“هرقل في مواجهة هرمس”.. استعارة تهريب الموج
استلهم الأدباء والفنانون كثيرا مغامرات “هرقل” المعروف في الأسطورة الرومانية واليونانية بنصفه الإلهي ونصفه الإنساني، وهو الأمر الذي منحه تمثلا خاصا جعل أسطورته تتكيف مع الظروف والأحوال، فقد واجه “أريس” و”مصاصي الدماء” و”طغاة بابل” و”هيدرا”، وكان يخرج منتصرا على كل الخصوم.
استلهم المخرج المغربي محمد اولاد محند عنوان فيلمه الوثائقي “هرقل في مواجهة هرمس” من صميم الأسطورة ليعالج مأساة أسرة مغربية تعيش بضواحي مدينة أصيلا لا لشيء إلا لكونها تصدت لأحد الأغنياء الذي آلت إليه ثروة إحدى الماركات التجارية الشهيرة عبر العَالَم، فقرر أن يستقر بالمغرب إلا أن أحد المزارعين الصغار يرفض بصفة قطعية أن يبيعه أرضه التي حاصرها الرجل الغني بعد أن اشترى ما حوله، وذلك ما عَرَّضَ هذا الفلاح البسيط رفقة زوجته وبعض أبنائه للضغط والترهيب والسجن والمحاكمة كما أن المخرج لم يسلم من مؤازرته لهاته الأسرة التي وجد في قصتها كل العناصر الدرامية لما يمكن أن يقدم فيلما وثائقيا يشهد على أن الصمود والتحدي له أنصاره في شتى البقاع والأصقاع، وأن الأجلاف لا ينتصرون مهما بلغ نفوذهم!
تتفوق السينما الوثائقية المغربية على مثيلتها الدرامية رغم قلة الأفلام المُنْتَجَة، والسبب يعود إلى التصاقها القوي بهموم الناس والقضايا الحساسة في المجتمع المغربي الذي يعرف دينامية عميقة ومتنامية، ناتجة في العمق عن شتى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتعاظم يوما بعد آخر، وذلك ما فرض على مختلف الفاعلين الاجتماعيين الدخول في نقاش مفتوح على المستوى الحقوقي والقيمي والديني والتعليمي.
يكشف الفيلم من خلال الموضوعة التي يعالجها عدة قضايا تعتمل في المجتمع وتؤثر فيه وعلى أفراده كالتعليم والعدل والفساد والفوارق الطبقية وغيرها. ففي إحدى المَشَاهِد التي تصور اعترافات (شهادات) بعض أهالي منطقة “دمنة” القريبة من الأسرة المُتَصَارِعَة على أرضها ضد الأجنبي الغني، يكشف أحد السكان مسألة سرقة الرمال الشاطئية؛ إذ يقول بأن السلطة تمنع الناس من حمل كيس رمل بسيط للاستعمال الشخصي في حين تسمح لمافيا تجارة الرمال المنهوبة تهريب الموج لو أمكنها ذلك كما أنها سمحت لهرمس أن يأخذ ما يريد ومتى يريد دون حسيب أو رقيب
!
يبين الفيلم صعوبة التنقل إلى هذه المنطقة رغم قربها من المدينة، ففي الوقت الذي تراقب فيه السلطة كل شيء، فهي لا تقوم بواجبها تجاه المواطنين كتعبيد الطرقات وبناء المدارس والمستوصفات وتوفير الكهرباء، فالفلاح “هرقل” يأخذ ابنته يوميا إلى المدرسة البعيدة كما أن سيارة الأجرة الكبيرة لم تتمكن من حمل متاعه وهو المُسْنَد بزوجته لتجهيز عرس ابنته مما اضطرهما إلى استكمال المشوار على متن الدواب. فبالرغم من أن طفلتهم الصغيرة لم تتجاوز بعد الأقسام الابتدائية إلا أنها تستطيع مساعدة أمها على قراءة تواريخ وعناوين بعض الأوراق المتعلقة بتاريخ المحاكمة الطويلة والغريبة الأطوار قصد ترتيبها، فالصبية قد ساعدت أمها التي تعبر بمرارة عن ندمها جراء عدم ولوجها للمدرسة؛ إذ مَكَّنَتْهَا من العثور على ورقة إثبات الأرض لتتمكن من إخفائها على زوجها مخافة يأسه، وعدم قدرته على مسايرة تطورات المواجهة غير المتكافئة، فيبيع الأرض خاصة وأنه كان ضحية أميته هو الآخر فَوَقَّعَ على مَحْضَرٍ “قانوني” يدينه لدى الضابطة القضائية التي يقوم بها الدرك الملكي.
