فيلم “النمر” وتراجيديا الموت السامي

Print Friendly, PDF & Email

فيلم “النمر: حكاية صياد عجوز”Daeho  الذى  أبدعه المُخرج الكوري بارك هون- جونغ Park Hoon-Jung  كرؤية تراجيدية للواقع، تمكن من خلاله عرض جميع الأشكال والأصوات والألوان والأمزجة التي تتسم بها ذكرى “ماك كيو”للماضي وحاضره الحالي.

وهو يصور رؤيته للواقع تصويراً رمزياً، مع خلق القالب الدرامي، ونسج اسطورة شعبية تستند إلى تجربة حقيقية،  يمزجها بتفاصيل مأخوذة من وقائع التأريخ الثقافي للجنوب الكوري حيث امتدادات الفلكلور المتعدد الجوانب. أهم جانب فيه  أسطورة “النمر”أو الهة الجبل،  وربما تكون أكثر الأساطير قدما في جوسون “كوريا”ويظهر النمر أيضا فى الفولكلور والفن الكوري مثل الرسم والنحت. وقد ظهر أيضا كتميمة فى دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 1988 التي عقدت في سيول، كوريا الجنوبية كرمز يمثل الشعب الكوري.

إنه الروح الإلهية التي تحرس الجبال، وهو مخلوق مقدس في الفولكلور المحلي. وحارس  يدفع بعيدا روح الشر ورمزا للشجاعة والقوة المطلقة. وأقدم سجل تاريخي عن النمر موجود في أسطورة دانغون، الأب المؤسس الأسطوري لجوسيون.

تجرى أحداث فيلم النمر – حكاية صياد عجوز ” من بداية عام 1915 وكوريا تحت الحكم الياباني، بإحدى القرى الصغيرة الواقعة اسفل الجبل المقدس”جين- يي” ويستهدف الحاكم الياباني سحق الروح المعنوية للسكان المحليين  من خلال إبادة النمور في الجبل، والتى ينظر إليها على أنها تجسيد للروح الوطنية الكورية. وبعقليته الدموية العسكرية بما تحمله من كل تطرف، يتصرف بلا رحمة، حتى أشجار الغابة لا تسلم من لمسته التدميرية.

موت الإنسان

في تلك اللحظة التي يقرر فيها  الحاكم الياباني، قتل النمور حينها يبدأ الموت. موت الإنسان، بالتوازي مع موت النمور، وتدمير الطبيعة. وتتحول السهول الخضراء ومنحدرات الجبال، والثلوج، الى  لون واحد قاتم هو اللون الاحمر، لون الدم، ويطغى على المنطقة كلها رعب الموت.

بداية الفيلم تبدو اقتباسا من الأساطير اليونانية القديمة- رحلة مان دوك (مين سيك تشوي ) وحيدا وسط الثلوج متجها الى مصيره، الذى قرره له قدره، كأعظم صياد فى المنطقة.

لكن الحدث ينفجر فى المشهد الافتتاحي، غضب الطبيعة، الجبال والثلوج وزئير الرياح، وخطوات مان دوك وهى تنغرس عميقا فى الثلوج. وهى لوحة بصرية  تعبرعن  أعماق النفس البشرية، وتتشكل فيها مهارة المخيلة الخصبة، اللوحة تؤول إلى حركية مخيفة، يدعمها اللون الأبيض والأسود المتدرج للرمادي، كلغة تكرس التناغم الخفي بين التضاد والتناقض، فتنكشف حقيقة النفس، بوجوهها  المفارقة الملونة بأطياف منوعة، من الوحشة والغضب وبرودة القلب والوحدة. انها صورة تدفعنا إلى لغة المسافات المفتوحة والممتدة من البصري إلى الفكري.. من السطح إلى الأعماق.

