يوميات مهرجان كان 76 (7): الفيلم الأردني “إن شاء الله ولد”!

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري

“إن شاء الله ولد” عنوان له أكثر من وجه في أول فيلم أردني يعرض في مهرجان كان السينمائي، حيث عرض في تظاهرة “أسبوع النقاد” وجاء مفاجأة حقيقية بمستواه الفني الممتاز.

العنوان فيه نوع من التلاعب على فكرة التمني وكذلك بعض التهكم. وهو وثيق الصلة بموضوع الفيلم الذي يمكننا من أول مشهد أن ندركه: نعمة الحصول على ولد في مجتمع ذكوري بطبيعته. ولكن للموضوع تداعيات أخرى كثيرة ينسجها السيناريو بكل دقة وبراعة وتسلسل، كاشفا عن أوراقه ورقة تلو الأخرى، بحيث يستولي على اهتمام المتفرج، رغم ما قد يجده البعض من أن سياق السرد “تقليدي”. ولكن ما العيب في أن يكون السرد تقليديا فالمهم ان تستطيع رواية قصة تثير الاهتمام، وفن السينما اساسا، هو فن رواية القصص، وليس في السياق التقليدي عيب طالما أنك تملك أن تطوعه لتداعيات قصتك، كاشفا عن شخصيات فيلمك ومأزقهم، منتقلا من الخاص، الشخصي، العائلي، الداخلي، إلى العام، الناس، المجتمع، العالم. وهذا يرجع هنا في المقام الأول، إلى السيناريو الدقيق الذي يتجاوز كثيرا كل ما سبق أن جاء في أفلام من ذلك البلد، فهو بعيد كل البعد عن “السذاجة” التي تصبغ عادة أفلام الميلودراما التي تفسدها المبالغات الكثيرة.

هذا عمل احترافي واثق، لديه شخصيات واضحة، وحوارات مكتوبة بعناية شديدة، وواقعية مدهشة في الصورة وفي رسم وتجسيد جميع التفاصيل والمواقف، كما يتميز بالسيطرة على الأداء، وبقوة الإخراج الذي ينتقل بين المشاهد واللقطات، بحيث لا يفوت فرصة من دون أن يكثف موضوعه ويدفعه إلى الأمام، مضيفا كل ما يثريه بصريا ودراميا، في التعبير وفي الصورة، وفي التمثيل الذي يصل إلى أفضل مستويات الأداء.

“إن شاء الله ولد”، الذي كتب له السيناريو مخرجه أمجد الرشيد، (بالاشتراك مع رولا ناصر ودلفين أغوت) في أول فيلم روائي طويل له كمخرج (اشتركت في إنتاجه شركات من الأردن، فرنسا، قطر، السعودية) يسير في عدة خطوط: الخط الرئيسي يتصل بالشخصية الرئيسية “نوال” (منى حوا). وهي أم وزوجة، لديها ابنة هي “نورا” في السابعة من عمرها، لكنها تتطلع مع زوجها الى إنجاب “ولد”، فالولد مهم في الأسرة التقليدية العربية في هذه المجتمعات. وربما يكون المشهد الأول في الفيلم مشهد غير مسبوق بجرأته في الأفلام الأردنية والفلسطينية عموما، فنوال تخلع غطاء الرأس الذي لابد منه لنساء المسلمين في مجتمع الأردن المحافظ، وتتسلل إلى جوار زوجها في الفراش، تحاول إثارته وتدعوه بوضوح لممارسة الجنس في هذه الليلة التي تقول إنها ملائمة ويمكن أن تثمر المضاجعة فيها عن الحمل، لكن الزوج يمتنع بدعوى أنه مرهق، لكن الحوار يكشف عن شعوره بالإحباط.

تكتشف الزوجة في صباح اليوم التالي، أن زوجها مات أثناء نومه. وتصبح نوال فريسة لطغيان الواقع القائم: شقيق الزوج “رفقي” (هيثم عمري) يطالبها برد مبلغ كبير لا تملكه، كان قد أقرضه لشقيقه، ويحاول الضغط عليها لكي تبيع الشاحنة الصغيرة التي اشتراها الزوج وبقيت في مكانها الآن تسد مدخل عمارة مجاورة، لكن نوال لا تقبل ببيع السيارة كما لا تستطيع تحريكها من مكانها لأنها لا تعرف القيادة. وهي مشغولة أيضا بوجود فأر يظهر بين حين وآخر في المطبخ، تخشاه نوال بينما لا يبدو أن “نورا” تخافه!

