نهاية دورة مليئة بالإحباطات لمهرجان كان السينمائي
أمير العمري
من بين بضعة آلاف من الأفلام وقع اختيار اللجان المختصة في مهرجان كان السينمائي على تشكيلة توحي من السطح، ولأول وهلة، بدورة قوية ومنافسة شديدة بين الأفلام خصوصا في المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة، مع وجود أسماء لعدد من كبار السينمائيين الذين سبق أن اثبتوا وجودهم وحققوا نجاحا كبيرا بأفلامهم في دورات سابقة من المهرجان أو على صعيد الساحة السينمائية العالمية.
كانت هناك أفلام لأسماء مثل: فرانسيس فورد كوبولا، جاك أوديار، ديفيد كروننبرج، باولو سورينتينو، يورجوس لانثيموس، بول شرايدر.. وغيرهم. إلا أن غالبية أفلام هؤلاء لم تكن على مستوى التوقعات بل سببت إحباطا كبيرا، فمنها على سبيل المثال ما ينحو إلى اللهو بالشكل، والتلاعب بالسياق، لا لسبب سوى استعراض العضلات والاستمتاع بالتلاعب بالشكل السينمائي من أجل تحقيق متعة شخصية للمخرج دون أن يهتم بوصول المعنى إلى الجمهور وهو ما لمسته بوضوح في فيلم لانثيموس “أنواع اللطف” Kind of Kindness، الذي يعتبر سقطة في مسيرة هذا الخرج الكبير، أساسا، لافتقاده أهم ما يميز أعماله السابقة، أي تحقيق “المتعة”.
ومنها ما يسوق رسالته عن مصير أمريكا والعالم من خلال لغة خطابية مباشرة مع تكرار وافتعال شديد في الشكل السينمائي بحيث يربك المتفرج، ويشتت الفكرة الأصلية ويبدو كما لو كان ينتمي إلى حقبة أخرى بعيدة تماما عن عالمنا، وهو ما ظهر واضحا في فيلم كوبولا المفتعل “ميغالوبوليس”, ومنها ما يروي جانبا من قصة حياة مؤلف ما، لا يثير اهتمام أحد أصلا بما يصوره من تفاصيل في حياة هذا المؤلف الذي قرر فجأة أن يبوح بما خفي من حياته أمام الكاميرا، وبدا ان الفيلم مقصود منه فقط أن يستعرض ريتشارد جير عضلاته في الأداء في عودة للعمل مع المخرج بول شرايدر بعد أكثر من أربعين عاما، في فيلمه الجديد الذي غادر الذاكرة عقب مشاهدته تماما، “أوه.. كندا” Oh.. Canada.
أما فيلم كروننبرج “الأكفان” The Shrouds فهو يدفن نفسه بنفسه في كهف عميق من الخيبة والثقل والافتعال والانسياق وراء فكرة عقيمة لا تنتج إبداعا ولا فكرا ولا تثير الخيال بل تدمره وتنفر المتفرج مما يشاهده خصوصا مع الإطالة والتعرج المفتعل والاستطراد مع إسهاب ممل ومثير للاستغراب في مشهد جنسي فاضح من نوع soft porn.
وعموما موضوع الجنس الفاضح الذي يخرج عن السياق أو يبتذل كثيرا بحيث لا يصبح مادة أساسية في جوهر بناء الفيلم، أمر ظاهر بشكل قوي في أفلام أخرى ربما يكون أبرزها هو الفيلم البرازيلي “موتيل ديستينو” Motel Destino للمخرج كريم عينوز، الذي لم يكن يصلح أصلا لدخول مسابقة مهرجان كبير كمهرجان كان، تماما كما لم يكن فيلم مثل “مارسيللو ميو” Marcello.. Mio يصلح للاشتراك في المسابقة وهو للمخرج الفرنسي كريستوف أونوريه، فقد بدا كسهرة تليفزيونية للعائلة، بأداء بارد من جانب كاترين دونيف وكيارا ماستروياني.