الانتقال في الزمن

ينقلنا المشهد التالي الى الزمن الماضي، الى عالم مان دوك، الذى يظهر دافئا ومغريا، مع الابن والزوجة،وجماليات الطبيعة وهدؤها،  بالمقارنة مع عالمه الحالي البارد والموحش.

هذه التنقلات فى الزمان تتكرر داخل الفيلم مع تنامى الصراع.

ان الفشل الذى لاحق، الحاكم وجنوده، وأفراد المرتزقة، فى قتل النمر “ملك الجبل ” يضطر الضابط ريو(جونغ سوك وون)  الى استدعاء مان دوك الذي كان يوما افضل صياد في المنطقة. لكنه اصبح حطاما ومريضا، ان عدم امتثال مان دوك لطلب الضابط، يضطر الضابط الى الاستعانة بكيونغ (سيك جيونغ) الذى يقود فريق المرتزقة. وسرعان ما انضم إليهم ابن مان دوك في سيوك (يو-بن سونغ) يفعل ذلك بدون علم والده أملا في كسب بعض المال  حتى يتمكن من الزواج من حبيبته.. وفى نفس الوقت يحقق رغبته ليكون صيادا  عظيما كوالده، لكنه يسقط كما سقط كثير من الموتى من بينهم كيونج، الذى يحمل الطابع الأكثر تميزا لعالم الثأر الاعمى، بأشد وتائره.

كيونج  الذى يقوده ثأره للموت، يبدو على درجه عالية من الصدق مع نفسه، إنه لا يجّمل رغباته المتوحشة بشيء حضاري، لكنه فى نفس الوقت يصنع عذابه الخاص بعدم قدرته على تجاوز ذاته، ويستغل الجميع للوصول لثأره، حتى ابن اخيه، لدرجه انه يتركه ممزقا وسط الثلوج، بالقرب من الذئاب ويجرى ليلحق بالنمر، فى أبشع موقف يتخذه انسان، حيث جرده الثأر من أى شعور إنساني، رغم خوف  الصبى واستعطافه  بعدم تركه حتى يأتي والده، وفى احد أشد المشاهد رعبا، نرى الذئاب تسحب الصبى لوكرها، وهناك تلتف حوله  وتبدأ فى نهشه وهو حي.

الضابط  ريو  الكوري الذي انضم للسلطات اليابانية،و الذى يظهر كأنه يرفض أى انتماء لبلده مملكة جوسون، يدخل فى صراع داخلي فريد  مع وطنه، بين الرفض والقبول لما يفعله الحاكم العسكري من التدمير الشامل، وبينما يتملكه الجشع للسلطة يتملكه ايضا التردد لسحق روح بلاده.

لكنه انتهج نهج مسيس فى المواقف الاخلاقية، وجعله خطا استراتيجيا لطريقة  فهم واستيعاب ومعايشة العالم الذي اصبح يشكل محور حياته.

شخصية مركبة

شخصية مان دوك مركبة تركيبا فريدا، لقد قتل زوجته، بطلقه اطلقها على ما يظنه حيوان، فظل يعاقب نفسه حتى أصبح حطاما، وعارض ابنه رافضا ان يكون صيادا، ثم وهو الذى كان صيادا ساهم فى قتل احد النمور، ينقذ اولاد هذا النمر، ويحميهم داخل مغارة بالجبل، ثم يصطاد ويقدم لهم ما يصيده من طعام.

نفس النمر الذى انقذه يهاجم ابنه ويمزقه، لأنه اطلق عليه النار، وعندما تسحب الذئاب  الصبى لوكرها، يذهب وينقذه من براثنهم ثم يحمله الى والده، لكن الابن يكون قد مات متأثرا بجراحه، وفى مشهد مليء بالحزن والأسى، يترك النمر الصبى ثم ينصرف كسيرا، بينما يتمزق الاب من العذاب.

وبعد معركة أخرى للنمر واصاباته الشديدة، يعود للصياد، فيجرى حوار من طرف واحد:

– جرحك عميق جدا

– هل فقدت عائلتك أنت أيضا ؟

– ما الذي جئت لتشكو بشأنه؟

– حسنا…. فهمت.

