أفلام لا تنسى: “مصروف الجيب” لفرنسوا تريفو
قد لا يطاول فيلم”مصروف الجيب”أعمال فرنسوا تريفو الكبيرة من قبيل”الضربات الأربعمائة “و”جيل وجيم”و”حورية المسيسيبي” و”الليلة الأمريكية”و”المترو الأخير”وغيرها، لكنه يبقى واحدا من أجمل أفلامه وأكثرها خلودا في الذاكرة السينفيلية ، وهو كذلك أحد النجاحات الجماهيرية القليلة للمخرج، إذ حقق ميلوني تذكرة عند عرضه الأول في فرنسا نهيك عن الاستقبال الكبير الذي لقيه خارج فرنسا .
حمل الفيلم في نسخته الأصلية عنوان ”مصروف الجيب”، وطُرح في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة باسم ”قطع نقدية صغيرة”، يحتفظ أرشيف السينماتيك (الخزانة السينمائية الفرنسية) بتسجيلات لعملية الكاستينغ لاختيار الممثلين الأطفال، كان خلالها تريفو يختبر حسن إلقائهم بسرد المقطع الذي وظفه في الفيلم من مسرحية البخيل لموليير، ثم كان يختبر قدرتهم على الارتجال بالإجابة عن سؤال مؤداه ”ماذا يمثل مصروف الجيب بالنسبة إليك؟
كان مصروف الجيب هي الكناية التي عبر بها تريفو عن مرحلة الطفولة التي عشق دائما تصويرها في السينما، فقدم ”الملاعين” و”الضربات الأربعمائة” و”الطفل المتوحش”، يحكي بعض ممن عملوا إلى جانبه في الفيلم أنه أراد بعد التصوير المُرهق في فيلم ”قصة أديل هوغو” إنجاز فيلم خفيف متحرر من أنماط السرد التقليدي مع رغبة في الابتعاد عن أجواء التصوير في باريس، فاهتدى إلى بلدة تيير في وسط الجهة الجنوبية الشرقية من فرنسا، وبفضل الفيلم حازت البلدة الصغيرة شهرة في العالم كله، وكانت تلك إحدى الحالات الكثيرة في السينما التي ساهم فيها فيلم في الدعاية السياحية لموقع التصوير.
يعرض تريفو جنريك البداية على إيقاع موسيقى تصويرية متسارعة عبرت ببنيتها الإيقاعية عن إثارة الأطفال وهم ينزلون منحدرات مدينة تيير التاريخية جريا، مما يعطي الدليل مرة أخرى لصناع الأفلام عندنا أن الموسيقى التصويرية ينبغي أن تكون مدروسة لا أن تٌدس عنوة لمرافقة المشهد أو اللقطة .
لم يعتمد الفيلم طريقة السرد التقليدية المعتمدة على وحدة القصة وتصاعدها وصولا إلى العقدة ثم الحل، وإنما بني الحكي على مجموعة اسكتشات أو سميها مقالب يمكن أن يأتيها الصغار في كل زمان ومكان وفي أية بيئة، وقد يبدو أن الفيلم لم يعتمد السيناريو – البرنامج المرسوم مسبقا و نفذ بطريق السيناريو المرتجل تبعا لتقدم التصوير كما هو نهج كثير من مخرجي الموجة الجديدة، لكن استقلال قصص الأطفال وبورتريهات أصحابها عن بعضها لم يمنع من أن الفيلم جاء متماسكا في بنيته العامة، يحكي تريفو أن فكرة العمل لازمته منذ ”الضربات الأربعمائة “، و كان يقص الحكايات والمواقف الطريفة التي يصادفها عن الأطفال في الصحف ويحتفظ بها، و عبرها رسم شخصيات أبطال قصته، إلى أن قدر في صيف 1975 أن مشروعه بات جاهزا للتنفيذ.
تدور مجمل الأحداث في فضاء ناظم هي المدرسة الابتدائية المحلية، في زمن لم تعرف فيه فرنسا بعد تجربة المدارس المختلطة، حيث كان للبنين فصول خاصة بهم كما للبنات فصول خاصة بهن، اختار تريفو سرد يوميات أطفاله من خلال فصلين دراسيين، فصل المعلم السيد ريشيه وفصل المعلمة الآنسة بوتي، وخارج المدرسة رسم تريفو بورتريهات للآباء وبعض الساكنة في علاقتهم بالأطفال.
حرص تريفو على انتقاء شخصيات أبطال فيلمه من جميع الطبقات الاجتماعية، وكان على مستوى المعالجة ينتقل بسلاسة من الكوميدي إلى التراجيدي.