وربما يكون ضم فيلم “بيرد” Bird لمخرجته أندريا أرنولد إلى المسابقة، رغم تهافت مستواه الفني، لأنها امرأة ومعروفة للمهرجان ولضمان وجود نسبة ما من مشاركة المخرجات، لكنه عمل مقزز، ومضلل وكاذب، يسيء إلى صورة الأطفال، في سياق سردي يعيد ويكرر ويسهب ويبتذل ويخترع مشاهد جنسية ومشاهد أخرى مليئة بالثرثرة واللغو، لا معنى لها، ويقفز فجأة قرب نهايته، من الواقع الى الخيال بشكل لا يقنع أحدا. بل إن الموضوع كله بشخصياته غير مقنع. رغم السياق “الواقعي” الذي تبنته المخرجة كما لو كانت تصور فيلما تسجيليا.
بطبيعة الحال هناك من يعجبون سلفا بالأفلام من قبل أن يشاهدوها وأحيانا أيضا، من دون أن يشاهدونها، ومنهم من يكتبون عن الأفلام من واقع استطلاعات الرأي في الصحف التي تصدر مواكبة للمهرجان مثل “سكرين انترناشيونال” و”الفيلم الفرنسي” و”فاريتي”، وهو أمر مؤسف للغاية بالطبع، كما أن لهذه الصحف ذات الصفة التجارية، اهتماما أساسيا بالترويج لأفلام معينة، والتركيز على بعض الأفلام دون غيرها. وتبني الأفكار والآراء التي تعرضها هذه المطبوعات من جانب أي ناقد يحترم نفسه، يسيء إلى السينما والى النقد السينمائي. لكن كان هذا دائما هو الحال في مثل هذه المهرجانات بكل أسف!
أنا شخصيا لا أخجل من القول وبكل وضوح، إنني لم أشاهد فيلم “أنورا” Anora الفائز بالسعفة الذهبية لأسباب شخصية، وربما سأشاهده في مهرجان لندن السينمائي القادم ويمكنني عندئذ الحكم على مستواه. لكني شاهدت “الرحلة الكبرى” للبرتغالي جوميز الذي بدا عملا طموحا ولكنه فاقد للبؤرة وللهدف، وقد منح جائزة الإخراج.
سنجد أن معظم الأفلام “الجيدة” والجادة في المسابقة لم تنل نفس ما نالته أفلام أخرى متهافتة المستوى من اهتمام، خصوصا عند إعلان النتائج، أولها بالطبع الفيلم الدنماركي البديع الفتاة والإبرة” The Girl with The Needle (أو فتاة الإبرة)، الذي كان يستحق على الأقل جائزة أفضل ممثلة، إن لم يكن جائزة الإخراج.
وكان الممثل بن ويشو، بطل “ليمونوف.. أنشودة إيدي” Lemonov.. The Ballad of Eddie للمخرج الروسي كيريل سربربيكوف، يستحق دون شك جائزة أفضل ممثل، وهو ما لم يحدث. فقد منحت لجنة التحكيم الجائزة إلى جيسي بليمونز عن دوره في فيلم “أنواع اللطف”، وفيه بذل جهدا كبيرا واضحا لكن الفيلم نفسه مترهل وضعيف وغموضه الشديد أفسد فكرته.
ولا شك أن فيلم جاك أوديار “إيميليا بيريز”Emilia Perez هو أكثر الأفلام ابتكارا وإبداعا، كأوبرا سينمائية موسيقية تفيض بالشخصيات النابضة بالحياة كما يتميز باختيار الموضوع وسرد القصة عموما، ولهذه الأسباب كان هو الفيلم الذي يستحق السعفة الذهبية. وسوف أتناوله في مقال قادم.
ومن الملاحظ ظهور عدد كبير مما يطلق عليه “الجوائز الخاصة” في مهرجان كان وهو أمر لم يكن ظاهرا في السابق، فهناك الجائزة الكبرى (وكانت موجودة) وكان يطلق عليها في الماضي “الجائزة الخاصة الكبرى للجنة التحكيم”، فأصبحت تمثل ازدواجية مع السعفة الذهبية وتثير الكثير من الارتباك والخلط عند هواة السينما، فعندما تسمع أو تقرأ “الجائزة الكبرى” لمهرجان كان، تفترض أنها الجائزة الأرفع شأنا، لكنك ستجد أنها ليست كذلك تأتي بل في المرتبة التالية للسعفة الذهبية.