يكشف الحوارعن التقابل بين الشخصيتين، ماك دوك والنمر، كلاهما فقد عائلته، وكلاهما لديه جرح عميق من جراء فقد العائلة، الزوجة ثم الابناء.

لا نفهم سؤال ماك ديو- ما الذي جئت لتشكو بشأنه؟ أو قوله “حسنا.. فهمت” الا فى مشهد جديد هو امتداد لمشهد البداية.

عندما يبدأ ماك ديو فى تسلق الجبل المقدس، بعد مسيرة طويلة فى الثلج، ليقابل النمر على قمة الجبل، حينها يسجد ماك كيو فى تحية مقدسة اخيرة لألهه الجبل، ثم نفهم من الحوار التالي  الاتفاق الضمني بينهما:

– الآن علينا… وضع حد للأمر.

فنعرف أن اتفاقهما هو قتل كل منهما الآخر، ليموتا بشرف، وبينما يطلق ماك كيو النار، يهجم النمر لكنه يتوقف فى اللحظة الأخيرة عن قتل ماك كيو، فيسأل الأخير بيأس وهو يخرج سكينه موحيا بعزمه على الانتحار:

– لماذا توقفت؟

– أخبرتك أن علينا وضع حد لهذا..

وعندما يدرك النمر عزم ماك كيو على الانتحار، يهجم عليه ويحضنه فيهويان معا الى اسفل الجبل. ويعتبر هذا المشهد هو مشهد الذروة، ومن اجمل المشاهد الدرامية.

النمر والبطل

ورغم تشابه ماك كيو والنمر، الا ان النمر اكثر شبها بالبطل التراجيدي، لقد واجه تحديات خارجة عن ارادته، فسقط ودمر، ومكانته السامية لم يتنازل عنها رافضا الأسر، او الموت بأيدي الاخرين. وفضل ماك كيو لأنه يتساوى معه فى المنزلة كأفضل صياد، فهو يسمو فوق الجميع، كما انه كالنمر لا يصيد من اجل المال او حبا فى القتل لمجرد رؤية الدماء، واخلاقيا واجتماعيا فهو رجل فاضل.

وهذه الصفات المشابهة لصفات النمر، تضفى على الشخصية نوع من الجلال والعظمة، فكلاهما شخصيات مهيبة فى تصرفاتها. لذا المقابلة فوق الجبل ترمز لهذا السمو فوق الاخرين، والسقوط من فوقه يشبه السقوط الأسطوري لأبطال التراجيديا، فقد تحولت حياتهما من سعادة الى شقاء، والقوة والهيبة الى ضعف وانكسار، وسقوطهما معا الى الهوة العميقة تشبه سقوط ابطال التراجيديا، لكنهما معا واجها مصيرهما  الحزين بقوة وعزم، لذا فالانتحار لا يناسب شخصيتهما السامية.

يعلو تأثير التوتر فى الفيلم عن طريق تخفيف السرعة، وخصوصا فى المعركة مع النمر، فدائما ما يكون هناك وقفة في المعركة، من خلال الانتقال لمشهد أخر، او وقوف النمر لحظة استعدادا للقفز، ان هذا التأجيل هو جزء من مخزون ثقافي فى السينما العالمية، وهو موجود فى كل اشكال الدراما الناجحة.

معظم مشاهد الفيلم صورت شتاء الطبيعة، والطرق الوعرة فى الجبال، أو بين الاشجار فى صور بصرية رائعة عبر لقطات عامة موسعة او متوسطة، او قريبة للوجه او الجسد الذى تغطيه الثلوج. فى تلك اللقطات تظهر الطبيعة فى جمالها العذري، ووحشيتها، وانسجامها، ثم يظهر الخلل عندما يبدأ تعدى الانسان 

Visited 41 times, 1 visit(s) today