يعيش باتريك وحيدا مع والده المقعد، هو طفل ذكي لكنه يعاني صعوبات في دراسته، يغرم بوالدة أعز أصدقائه لوران السيدة ريفل زوجة الحلاق، يشتري لها باقة ورد من النقود التي جمعها من غسيل سيارة الجار، لكنها للآسف تظن أن والده هو الذي أرسل الورود، تدعوه للعشاء ذات مرة فيلتهم جميع أطباقها الشهية بشراهة ليشكرها على طعامها الطفيف، غريغوري ذو السنتين ابن لأم عازبة يتعقب قطة في النافدة فيهوي من الطابق التاسع ليسقط على نباتات في الشارع دون أن يصاب بأذى، يقوم الأخوان كلوديو وفرانك دولوكا بحلق شعر ريشار كولفيي ويأخذان منه أجرة الحلاق ولما يكتشف والده المجزرة التي أصابت رأس ابنه يذهب ليؤنب الحلاق، سيلفي ابنة عميد الشرطة التي يعاقبها والديها بسبب عنادها بالذهاب إلى المطعم دونها فتستخدم مكبر الصوت الخاص بوالدها معلنة عن جوعها فتستلم طرود من الطعام عن طريق جسور من الحبال يربطها الجيران بين نوافذ شققهم، يقود برونو برويار أكبر الأطفال سنا باتريك لاكتشاف عوالم اللذة الجنسية لكن يفشل في إخراجه من حالة الارتباك والحرج.
أفيش نفذ للفيلم بترجمة حرفية للعنوان الفرنسي بالانجليزية
يلتحق جوليان لوكلو بالمدرسة مع قرب نهاية الموسم الدراسي وغالبا ما يظهر مغطى بالكدمات ويستسلم للنوم في القسم، وهو في الحقيقة طفل هامشي يعيش في دار صفيح وغالبا ما يمتهن السرقة وأحيانا ينام في الشارع العام.
أثناء إجراء الفحص الطبي الروتيني للتلاميذ يٌكتشف العنف الجسدي الذي يتعرض له جوليان على يد والدته وجدته التي يتم القبض عليهما، في اليوم الأخير من المدرسة يحاول المعلم السيد ريشي أن يشرح للتلاميذ مأساة جوليان، هنا صاغ تريفو واحدة من أشهر الخطب في تاريخ السينما الفرنسية بلغة شعرية جاءت مؤثرة حين تحدث صاحبها ببوح شخصي:
“لقد عشت طفولة مؤلمة، وأتذكر أنني كنت أستعجل أن أصير كبيرا لأنني كنت أعتقد أن الكبار يتمتعون بكل الحقوق.
ولأنه أحتفظ بذكرى سيئة عن شبابي و لا أحب الطريقة التي يعامل بها الأطفال، اخترت المهنة التي أمتهنها وهي أن أصير معلما، الحياة ليست سهلة ولكنها صعبة، ويجب أن تتعلموا أن توجهوها بصلابة انتبهوا لا أقول أن تصيروا جفاة ولكن أن تكونوا من الصلابة لتوجهوا الحياة، في توازن عجيب، الذين عاشوا طفولة صعبة يكونون عادة أكثر استعدادا لمواجهة حياة الكبار من الذين كانوا محبوبين كثيرا أو محميين أكثر… “.
في العمق كان السيد ريشيه يتحدث بضمير فرنسوا تريفو، فإذا كان الأول يشرح للتلاميذ الدواعي الشخصية التي جعلته يصير معلما، فإنما كان تريفو يشرح عبره للمشاهد دواعي تصويره لهذا الفيلم، على أن هذه الشهادة وإن جاءت طويلة نسبيا، فإن المتفرج لا يحس إزاءها بالملل لتماسك أجزائها وحسن إلقائها، لكن مع ذلك أستطيع أن أقول إن تريفو خانه التوفيق حين دخل في الحديث عن حقوق الطفل وارتباطها بالسياسة فتحول إلى واعظ شعبوي وابتعد عن خطاب السينمائي الطليعي.
في كل فيلم من أفلام تريفو، كان النقاد يتعقبون دائما جانب السيرة الذاتية في العمل، والمخرج نفسه وإن نفى أي ارتباط للعمل بسيرته الذاتية، فإن الشخصيات الثلاث التي سلط عليها الضوء أكثر من غيرها في الفيلم وهي باتريك دوموسو وجوليان لوكلو والمعلم ريشيه يحمل كل منها جانبا من شخصية فرنسوا تريفو في الحياة.
على مستوى الكاستينغ، لم يعتمد تريفو على ممثلين محترفين باستثناء تانيا تورنس التي لعبت دور السيدة ريفل التي يقع في غرامها الطفل باتريك، بينما قام بدور المعلم ريشيه جون فرنسوا ستيفنان الذي سبق وأن عمل مع تريفو في مهام المخرج المساعد، واعتمد تريفو في معظم الأدوار على ممثلين هواة انتقاهم في مدينة تيير بموقع التصوير باستثناء أدوار الأطفال باتريك وجوليان وبرنو الذين استقدموا من كاستينغ في باريس، في حديث صحفي علق تريفو على اختياره قائلا”صورت مصروف الجيب دون نجوم لأن النجم الحقيقي في فيلم عن الأطفال هي الطفولة ذاتها”.
