وداعاً، نزُل التنين
أمين صالح
في حديثه عن الصالات السينمائية، يقول المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ: “العالم يتحرك على نحو سريع. الآن، يكتفي الناس، عن رضا وقناعة، بمشاهدة الأفلام في بيوتهم عن طريق أقراص DVD. لكن هل تتذكر العروض الليلية الأخيرة في صالة السينما، حيث يجلس معاً ألف شخص، يضحكون معاً، ويبكون معاً؟ حتى أخفّ تنهيدة كانت قادرة أن تحرّك القلب وتثير المشاعر”.
بهذا الكلام كان تساي يوجّه تحيةً لصالات السينما، مثلما يوجّه تحية حب وتقدير استثنائية للسينما في فيلمه “وداعاً نزل التنين” أو “وداعاً دراغون إن” Goodbye Dragon Inn (2003). إنها تحية ذاتية، شخصية، شعرية للصالة السينمائية ومرتاديها.
في مقابلة له مع “الجارديان”، قال تساي: “في طفولتي، صالة السينما كانت أشبه بالمعبد. الآن، صار الذهاب إلى السينما أشبه بالذهاب إلى مجمّع تجاري”.
في فيلمه “وداعاً نزل التنين”، يصوّر تساي صالة سينما قديمة، معرّضة للهدم والإزالة، تعرض في آخر ليلة لها، قبل الإغلاق، فيلماً قديماً كلاسيكياً أنتج في العام 1966 للمخرج التايواني كينغ هوْ، بعنوان Dragon Inn، وهو من نوعية أفلام الكونغ فو، عن مرحلة تاريخية قديمة. وقد شاهد تساي هذا الفيلم وهو في الحادية عشرة من عمره.
فيلم تساي مصوّر بأكمله في دار السينما هذه، بصالتها ومكاتبها وحمّامها وممراتها وحجيرة جهاز العرض. إنها المكان الذي يجتمع فيه أشخاص لا يعرف بعضهم بعضاً، ويحاولون، كل بطريقته، الاتصال بالصور المعروضة أمامهم على الشاشة.
إن تساي لا يهدف من فيلمه إلى تقديم حالة نوستالجية، أو نزوع حنيني إلى مرحلة مفقودة، بل يرثي فقدان الاتصال الاجتماعي الذي كانت الصالات السينمائية ترعاه وتعزّزه، باعتبارها مكاناً تلتقي فيه الجماعات والحشود، ويوحّد البشر الذين يتشاركون في فعل المشاهدة. كما يرثي أفول الصالات السينمائية، وعادة ارتياد الأفلام.
الفيلم لا يندب الماضي ولا يرثيه، بقدر ما يمتدح الجمال في ما تبقى. وهو لا يحتفي بالوهْم المتحرك على الشاشة، بل يركّز بؤرته على الأمكنة بأركانها وزواياها، بالأروقة الأشبه بالمتاهات، الأبواب الجانبية، الحمامات، السلالم، شباك التذاكر، وأمكنة أخرى. إن صالة السينما هنا ليست موقعاً اجتماعياً تحتشد فيه الجموع، بل مكان وحيد يقطنه أفراد وحيدون.
“وداعاً نزل التنين” فيلم عن العزلة، وعن غزو الفضاء الشخصي. ويُعد من بين أكثر أعمال تساي تقشفاً في إنتاجه وفي أسلوبه الذي يمتد إلى السرد. هنا نحن لسنا أمام قصة تُروى، إنما لمحات من الحياة تومض أمامنا.
خارج صالة السينما القديمة الطراز، المطر ينهمر بلا توقف، والشوارع خالية من المارّة. ثم نرى سائحاً يابانياً شاباً يدخل صالة السينما، ربما ليحتمي من المطر. غير أنه يتسلل إلى الداخل، أثناء غياب العاملة في شباك التذاكر. الصالة الكبيرة خالية تقريباً. عدد الحضور قليل. بينهم كهلان متباعدان، يتابعان الفيلم باهتمام (يتضح في ما بعد، أنهما مشاركان في تمثيل الفيلم المعروض، وهما الآن يشاهدان نفسيهما في إيماءة حنين). البقية من الرواد لهم مآرب أخرى، مثل البحث عن إشباع جنسي.