لا تخلو حياة الأسرة من كَدٍّ فهي التي يجتهد أفرادها في حرث الأرض وزراعة البطاطس التي يستعملونها في الصيف خلال فتحهم لمطعم مؤقت ينخرطون فيه جماعة أثناء فترات التخييم والاستحمام في الشاطئ الجميل الذي تطل أرضهم عليه؛ إذ تربط الأسرة علاقة وطيدة بالبحر، يصطادون في مياهه، ويتمتعون بجوه وجماله إلى درجة أن ابنتهم الكبرى التي تزوجت واستقرت بأحد أحياء بروكسيل تصرح بافتقادها لليم حينما زارها أخوها بعد أن قضى عطلته رفقة حبيبته الإسبانية، وهي الاستراحة التي رفضتها الأم مخافة أن يهاجمهم “العدو” بعد أن تفرق كل أبنائها من حولها بسبب العمل.
يكشف الحوار الذي يدور بين الرجل المزارع ومحاميه من جهة، وبينه وبين أفراد أسرته من جهة ثانية، عن بعض خفايا القضية فالمُوَكِّل يُصَرِّحُ بأنه دفع لدفاعه ما يقارب خمسين ألف درهم وبقعة أرضية من مائتي متر، أما المحامي فلا يعترف إلا بعشرة آلاف درهم، وشتان بين الطرفين!ففي الوقت الذي يظهر فيه المحامي أمام الكاميرا حاملا لخصال تتجسد في الإحساس بالمتعة والراحة أثناء الدفاع عن قضية عادلة تجاه المافيا وبعض الأسماء النافذة التي ذكرها، فإن الرجل يرغب في التخلي عنه والتوجه إلى محامين آخرين مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول أخلاقيات مهنة المحاماة.
رغم كل ما يقاسيه رفقة أسرته من حصار نفسي جراء الضغط المُمَارَسِ عليه، يظهر “هرقل” بخلاف زوجته وابنه، أكثر هدوءا واتزانا، فهو رجل تقي، مؤمن بعدالة قضيته، مستمتع بالحياة وعاشق لها، لا يفرط في تدخينه للنبتة الخضراء العجيبة (القنب الهندي) الذي يشتهر سكان الشمال بالإقبال عليه، فقد التقطت الكاميرا في لقطة بلاغية دالة، معبرة وساخرة، الرجلَ وهو يراقب من أعلى الربوة مباراة في كرة التنس تجري أطوارها ببيتَ خصمه الفسيح، فبينما يهم بقذف محتوى غليونه نسمع أصوات ضربات الكرة وكأن المباراة مفتوحة على شتى الاحتمالات.
تتجاوز الأسرة محنتها وتقيم عرسا لابنتها، وهنا نقف بالفعل على نضالية المرأة المغربية بالبوادي؛ إذ تنخرط البنت (العروسة) رفقة إخوتها في إعداد البيت على مستوى التنظيف والتزيين والصباغة. يصور الفيلم امرأة (أُمًّا) مناضلة بمعنى الكلمة، تربي الأبناء، وتشتغل في البيت والحقل، وتذهب لدى الدرك للدفاع عن أرضها، وترافق زوجها للتصويت يوم فاتح يوليوز على دستور 2011 الذي جاء بعد الحراك الشعبي والسياسي الذي قادته عدة حركات سياسية انطلاقا من يوم الأحد 20 فبراير، والذي عقبه خطاب ملكي بتاريخ 17 مارس، وهو ما رصده الفيلم من خلال اجتماع أعضاء الأسرة أمام شاشة التلفاز، وكلهم أمل في تحقيق الإصلاحات، وبناء دولة الحق والقانون.