في الفيلم يحضر تأثير ملهم تريفو ألفريد هيتشكوك على أصعدة، ففي محاكاة لهذا الأخير ظهر تريفو عابرا في بداية الفيلم في مشهد من بضع ثوان، وظهر التشويق الهيتشكوكي في انتقال الكاميرا بين الآنسة بوتي ووجه باتريك وعقارب الساعة حين عجز الأخير عن الجواب في الفصل وظل يماطل إلى أن ضرب الجرس، وحضر فيلم النافذة الخلفية من خلال اللقطات البانورامية للنوافذ المفتوحة على الفناء، وفي تذكير بجميس ستيوارت في الفيلم ذاته، يستخدم كلوديووفرانك المنظار المقرب أثناء فترة الاستراحة في المدرسة لمراقبة امرأة تخلع ثيابها في شقة مجاورة للمدرسة، ويراقب الرجل المقعد السيد دوموسو من نافذة شقته عامل العرض في السينما المجاورة.
كانت قاعة السينما إحدى الفضاءات التي وظفها تريفو في الفيلم، وذلك في مناسبتين، ربما لأن قاعة السينما هي الفضاء الوحيد الذي كان يسمح بجمع أبطال الفيلم في مكان واحد، ويكتشف متفرج اليوم أجواء المشاهدة في السبعينات من القرن الماضي، ولا ندري لماذا أصر الفيلم على ربط صالة السينما باللحظات الحميمية حيث تظهر المدرسة الآنسة بوتي مع صديقها في العرض الأول في لحظة حميمية تثير انتباه تلاميذها، ويلج برنو وباتريك الصالة في العرض الثاني لمرافقة الفتاتين اللتين التقطاهما من الشارع، في العرضين نلمح أفيشات مختلفة في بوابة السينما منها فيلم لزورو لكن في الداخل لا ينقل تريفو مقاطع من أي فيلم حتى من الأفلام التي صنعت شغفه السينمائي ووثق لها في كتابه ”أفلام حياتي”، وإنما اكتفى في العرضين معا بالنشرة الإخبارية السينمائية، في العرض الأول تدور الأحداث داخل القاعة بخلفية صوت المعلق من الشاشة يتحدث عن زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر في استحضار لحرب الجزائر التي كان لتريفو موقف مشهودا منها، وفي العرض الثاني الخبر في النشرة الإخبارية السينمائية متخيل ومن تأليف تريفو عن نجاح عروض المهرج أوسكار الذي ولد غداة تحرير باريس من علاقة بين جندي أمريكي من المحررين وفتاة فرنسية، وبسبب عجز كل واحد من والديه عن إتقان لغة شريكه، لم يتعلم الكلام وظل يتواصل مع محيطه بالصفير فقط، كانت تلك إضافة جميلة من فرنسوا تريفو باستخدام تقنية ”الفيلم داخل الفيلم”، فقد أضاف يورتريه آخر لقصص أطفاله، لكن هذه المرة على شاشة السينما على شكل تاريخ بالأبيض والأسود عبر تقنية الفلاش باك، لينقل فكرة أخرى مكملة عن تأثير انعدام التواصل بين الآباء على الأبناء.
يٌعاب على الفيلم اعتماده على اسكتشات لأطفال لا رابط بينها، ويظل الزمكان وحدهما الجامعين بين كل الأطفال الخمسة عشر الذين رسم المخرج بورتريهات لهم، لكن إذا قاربنا الفيلم من عنوانه، لاعتبرنا بأن تريفو أراد معالجة علاقة الأطفال بالمال من خلال مصروف الجيب، فهو الخيط الرابط بين أغلب القصص، باتريك يغسل سيارة الجار الآثرية كل أحد نظير فرنكات، الشقيقان دولوكا يستعملان كل الأساليب للحصول على المال لتحقيق رغباتهما، جوليان لوكلو لا يكف عن السرقة لاقتناء بعض قنينات الخمر لأمه مدمنة الخمور.
يشكل فيلم”مصروف الجيب” حالة فريدة في فيلموغرافيا فرنسوا تريفو، فقد نفذ بميزانية محدودة، ولم يعتمد سيناريو محبوك وإنما مجموعة مواقف لأطفال افتقرت إلى تسلسل في الأفكار وجاءت دون رابط بينها في أغلب الأحيان، مع اعتماد شبه كلي على ممثلين هواة لم تكن حسن إدارتهم هينة على تريفو، ومع كل النواقص التي يمكن أن نسجلها على الفيلم، جاء استقباله عكس كل التوقعات وفاق حتى أكثر إعمال تريفو إتقانا وصنعة، بدليل الإيرادات الضخمة التي حققها داخل فرنسا وخارجها، وإذا أمكنني أن ألخص الفيلم في جملة لقلت إنه”السهل الممتنع”.
اليوم ورغم انصرام ما يفوق الأربعين سنة على إنجاز ”مصروف الجيب” لايزالون يتحدثون عنه في فرنسا بنوع من الحنين فهو من الأفلام التي لا يٌمل من إعادة مشاهدتها، وبغض النظر عن القيمة الأكاديمية للعمل، فإنه يظل في اعتقادنا من الأعمال التي كرست سحر السينما، وكانت جواز سفره للجمهور العريض.