في هذه الأثناء نتابع حركة بائعة التذاكر، وهي امرأة شابة عرجاء، فيما تغسل شيئاً في المرحاض، ثم نراها تسخن طعامها، تأخذ نصف الكعكة وتسير على مهل، مصدرة قعقعة صاخبة مزعجة بسبب الدعامة في قدمها، إلى حجيرة العرض، لكنها لا تجد مشغل جهاز العرض هناك. تترك الطعام وتعود إلى مكانها حيث تبيع تذاكر العرض.
الفيلم يسلط الضوء على الجمهور الحاضر، على سلوكهم في الصالة وفي ممرات دار السينما. إنهم يتصرفون بغرابة أحياناً، وبفظاظة أحياناً من دون مراعاة للياقة وتقاليد المشاهدة، وبجنون أحياناً. إننا نراهم كأفراد معزولين، مزعجين بعض الشيء، غير مكترثين كثيراً بما يدور على الشاشة. يغيّرون أماكنهم باستمرار، في بحث عقيم عن احتكاك أو اتصال إنساني. والفيلم لا يوضّح ما إذا هم أشخاص حقيقيون أم أشباح؟ ما إذا نتخيّل حضورهم أم أن وجودهم حقيقي؟ هل المكان مسكون فعلاً؟
إن بائعة التذاكر العرجاء تستمر في التجوّل بتثاقل، حول صالة العرض، صاعدة درجات السلم أو نازلة. ربما هي تبحث عن مشغل البروجكتور، ربما هي مغرمة به وتحاول أن تجذب انتباهه، لذلك نراها وحيدة طوال الوقت.
إننا نرى التقاء عددٍ من رواد الصالة داخل الحمّام، كما نتابع تجوال السائح الياباني خارج صالة العرض، حيث يصل إلى الرواق ويلتقي بمشغل البروجكتر (لي كانغ شينغ) الذي يخبره أن الصالة مسكونة بالأشباح (في الواقع، هذا أول حوار بين الشخصيات نسمعه في الفيلم، أي بعد مرور 44 دقيقة من العرض الذي تبلغ مدّته 81 دقيقة.الفيلم يكاد يخلو من الحوار. الكلمات التي نسمعها تأتي من الفيلم المعروض على الشاشة والذي تشاهده شخصيات الفيلم).
عندما ينتهي الفيلم المعروض في الصالة، تضاء الأنوار. المرأة العرجاء تنظف الأرضية. المتفرجون يغادرون الصالة. في الخارج، السماء لا تزال تمطر، والمياه تتسرّب إلى الداخل (من الثيمات المتكررة في أفلام تساي).
الممثلان (اللذان شاركا في الفيلم المعروض) يلتقيان لفترة وجيزة في ردهة الصالة ويتبادلان حديثاً مقتضباً يعكس الشعور بالحنين إلى ماضي الصالات السينمائية: “لا أحد يتذكرنا الآن. لم يعد الناس يرتادون صالات السينما”.
هنا يستجوب تساي مصير السينما نفسها، وعلاقتها بالجمهور، إذ صار ارتياد الصالات تقليداً منسياً ومهمَلاً. وثمة إيحاء بأن الممثليْن الكهليْن صارا شبحيْن ينتابان هذه الصالة.
مشغل جهاز العرض يعيد الشريط في الجهاز، نلاحظ أنه لم يمس الكعك الذي أحضرته العاملة العرجاء، والتي الآن تتفقّد الحمامات، ثم تعود إلى موقع عملها وتأخذ أغراضها، تطفئ الأنوار وتخرج، لكنها تنتظر. مشغّل جهاز العرض يقفل مدخل الصالة، ثم يخرج. العرجاء الواقفة تنتظر، تراقبه وهو يغادر تحت المطر. بعد ذلك تسير وحيدة قاصدةً بيتها.
هنا فقط ندرك أنها واقعة في غرامه، وتحاول التعبير عن هذا الحب، في صمت، بإظهار الاهتمام به، بتقديم الطعام له، بالبحث عنه ومحاولة الاتصال به، ساعيةً إلى إثارة انتباهه، غير أنه يبدو غافلاً عن ذلك، ولا يبادلها الاهتمام. هو غائب معظم الوقت. في الواقع، الفيلم لا يوضّح موقفه أو حقيقة مشاعره. إن تساي بلقطاته الطويلة، والكاميرا الثابتة المركزة على الشخصيات الصامتة، لا يكشف عن مشاعرها وأفكارها واستجاباتها وبواعثها، بل يركّز على أفعالها، تاركاً الأمر لنا لنخمّن ونحدس ونتوقّع.
