“يد الله”.. سورنتينو ونابولي ومارادونا
“إنها يد الله”.. تلك العبارة الشهيرة لنجم كرة القدم الأرجنتيني الراحل ديجو أرماندو مارادونا التي قالها عقب إحرازه هدف بيده في مبارة دور ربع النهائي الشهيرة في بطولة كأس العالم عام 1986 أمام منتخب إنجلترا وتحديدا بتاريخ 22 يونيو.
وانتهت المبارة بتفوق الأرجنتين وقتها بهدفين مقابل هدف، وكان مارادونا قد أحرز الهدف الثاني أيضا والذي خلاله تجاوز سبعة لاعبين بحارس المرمى الأسطوري وقتها شيلتون لمنتخب الأسود الثلاثة، ومع بداية تتر الفيلم الإيطالي الذي يحمل عناونه نفس العبارة “The Hand Of God” للمخرج الشهير باولو سورنتينو نجد جملة (فعلت ما بوسعي .. لا أظن أن مستواي كان سيئا للغاية) ويبدو أنها أيضا إحدى عبارات ماردونا الشهيرة عن مسيرته مع فريق نابولي والتي كتب عليها سورنتينو توقيع (ديجو أرماندو ماردونا .. أفضل لاعب كرة قدم على الإطلاق).
نحن أمام عنوان فيلم وبدايته بجملتين شهيرتين لنفس الشخص لكن الأحداث ليست عن مارادونا بل هو فيلم يندرج تحت نوعية السيرة الذاتية لمخرجه ومؤلفه باولو سورنتينو الذي يعد من أفضل المخرجين في العالم حاليا وصاحب التحفة الشهيرة “الجمال العظيم” الذي حصل من خلاله على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2014، ويدخل سورنتينو سباق منافسة الأوسكار لعام 2022 مع فيلمه “يد الله” حيث أنه يمثل إيطاليا، وسبق للفيلم الحصول على جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان فينسيا لهذا العام وأيضا جائزة أفضل ممثل شاب لبطله فيليبو سكوتي، وبدأت منصة نتفلكس في عرضه منذ ساعات قليلة.
ولد سورنتينو في نابولي عام 1970 وفي زروة فترة المراهقة التي شهدت الحدث الأهم في تلك تاريخ تلك المدينة وهو وصول النجم الأرجنتيني ديجو أرماندو مارادونا وتحديدا في صيف عام 1984 قادما من برشلونة الإسباني، وبما أن سورنتينو من مشجعي هذا النادي فقد كان حلم وجود مارادونا في نابولي يسيطر عليه من قبل خلال الشائعات التي أطلقتها الصحافة الإيطالية وقتها والتي لم يصدقها أهالي نابولي حتى أن الجملة جاءت على لسان الأب في الفيلم “لن يأتي مارادونا لهذا المكان القذر”.
مارادونا بالنسبة لسورنتينو يمثل العودة إلى ذكرياته في مدينة نابولي خلال مرحلة النشأة والمراهقة، تلك المدينة التي يصعب على كل من عاش ونشأ فيها أن ينساها، تلك المدينة التي ستظل عالقة في الأذهان ومحفورة في الوجدان وسيظل الشخص ملتسق بذكرياته وأحداثه مهما كان حجم الابتعاد عنها.
ووجد سورنتينو أن الوقت قد حان ليعلم الجميع وخاصة محبيه تفاصيل أكثر عن حياته الأولى في جنوب إيطاليا وأسباب دخوله عالم السينما، صحيح ان سورنتينو في أفلامه السابقة وضع إرهاصات عن حياته لكن لم تكن بشكل مباشر وصريح ومعلن مثلما في “يد الله”.
وكانت المفاجأة خلال الأحداث أن فابيتو البطل الشاب لم يكن يحمل أي شغف بالسينما في فترة المراهقة، والحقيقة أن فابيتو لم يحمل أي شغف او اهتمام أمام أي شئ آخر سوى عشقه لفريق نابولي ومارادونا وإعجابه المستتر بصديقة والدته باتريشيا التي تبدأ معها أحداث الفيلم وندخل من خلالها للتعرف على المدينة وعلى فابيتو وأسرته المكونة ومن والديه ماريا وسافيرو الذي قدم دوره الممثل الرائع توني سيرفيو أحد أبطال الجمال العظيم.
