلة والفتيات وتكون النتيجة خمس سنوات في السجن، تخرج بعدها فضيلة تنشد الانتقام أو إعادة الاعتبار من جانب ربيعة – كما تقول- دون أن نفهم ما المقصود بالضبط من “إعادة الاعتبار”. وربما كان الأمر سيصبح أكثر اتساقا لو اقتصر على ابتزاز ربيعة واستغلال زواجها من عادل الثري.
على النقيض من عادل، المادي العملي الذي انقطعت صلته بوالده جلال تماما منذ أن غادر واعتزل، يبدو “وليد” الحفيد الذي يبدأ في البحث في تاريخ جده ويقرأ كتبه، وبعد أن كان يريد التخلي عن دراسته لكي يذهب الى الهند بحثا عن اليقين الروحي، الآن يقرر الذهاب الى جده ليبقى معه في العزلة التي اختارها والتي لا يراها عزلة بل يقول إنه منفتح على العالم بأسره، مرددا أفكار جلال الدين الرومي في قبول جميع البشر من جميع الألوان والأجناس والأديان. أي الإيمان بوحدة الوجود، والتوحد بين الانسان والخالق.
جلال الدين كأحد شيوخ الطرق الصوفية، لا يستند فقط الى فلسفة الرومي، بل ويستعين مثله بالموسيقى الروحية والذكر والاشعار والغناء (والرقص) للتعبير عن التسامي والرغبة في الوصول إلى الله. ولعل من أجمل مشاهد الفيلم تلك التي تدور في هذه الأجواء، وأجاد بنجلون إخراجها وضبط الحركة ف يداخلها، وتنويع اللقطات والزوايا. وفي مشهد عصري تماما، تجري مذيعة تليفزيونية حوارا مع الرجل عن فلسفته ونظرته للحياة، وحينما تسأله عن التطرف الإسلامي الذي يسقط فيه بعض الشباب، يدينه إدانة شديدة.
كان يصلح مشهد التحاق الحفيد بالجد، وكيف تصور الكاميرا اللقاء من زاوية مرتفعة على خلفية موسيقى شجية، ثم قيام الحفيد بتسليم الجد كتاب اليوميات التي كانت تسجلها هيبة، خاتمة مناسبة ومؤثرة للفيلم، إلا أن بنجلون فضل أن يعود لكي يستكمل الجانب الآخر من الفيلم، أي الصراع بين “فضيلة” التي تجسد الشر رغم رعايتها للفتيات اليتيمات، وبين عادل المادي المنصرف عن الروحانيات، وكيف تدمر فضيلة حياة عادل عندما تكشف له تسجيلات (فيديو) كانت قد صورتها للقاء الذي جمع في الماضي بين ربيعة وجلال الدين!
يتميز الفيلم بحركة كاميرا بطيئة، تسير بتؤدة وكأنها تعكس الحيرة التي تنتاب جلال الدين بعد وفاة زوجته التي كان يحبها كثيرا، والصورة بشكل عام في الفيلم جيدة مع ضبط التكوينات التي تعكس وعيا تشكيليا بمفردات اللقطة، وخصوصا في مشهد الجنازة، وهو مشهد لا يسقط في الفولكلور لأن بنجلون لا يستغرق فيه طويلا بل يكتفي بملامحه الخاصة، ثم ينتقل الى ما بعده، وهناك أيضا استخدامه الرمزي للمهرة كرمز للرغبة الجنسية، فربيعة هي التي تأتي بالمهرة التي اشتراها جلال الدين، لتسليمها إلى عادل، حيث يتبادل الاثنان النظرات التي تعكس الإغراء الأنثوي والرغبة. وأما مشهد وفاة هيبة فجاء مصطنعا وكان يمكن تقديمه بصورة أقل افتعالا.
هناك أيضا استخدام جيد لفكرة المادة التي تدهن بها فضيلة الشريرة وجهها لتزيده قبحا، في مشهد يدور بعد خروجها من السجن وعودتها الى بيتها، واستدعائها ربيعة ومواجهتها، مع تكرار الممثلة التي أدت الدور ببراعة كبيرة، الحركة التي تقوم بها، فتلمس خدها المدهون بتلك المادة التي تلمع ثم تدس اصبعها في فمها.
ولعل من ميزة الفيلم أنه يدفعنا إلى طرح بعض التساؤلات مثل:
هل كان جلال الدين محقا في اتخاذه طريق الاعتزال داخل الزاوية واللجوء إلى التأمل والبحث عن السعادة الشخصية واليقين الديني، مع إهمال عائلته كلها بل إنه حتى لا يتأثر أو يبالي عندما تزوره “فضيلة” في عزلته وتخبره بأنها يمكن أن تدمر حياة ابنه وتطالبه بالتدخل وإجباره على رد الاعتبار إليها؟
هل كانت ربيعة مخطئة عندما امتنعت عن مصارحة عادل بما وقع بينها وبين أبيه في الماضي وفضلت إخفاء الحقيقة عنه كما أخفت حقيقة سيرة حياتها السابقة عن ابنها وليد؟
وهل كان عادل منطقيا منصفا لنفسه ولابنه عندما قبل الزواج من عاهرة تائبة يمكن أن يعود ماضيها ليطاردها في أي لحظة؟
الحقيقة أن كلها شخصيات فيها تجمع بين المتناقضات كما ذكرت في مستهل هذا المقال. ولذا فهي تدعو للتأمل والتفكير، وهذه ميزة تحسب للفيلم.
أعجبتني عبارة قالها “مولاي عمر” عندما سأله جلال الدين عن الحقيقة، فقد قال: الحقيقة يا بني هي مرآة سقطت من يد الله إلى الأرض وتحطمت. وتناول كل انسان قطعة صغيرة منها. وهي بالتالي ليست شيئا واحدا بل متعددة الأوجه، وهي داخل كل إنسان ولكن على المرء أن يبحث عن النور، نور الحقيقة في داخله”.
أدت فاطمة ناصر دور “هيبة” ببراعة مؤثرة، وبدت بجمالها الهاديء ونظراتها الحزينة ووجهها الناعم، متماهية مع الشخصية الصوفية القانعة بحياتها الماضية، التي تستقبل الموت دون وجل.
وأدت فاطمة الزهراء بجمالها المثير، دور العاهرة في البداية بقوة الإغراء والفتنة التي تخفي في داخلها شعور بعدم الارتياح والقلق. ثم أصبحت أكثر ثباتا بعد ذلك في دور الزوجة التي تحاول أن تستمر في الحياة دون أن تفارقها الهواجس بشأن ما يمكن أن يصيبها. هل كان لابد أن تدفع الثمن في النهاية كنوع من العقاب على “الإثم” الذي اقترفته في شبابها؟
أما ياسين أحجام في دور جلال الدين فظهر في القسم الأول من الفيلم وكأنه مصارع أو رجل قوي شهواني لا يتورع عن الجري وراء نزواته الشبقة، في تناقض مع صورته المفترضة كعاشق يبث زوجته كلمات الغرام العذبة، الذي لا يطيق عنها فراقا. لكنه أصبح في الجزء الثاني بعد أن خلف مولاي عمر ليصبح الداعية الصوفي، أكثر انسجاما وتأثيرا وتماهيا مع الشخصية، خصوصا بعد أن تبدلت ملامحه.