الشخصيات لا تتفاعل في ما بينها ومع من يحيط بها، بل تظل متقوقعة في عالمها الخاص، النائي. إننا نشعر بأنها تسعى إلى الاتصال الإنساني، بإقامة نوع من الحوار مع الآخر، بطرق متعددة ومتنوعة، لكنها تخفق في تأسيس أي علاقة، مثلما تخفق في تلبية رغباتها. لذلك نجدها معزولة، منفصلة عن الآخرين، وليس ثمة أي علاقة سببية في ما بينها.
الإحساس بالفقد، والعزلة، ورغبة المرء في أن يكون محبوباً، من الثيمات الأساسية التي تتخلّل هذا الفيلم.
كعادته، يوظّف تساي عناصره الفنية وأسلوبه المميّز في توصيل ثيماته: اللقطات الطويلة المتواصلة من كاميرا في وضع ثابت غالباً، اللقطات العامة، لحظات الصمت المديدة، الحوارات القليلة، الإيقاع البطيء، السرد الذي يخلو من الأحداث الهامة.
الفيلم يكاد يخلو من الأحداث “الدرامية” المثيرة والمشوّقة. الكاميرا تركّز بؤرتها على الأفعال اليومية التي لا تسهم في دفع السرد إلى الأمام. إننا نتفرج، مثلاً، على بائعة التذاكر لمدة ثلاث دقائق وهي تسخن طعامها، أو نتفرج لدقائق على مشغّل جهاز العرض وهو يفرغ دلاء الماء، أو مشهد جلوس بائعة التذاكر في حجيرة مشغل جهاز العرض وهي تنتظر عودته وعندما تيأس بعد دقائق، تنهض وتخرج. ونحن ننظر إلى هذه الأفعال، وفي الوقت نفسه، نصغي بانتباه إلى ما يصلنا من خارج الشاشة من أصوات وضجيج.
وأنت دائماً تتوقع حدوث شيء ما، لكن لا شيء يحدث، أو بالأحرى لا تحدث أمور كثيرة. مع ذلك، كل لحظة تبدو ضرورية. تساي يرغمك فحسب على التحديق في اللقطة الطويلة، المتواصلة والساكنة، وفحصها واستنطاقها، وكذلك استنطاق الموقع والمحيط، المعروض أمامك، برويّة ومن غير استعجال. إنه لا يلهيك بحركات كاميرا مستمرة واستعراضية. من خلال هذه اللقطات نشعر بحالة العزلة التي تعيشها الشخصيات دونما حاجة إلى الحوار المباشر. وبهذه الطريقة أيضاً، نجد التجانس بين الفيلم والشعر.
كما أن الفيلم، من خلال استمرارية اللقطات الطويلة وانعدام الحوار وغياب الحدث أو حدوثه ببطء شديد، يجعلنا نشعر بمرور الزمن، بكثافة لحظاته وثقلها. وتلك اللقطات ليست مضجرة، بل بالأحرى هي جميلة، آسرة. مشحونة بالتوتر. إنها تغوي تحديقة المتفرج.
أفلام تساي ليست ترفيهية أو مبهجة، بالمعنى التقليدي. هي لا تحتوى على أحداث وأكشن وقصص مسهبة في حواراتها. إنها ليست مصنوعة لإمتاع المشاهدين. وإذا كان المتفرح يتوقّع من أفلامه ما يتوقعه من أفلام أخرى فسوف يصاب بخيبة أمل شديدة. إذ يحلو لتساي أن يخرّب توقعات المتفرج.
في الواقع، أفلامه تحتاج من المتفرج أن يتحلّى بالصبر والحلم، وعدم التسرّع في إصدار الأحكام، والانفتاح على ما هو تجريبي وغير تقليدي.
إن مشاهدة أفلامه تجربة جديرة بالاهتمام والمعايشة إن جاء إليها المتفرج بذهنية منفتحة ومرنة، وسمح لنفسه بأن تتفاعل مع رؤية المخرج العميقة للعالم.
*******
[ترجمة لحوار مع تساي مينغ ليانغ، حول فيلم “وداعاً نزل التنين”، أجراه جيف رايشرت، إيريك سينجل، ونشر في مجلة Reverse Shot، 13 ديسمبر 2004]
– السؤال الجليّ الذي يمكن طرحه بشأن فيلمك “وداعاً نزل التنين” هو: لماذا نقول وداعاً لفيلم كينج هوْ “نزل التنين”؟ ولماذا نقول وداعاً لهذه الصالة السينمائية؟
* في الواقع، العنوان الصيني للفيلم مختلف تماماُ. إنه Bu san، والذي يصعب ترجمته إلى اللغة الإنجليزية. المقصود من العنوان أن يصف حالةً مثل مجيء أشياء معاً لا يمكن فصلها، بالتالي فإن العنوان الأصلي يناقض تماماً الوداع في الترجمة. هناك مدلولان مختلفان للوداع.. في حالة ما، يمكن لك أن ترى الشخص مرّة ثانية، لكن في حالة أخرى، لا يمكنك ذلك. في حالة الفيلم، سوف لن نرى صالة السينما مرة أخرى بسبب الإغلاق.