يستعرض سورنتينو حياته الأولى في نابولي في تجسيد شخصية فابيتو ومن خلاله تظهر شخصيات تلك المدينة الصاخبة وملامحهم التي تمتزج بين خفة الظل والفجاجة، الحب والكره، واعتمد سورنتينو في بناء شخصياته على شكل أقرب إلى العبثية والفوضوية من خلال تقديم نماذج يغلب عليها الطابع الكارتوني تجنح إلى الجنون والغرائبية في تصرفاتهم لتكون انعكاس او نتاج لواقع المدينة القبيح، وبمعلومات بسيطة عن كل شخصية يمكن ان نعلم تأثير المدينة عليهم، وكيف أنهم رغم قسوة المدينة إلا أن ذكرياتهم فيها تعد ركيزة أساسية في حياتهم ومستقبلهم.
كانت اللحظة الفارقة في حياة فابيتو وفاة والديه متأثرين بتسريب غاز أول أكسيد الكربون في منزلهم الجديد أثناء قضاء العطلة الصيفية وأن فابيتو منع من رؤيتهما للمرة الأخيرة، كأنه يؤرخ لهذا الحدث الفاصل في حياة سورنتينو نفسه الذي بدأ من بعده ينظر للعالم الخارجي بشكل مختلف، يراجع نفسه في وحدته التي أصبحت إجبارية، في مستقبله الذي لم تحدد ملامحه، الانتقال من مرحلة المراهقة ولقبه “فابيتو” الذي يعني بالإيطالية تصغير لفابيو إلى فترة تكوين شخصية فابيو نفسه كشاب ناضج.
فابيتو من البداية لم يكن لديه أي شفغ سوى بكرة القدم وتشجيع فريق نابولي لدرجة أن هدية والده في عيد الميلاد كانت تذكرة موسمية لحضور مباريات الفريق خاصة بعد وجود مارادونا فقد كان فابيتو مجرد مشاهد للأفلام وعلاقته بالسينما كانت من خلال شقيقه الذي يحلم بأن يصبح ممثلا ويحاول بشتى الطرق الوصول إلى تجارب الأداء الخاصة بالمخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فليني، وممثلة شابة تحاول هي أيضا الوصول إلى المخرج أنطونيو كابوانو.
اختيار فابيتو للسينما لأنها بالنسبة له وسيلة للتعبير عن مشاعره ومن أجل تجربة الابتعاد عن الواقع المقيت في نابولي خاصة بعد غياب والديه واستخدام السينما للبحث عن الخيال والفانتازيا، كانت تلك هي الأسباب التي وضحت جليا في الفيلم لكن يبدو في الحقيقة أن سورنتينو في بداية حياته ورغم عالمه الضيق وتجاربه المحدودة إلا أنه وجد في نابولي وشخصيات تلك المدينة شرارة أولى لتجربة تحمل قد تحمل زخم كبير في المستقبل خاصة بعد لقائه بالمخرج أنطونيو كابوانو الذي سأله خلاله عن سبب الرغبة في ان يعمل في صناعة في الأفلام.
اختيارات فابيتو كلها مرتبطة تلك المدينة رغبته الأولى في دراسة الفلسفة كانت من اجل تشريح تلك الشخصيات وتأثر المدينة عليهم، قد يبدو ان الظاهر اختار دراسة السينما بعد ذلك للهروب من نابولي لكن في الباطن أمر يحمل في طياته معايشته لشخصيات تلك المدينة الساحرة.
في الجملة الافتتاحية للفيلم التي حملت توقيع مارادونا والتي تبعها سورنتينو بجملة أفضل لاعب كرة قدم على الإطلاق وهو ليس رأي سورنتينو فقط بل الكثيرين يتفقون مع هذا الرأي لكن ماردونا بالنسبة لسورنتينو كان أيقونة المراهقة، البطل الذي يذكره بأهم فترات في حياته، أوقات المجد بالنسبة للنادي الذي عشقه فوقتها حقق نابولي بطولة الدوري الإيطالي للمرة الأولى في تاريخه وفي تاريخ جنوب إيطاليا بالكامل، أنه الشغف بكرة القدم وبأسطورة ماردونا وبمدينة نابولي الذي انتقل بكل تفاصيله وتراكماته وشخصياته الغرائبية إلى الشغف بالسينما ليمثل “يد الله” عودة مخرجه إلى عالمه الأول وذكرياته.