مشكلة نوال أكثر تعقيدا من وجود السيارة والفأر، فطبقا للقانون الساري حسب الشريعة، فالورثة يطالبون بحقهم من الميراث، ونوال تملك الشقة التي تقيم فيها، وقد ساهمت بمالها في شراء كل من السيارة والشقة لكنها لا تملك عقودا موثقة تثبت ذلك، و”رفقي” يريد أن يرغمها على بيع الشقة للحصول على حقه وحق أخواته في الميراث طبقا للشرع والقانون، فهي لم تنجب ولدا. وأمام إصرار نوال على عدم بيع السيارة وتسديد القرض، يرفع رفقي قضية ضدها للحصول على “حقوقه” وإرغامها على بيع الشقة دون أن يراعي أنها يمكن أن تنتهي في الشارع، ولكي تؤجل النظر في القضية، تدعي نوال أنها حامل، لكن القاضي يقضي بضرورة عمل فحص شرعي لإثبات الحمل. ومن هنا ندخل في سياق آخر شديد التعقيد داخل المستشفيات والعيادات.

الخط الثاني في الفيلم يتعلق بعائلة مسيحية. فنوال التي تكتشف أيضا أن زوجها الراحل كان قد فقد وظيفته قبل أربعة أشهر، تضطر للعودة إلى العمل كمشرفة تمريض لدى “سعاد” (سلوى نقاره) وهي سيدة متجبرة عنيدة، تتولى نوال رعاية والدتها “كوليت” العجوز المشلولة، وتتناوب نوال على خدمتها مع “حسن” زميلها الذي يغرم بها ويتودد إليها ولا يكف عن إرسال الرسائل التليفونية إليها، كما سيعلن لها في مرحلة متقدمة، حبه ورغبته في الزواج منها.

أما “لورين” (يمنة مروان) ابنة سعاد، فهي متزوجة لكنها غير سعيدة في زواجها، فزوجها يخونها وهي تعرف ذلك عن يقين، لذا فهي ترفض أن تنجب منه، ولكنها الآن حامل وتريد التخلص من الجنين، أي أن حالتها عكس حالة نوال. فنوال تتمنى أن تكون حاملا لكي تحصل الأمان الاجتماعي، بينما لورين تتطلع للتخلص من الحمل. هنا يجسد الفيلم أيضا الفرق بين موقف المرأة “المسلمة” التقليدية الخاضعة التي تبدأ تدريجيا في التمرد على واقعها، أي التي تجد الإجهاض حراما، والمرأة المسيحية الأكثر تحررا، التي تمنح لنفسها هذا الحق، رغم أن أمها تلعنها عندما تعلم بالأمر. وقد ساعدتها نوال التي تقتنع تدريجيا بوجهة نظر لورين. فالتضامن بين النساء أقوى من الحواجز النفسية والدينية والاجتماعية. وهي إحدى النقاط التي يلمسها الفيلم بمنتهى البراعة والرقة ومن دون أن تبدو مفروضة من الخارج. ومع ذلك، ستدفع نوال أيضا ثمن مساعدتها للورين، عندما تطردها سعاد من العمل ويصبح العبء مضاعفا فوق ظهرها.

الخط الثالث يتمثل في العلاقة التي تنشأ بين حسن ونوال، لكنها لا تكتمل، رغم أن حسن يوضح أنه لا يسعى لإقامة علاقة جنسية عابرة معها، بل يريد الارتباط بها، ورغم أنها تبدو في البداية راغبة، إلا أنها سرعان ما تتراجع، خصوصا بعد أن تصبح مهددة بفقدان حضانة ابنتها بعد أن يراها “رفيق” ذات مرة، مع “حسن” وهو يقوم بتوصيلها لمنزلها ويتخذ من هذا ذريعة للزعم أمام القاضي (الشرعي) بأنها ليست أما صالحة، ويأخذ “نورا” في كنفه ويمتنع عن ردها لأمها لعدة أيام. أما شقيقها “أحمد” (محمد الجيزاوي) فيبدو أكثر تفهما لمنطق رفقي، بحكم تكوينه الذكوري. فمن الواجب كما يرى، أن تراعي أنها أصبحت امرأة وحيدة الآن.