فيلم كينغ هوْ “نزل التنين” هام وذو شأن، ويمثّل العصر الذهبي للسينما التايوانية في الستينيات من القرن الماضي. لهذا السبب، في بداية فيلمي، عرضت أسماء جميع العاملين في فيلم كينغ هوْ كبادرة تقدير واحترام لمخرجي تلك المرحلة، وإعادة تقديمهم للجمهور المعاصر.
أحببت كينغ هوْ. لا أعرف السبب. لقد شاهدت العديد من الأفلام، لكن ثمة شيئاً يتصل بفيلمه جذبني إليه. في طفولتك، كل الأفلام تثيرك، لكن أفلام كينغ هوْ كانت استثنائية. هو أديب ومخرج أفلام حركة (أكشن)، وهذا ما جعلها مختلفة عن غيرها. وقد حقّق أعماله في فترة سادت فيها الأفلام التجارية، التي تعتمد على الخيال الرومنتيكي، لكن اختلافه يكمن في كون أعماله تهتم بالحياة الواقعية، بالخلفية التاريخية الواقعية.
ثمة تماثل بيننا في كوننا أقل اهتماماً بتحقيق الأفلام التي تنزع إلى الهروب من الواقع.
في الحقيقة، لم أرغب أبداً في تحقيق “وداعاً نزل التنين”. لم يكن الفيلم الذي خططت لتحقيقه. حين كنت أبحث عن مواقع لفيلمي “كم الساعة هناك”، عثرت على صالة سينما في بلدة صغيرة خارج تايبيه. صوّرت مشهداً من الفيلم يدور في تلك الصالة. بعد أن انتهيت، أقمت عرضاً خاصاً في الصالة نفسها. كان المطر ينهمر في الخارج، بينما في الداخل يجلس ألف متفرج. صاحب الصالة اتصل بي في اليوم التالي محاولاً إقناعي بإدارة الصالة، رفضت، عارضاً بدلاً من ذلك أن استأجر منه الصالة لكي أصوّر فيها فيلمي القادم. لم تكن لديّ أي فكرة للفيلم، ولا أي فكرة عما أنوي فعله بها. حجزت الصالة لمدة عام من دون أن أديرها، ثم نسيتها. منتجي هو الذي ذكّرني بها، وسألني عما أنوي أن أفعله بها.
ظننت أنني سأحقق فيها فيلماً قصيراً. أردت أسرْ شيء من الصالة في الفيلم. شعرت بأنها تدعوني لصنع الفيلم. تلك الصالة ذكّرتني بتجربة نموّي في ماليزيا. في ذلك الحين، كان هناك سبع أو ثمان صالات كبيرة اختفت الواحدة بعد الأخرى في غضون سنوات قليلة. صور الطفولة تلك لا تزال ماكثة معي.
غالباً ما أشعر أن ثمة استدعاءً أو استحضاراً في عملية الخلق الفني. إنك تختبر هذا حين تضع كل طاقتك في الخلق. حين كنت أصوّر فيلمي “وداعاً نزل التنين”، شعرت أن ثمة ما يستدعيني لتصوير تلك الصالة السينمائية. بالاستدعاء أنا لا أعني أن عاطفتك تكون مستثارة عند النظر إلى المكان، بل أن هذا يحدث قبل ذلك.. قبل اكتشاف الصالة نفسها. لقد خطرت لي في حلمٍ ما. حلمت يوماً بصالات سينمائية قديمة. أنا شخص حالم. نومي خفيف. عندئذ أدركت أن عليّ تنفيذ الفيلم، ولم يكن مهماً المسار القصصي الذي سوف يتّخذه أثناء كتابة النص.
كتبت سيناريو مؤلفاً من صفحة واحدة فقط، كما لو كنت أكتب نصاً شعرياً. حصلت على حقوق عرض فيلم كينغ هوْ، ثم صوّرت الفيلم خلال عشرة أيام، بمعدّل أربع لقطات في اليوم.