مخرج الفيلم
ليس من باب الصدفة أن يوظف المخرج اسم – أسطورة هرقل، بل الصدفة هي أن يسمى الرجل الفلاح “هرقل” وغرينه “هرمس”، ويا للعجب!فالإمبراطورية الفينيقية الرومانية قد امتدت بالمغرب وأسست به مدنا كثيرة تحمل أسماء رومانية معروفة كأنفا (الدار البيضاء) و”ريسبيسيس” (الجديدة) و”سيرني” (الصويرة) وقصبة شالة (قرب سلا) و”تيزاس” (تازة) و”تموسيدة” (القنيطرة) وليلي وأزمور، بل إن بعض مدن الشمال المغربية تحمل أسماء رومانية مشهورة مثل “ليكسوس”(العرائش) و”ريسدير” (مليلية المحتلة) و”تمودة” (تطوان) و”طينجيس” (طنجة) التي تتوفر على مغارة “هرقل” الشهيرة، و”زيليس” (أصيلا) التي ينطق أناسها اسمها “زَيْلا” القريب من أصلها الفينيقي.
يرمز هرقل إلى الصمود والتحدي والقوة، فبعد أن اشتد الاقتتال فيما بينه وبين الوحش الحارس لبنات “أطلس” (ابن نبتون) الثلاث اللائي يعشن في بستان يثمر تفاحا ذهبيا، ضرب “هرقل” (ابن جوبيتر) بقوة الجبل – غاضبا – فانشق لتختلط بعد ذلك مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء بمياه المحيط الأطلسي الخضراء، وتنفصل أوروبا عن إفريقيا، ثم يعلن هرقل زواج ابنه “سوفاكيس” بإحدى البنات، وتنشأ عن تلك العلاقة فتاة فاتنة سموها “طانجيس”، وهي التي تحمل مدينة طنجة اسمها. فإذا كان “هرمس” يرمز في الفيلم إلى التعدي، وعودة الاستعمار والجشع والرشوة، فإن الفلاح “هرقل” لا يأبه بكل ذلك لن قلب المظلوم مطمئن لعدالة قضيته، ولا يمكن لشخص أن يصمد في وجه الفساد إذا لم يكن حاملا مدافعا ومناضلا عن فكرة كبيرة كحفظ الأرض والبقاء فيها لأنه كبر وشاخ على تربتها، وأَلِفَ جوها، وذاق غلتها، واغتسل بمياه بحرها.
يقدم الفيلم الأحداث وفق تسلسل منطقي يعيد بناء قصة المواجهة الواقعية بين “هرقل” و”هرمس” استنادا على رؤية إخراجية تمزج الواقع بالدراما، فكل أفراد الأسرة قد تحولوا إلى مساهمين (ممثلين) في سيناريو الفيلم الذي انطلق من وثائق القضية المطروحة على القضاء، إلا أن الطرف الآخر في النزاع قد ظل غائبا رغم حضوره الدائم في الفيلم، وحضوره كبيت ورأسمال وسلطة ونفوذ وأرض وجار عدو ومستخدمين وحرس.
ينتصر الشريط لجمال المنطقة وهدوئها مستعينا بالأسطورة لتمرير خطابه، وتأسيس نسيجه الرمزي على توظيف رمزية الأرض نظرا لقيمتها الوجدانية في المخيال الجمعي كما أن المخرج لا يتوانى في الرفع من القيم الأسرية والإنسانية الرفيعة كاشفا جشع الرأسمالية وامتداداتها اللاإنسانية، متخذا من فضاء تلك القرية الصغيرة مجالا لتصوير التقاء اليابسة بالبحر. فبالرغم من أن البعض قد يحسب – ظانا – بأن تلك المناطق لا تسيل لعاب أحد، إلا أن الحقيقة عكس ذلك تماما، وهذا ما عبرت عنه نهاية الفيلم بدقة ومجاز: يختتم المخرج فيلمه بلقطة كبيرة على يد الابن وهو يتصارع مع أخطبوط مشاكس يحتمي بصخور جارحة، فينتهي الأمر باستخراجه وقتله ثم ضمه لباقي الأخطبوطات الأخرى التي ستتحول إلى وجبة شهية لأفراد الأسرة. أليس نهاية كل أخطبوط الموت مهما كانت درجة قوته؟