تظل المشكلة الأساسية هي أن نوال لم تلد ذكرا.. فما الذي سيحدث؟ من ضمن براعة السيناريو أنه يستخدم الالتواء في الحبكة، لكي يفاجئك خلال السرد بما لا تتوقعه إلى أن ينتهي تلك النهاية القوية الدامغة في إدانته لهذا الواقع العنيد من دون أي صراخ أو مبالغات ميلودرامية.

يتعاون أمجد الرشيد تعاونا بديعا مع مدير التصوير الفرنسي– الياباني المرموق “كاناميه إينوياما” Kanamé Onoyama في إضفاء كل ذلك الشجن والحزن والغضب على الفيلم، مع السيطرة على المشاهد الخارجية البديعة التي يخرج خلالها إلى الشوارع والأسواق في عمان، والى الفضاء الطبيعي فوق الجبل حيث يتيح أيضا مساحة للتنفس، للتأمل، لاستيعاب النفس والتعبير عن بعض المشاعر المكبوتة كما في المشهد الذي يجمع بين نوال وحسن، يجلسان داخل سيارة حسن، ثم تستجيب له وتخلع “الحجاب”، ويتحسس شعرها الطويل، ولا ترفض هي قبلة يعرضها عليها، ثم تخرج من السيارة وتقف في الفضاء وكأنها حائرة يائسة، تناجي الله أن يخفف عنها. لكن هذه المشاعر لا تستمر وليس من الممكن أن تستمر وسط كل هذه الضغوط.

الطابع العام في الفيلم، شفاف، رقيق، فيه الكثير من الإيجاز، والتدفق الطبيعي تماما في تصوير التداعيات النفسية والاجتماعية كما تنعكس على شخصية “نوال”، ولاشك أن ما يجعل هذه الشخصية نابضة بالحياة كما نحو ما نراها في الفيلم، ذلك الأداء المدهش للممثلة الفلسطينية “منى حوا” التي تنجح، ليس فقط في تجسيد شخصية امرأة من الطبقة الوسطى في الأردن، تجد نفسها محاطة بكل هذا الكم من التعقيدات والضغوط التي يتعين عليها الالتفاف حولها أو العثور على وسيلة لتجاوزها بأي ثمن من دون الوقوع في “الخطأ” و”الخطيئة”. إنها تضيف من عندها، من مشاعرها الذاتية، وتضفي على شخصية “نوال” عذوبة، وقوة، رغم ما يكمن تحت قشرة القوة والصلابة من هشاشة وضعف وحيرة هي حيرة كل امرأة في تلك المنطقة من العالم.

إن أداء منى حوا يرقى إلى أعظم الأداء التمثيلي في السينما العربية. فهي تعرف كيف تتعامل مع أعقد المواقف الدرامية في لقطات “الكلوز أب” القريبة من وجهها، من دون أي تردد أو وجل، تضبط نغمات صوتها المعبر جيدا، يكفي أن تتطلع بنظرات عينيها سواء الى الابنة “نورا” أو شخصية أخرى، لكي نعرف فيم تفكر تشعر. إنها موجودة في كل مشاهد الفيلم، تعبر عن الألم والحيرة، الحزن والوحدة، تحمل الفيلم على كتفها وتدفعه الى الأمام. ومحظوظ أمجد الرشيد بممثلة من هذا الوزن.

الى جانب منى حوا، يستعين الرشيد بطاقم من الممثلين الذين يعرفون جيدا حدود الشخصيات، وكيف يخلقون الكيمياء المطلوبة فيما بينهم، لا يتجاوزون ولا يتهاونون، كلهم يجسدون شخصيات من لحم ودم، شخصيات من قلب الواقع: هيثم عمري (رفيق) ويمنة مروان (لورين)، وسلوى نقاره (سعاد)، وإسلام العوضي (حسن)، محمد الجيزاوي (أحمد).. وغيرهم. إنهم جميعا، جزء أساسي وعضوي من نسيج الفيلم ومن أسباب تألقه ورونقه. ولا شك أن الفضل في السيطرة على الأداء يعود إلى أمجد الرشيد نفسه ومساعديه.

إن فيلم “إن شاء الله ولد” يضخ تيارا جديدا في السينما في نهر السينما في الأردن ولو على استحياء، ويؤشر على مولد مخرج جيد سيكون له دور في مستقبل هذه السينما.

Visited 12 times, 1 visit(s) today