كنت أزور الصالة كل يوم، مشتغلاً على إضاءة أربعة مشاهد، وفي كل مرّة نصوّر مقطعاً قصيراً. عندما تشاهد الفيلم برويّة، سوف تكتشف أنه مصوّر انطلاقاً من مخطوطة تتألف من صفحة واحدة.
وفيما الوقت يمضي، تحقّقت من تكرار حدوث مثل هذا الاستدعاء. وإذا سنحت لك الفرصة، يتعيّن عليك أيضاً محاولة تأويل حلمك. ليس بالضرورة أن تحلم بصالات سينمائية قديمة. أشياء كثيرة تنتظر لكي تعيد اكتشافها.
– يبدو أن المعتقدات الخرافية من العناصر المتكررة في أفلامك. في فيلمك “نزل التنين” إشارات إلى الأشباح. هل تميل إلى تجنب القطط السوداء والسير تحت السلالم، أم أنك تعلّق هزلياً على تلك المعتقدات التي لا تزال منتشرة في مجتمع تايواني يحاول التوفيق بين التقاليد والحداثة؟
* لدي مخاوف لا عقلانية من الخفي أو المجهول. أؤمن بتلك الخرافات. أؤمن بوجود الأشباح. في أفلامي يدور كلام عن الأشباح وتلك الأشياء. هناك العديد من العناصر التقليدية في “وداعاً نزل التنين” والتي قد لا تكون ظاهرة بشكل مباشر. على سبيل المثال، الكعكة التي تقدّمها “شين” إلى “لي” هي ذاتها التي تقدّم في أعياد الميلاد، وهي أيضاً التي تُستخدم في عبادة الأسلاف. هذا يوضّح أنها تنتمي إلى عائلة محافظة جداً. على طاولة “شين” رواية رومانسية، وهي أول رواية قرأتها، وكنت وقتها أدرس في المرحلة الإبتدائية، وكتبها روائي مشهور جداً في ذلك الحين. إن احتواء الفيلم على مثل هذه العناصر هو امتياز وحق مقصور عليّ كمخرج. ومثل هذا التضمين لعناصر قديمة لها علاقة بالمسرح، وبواقع أنها تبدو غير حقيقية. كما له خاصية الانتقال عبر الزمن، ومن الحقل الإنساني إلى اللاإنساني. في كل مرّة تدخل المسرح، تتخلى بفعالية عن زمنك “الحقيقي”. وهذا يعطي إحساساً باللغز.
– إنه أمر مثير للاهتمام أن تقدّم المرأة الكعك، العنصر الذي يمثّل الإجلال والتقليد، إلى مشغّل جهاز العرض، هذا المسؤول اسمياً عن كل ما يحدث في الفيلم.
* أحببت استخدام ذلك، لأن شكل الكعك يماثل شكل القلب إلى حد بعيد.
– إلى أي حد يمكنك القول أن ثمة تناغماً إيقاعياً بين بعض مشاهد الفيلم المعروض في الصالة والفيلم نفسه؟ يبدو، عند مواضع معيّنة، أن الحوار الذي يدور على الشاشة ملتقط بسبب الافتقار إلى المحادثة داخل الصالة.
* بين الفيلمين اتصال وثيق. في أفلام كينغ هوْ، نراه يوجّه الكثير من الاهتمام والعنايةإلى الفضاءات العامة. في فيلمه “نزل التنين” تركيز على النزُل والحانات والمعابد. وبالطبع، صالة السينما مكان عام. لذا فإن العملين يتناغمان، وكل منهما يستجيب للآخر. في الفيلم المعروض، نرى مجموعة من المحاربين يحمون صبيّاً من الشر، والمكان الأكثر خطورة الذي يتعيّن عليهم اجتيازه هو نزل التنين. في المشهد الذي تتبادل فيه المرأة المحاربة النظر مع الرجل، حاولت أن أظهر أن الأفلام يمكن أن تخدم كقوة مشجعة على نحو متبادل. في هذه الحالة، المشهد يحثّ “شين” على الاستمرار. هي، بسبب عرجها، تجد صعوبة فائقة في السير عبر الرواق الطويل لتوصيل الكعك. الشخص الياباني يبحث عن شيء ما، يدخل مكاناً مجهولاً، محفوفاً بمخاطر محتملة، تماماً مثل المحاربين. والممثلان العجوزان، اللذان في الصالة يتفرجان على الفيلم، نكتشف أنهما مشاركان في الفيلم المعروض، في فترة شبابهما. إنهما يتفرجان على الفيلم بموضوعية، وفي الوقت نفسه هما مادة للفرجة. في هذا المكان يلتقي الشباب والشيخوخة. بمقدور الفيلم أن يحافظ على خلود الشيء. إنه يصون الشباب، لكنه أيضاً يموت. كل ما تصوّره يموت ببطء في الوقت نفسه. أي شيء تصوّره لا يعود موجوداً.
– الفيلم يبدو حنينياً، نوستالجياً، جداً. الكثير من صالاتنا القديمة تتعرض للإغلاق، أو تتقلّص وتتضاءل إلى صالات أصغر فأصغر. هل أنت قلق من أننا، في مرحلة معيّنة، سوف لن نرتاد معاً صالات السينما؟ هل سنكتفي فقط بالجلوس في بيوتنا، والتفرّج على الأفلام في غرف المعيشة، كما يريدون لنا أن نفعل؟
* الذين هم في أعمارنا، لديهم تجربة جماعية في ما يتعلق بارتياد الصالات، لكن في يومنا، التجربة مختلفة مع وجود DVD، الأقمار الصناعية، وغير ذلك. إنك ترى هذه التغيّرات البارزة، طوال العقود الأخيرة، وتذهلك سرعة الأشياء، ومدى سرعة حدوث هذه التغيّرات. لكن لا مجال للرجوع إلى الوراء. ولا جدوى من القلق والشعور بالأسى إزاء هذه الأشياء. من جهة أخرى، من الصعب أن تشرح للجيل الشاب عما كانت عليه الأمور في الماضي. الأشخاص الذين يتمتعون بالرزانة والرصانة، ولا يتأثرون بالبنية السياسية، قادرون على رؤية كيف أن هذه التغيّرات تحدث، وكيف أن قلة من السياسيين ورجال الأعمال يتحكمون فينا، على نحو إرادي. قلة من الناس يعون هذا الوضع.
ما يجعل الأفلام القديمة مختلفة عن أفلام اليوم نجده في القيم والرسائل التي تبعثها. حتى عندما تقارن الأفلام الجيدة المصنوعة قبل 20 سنة مع أفلام اليوم، بإمكانك أن ترى كم هي مختلفة. المقلق هنا هو تغيّر القيم. ليس ثمة رسائل في أفلام اليوم عدا القصص عن الطرق السريعة لبلوغ النجاح. الشخصيات لا يتعيّن عليها العمل بجد واجتهاد لكي تنجح. كما في فيلم Legally Blonde، الممثلة تلقي خطاباً، والكل يصفّق. الأفلام القديمة أكثر إنسانية. العالم بأسره تأثّر بهوليوود. السينمات الوطنية الجديدة دوماً تريد محاكاة هوليوود، كما في تايلند وكوريا. يعتقدون أنهم إذا أنجزوا عملاً نابعاً من ابداعهم فسوف لا يحققون أرباحاً. هذا صار اعتقاداً راسخاً. عندما أشارك في المؤتمرات وأتحدث عن هذه القضايا، ينظر إليّ الحضور كما لو كنت قادماً من فضاء خارجي. أشعر حقاً بأن على الفنان أن يحقّق الأشياء التي هي ذاتية، محلية، وفريدة.
– هناك كل هذا القلق بشأن التقاليد في الفيلم، وكيف أن التقاليد أصبحت بالية. لكن اللافتة في النهاية تشير إلى أن الصالة سوف تُغلق مؤقتاً. هل هو تلميح يستدعي التفاؤل؟ احتمال أن تُفتح الصالة من جديد؟
* عبارة “مغلق مؤقتاً” في الصينية تعني، في الحقيقة، “مغلق إلى الأبد”. إنهم لا يريدون قول شيء سيء أو مزعج، لذلك هم دائماً يستخدمون تعبيراً لطيفاً. الفيلم ليس فقط عن صالة السينما، إنما هو أيضاً طريقة للتعبير عن المشاعر أو الحب. المرأة (شين) محافظة جداً. الطريقة التي تعبّر بها عن حبها هي لطيفة، رقيقة، وفريدة. إنها تهب نفسها، تماماً مثلما تقبل الصالة القديمة كل شخص. المرأة والصالة، كلتاهما تمثلان خاصية أو سجيّة تعرّضت للزوال. نحن عاجزون عن منع أي تغيير، لكننا على الأقل، بتحقيق هذا النوع من الأفلام، نستطيع أن نوثّقها بطريقة ما.