هناك بعد ذلك أيضا “جائزة لجنة التحكيم”، ثم “جائزة لجنة التحكيم الخاصة”، ولا نعرف الفرق بينهما، بل إن ما نعرفه ويعرفه الجميع هو أن كل هذه الجوائز تمنحها لجنة التحكيم، وتعددها وتكاثرها يقلل من قيمة أي مهرجان، ولا تضيف إليه، وهي تهدف غالبا إلى إرضاء أكبر عدد من أصحاب الأفلام المشاركة. بل وحتى ابتداع مسابقة منفصلة لتظاهرة “نظرة ما” مقصود به أيضا تشجيع أكبر عدد من المخرجين على المشاركة بأفلامهم. وكانت في الماضي تمنح جائزة واحدة لأفضل فيلم عرض في التظاهرة، فأصبحت هناك جوائز في السيناريو والإخراج والذي منه!!
جائزة لجنة التحكيم الخاصة في المسابقة الرئيسية، ذهبت إلى فيلم “بذرة التين المقدس” للإيراني محمد روسولوف الذي تمكن أخيرا من الفرار من بلاده بعد صدور حكم بسجنه لمدة ثماني سنوات. والفيلم جيد بشكل عام، لكنه ليس أفضل أفلامه، بل يعاني من الترهل وهبوط الإيقاع والانحراف عن الأسلوب في ثلثه الأخير (ستكون لي وقفة خاصة معه).
وذهبت لجنة التحكيم إلى فيلم “إيميليا بيريز” لجاك أوديار تعويضا له عن عدم الحصول على “السعفة”.
وكان من المثير للسخرية منح جائزة أفضل ممثلة إلى 4 ممثلات من فيلم “إيميليا بيريز” وهو ما يهدم قيمة الجائزة من الأصل والأساس، وكان العرف السائد في كان هو عدم تقسيم الجوائز لكن العالم يتغير أو بالأحرى، يتدهور.
عموما مستوى التمثيل النسائي هذا العام مرتفع في عدد كبير من الأفلام منها مثلا فيلم “المادة” The Substance (فاز بجائزة السيناريو) الذي برز فيه كثيرا أداء الممثلة الأمريكية ديمي مور، ثم الفيلم البولندي الذي سبقت الإشارة إليه، وفيلم ماريا بيريز” الذي برز فيه بوجه خاص أداء بطلته السمراء “كارلا صوفيا غاسكون”، وفيلم “بارثينوبي” Parthenope لباولو سورينتينو، الذي برزت فيه موهبة الممثلة الجديدة المبهرة شكلا وأداء “سيليتس ديلا بورتا” التي سيكون لها شأن كبير في المستقبل.
تم تجاهل فيلم سورينتينو البديع الذي يواصل فيه بحثه الشاق عن معنى “الجمال العظيم” وعلاقة الشكل بالجوهر الانساني، وكذلك فيلم “المبتديء” The Apprentice الأمريكي لمخرجه الإيراني الأصل الدنماركي الجنسية “عليّ عباسي”، وهو في رأيي واحد من أفضل الأفلام التي شاهدتها وأكثرها إثارة للمتعة سواء من ناحية السيناريو أو الإخراج والتمثيل.. وأتوقع أن يبعث هذا الفيلم الذي نظر إليه باستخفاف من جانب لجنة تحكيم ترأستها ممثلة متواضعة ومخرجة مشكوك في قيمتها، من الرماد فيما بعد، ويحقق النجاح الذي يستحقه ولم يحققه في مهرجان كان. ويقدم الفيلم صورة ساخرة عن بدايات الشاب دونالد ترامب، وقد أثار ولايزال، عاصفة من الهجوم الشديد عليه من جانب الجمهوريين المتشددين، بل ومضى محامو ترامب إلى رفع قضية ضد صانعيه، للمطالبة بوقف عرضه في الولايات المتحدة خصوصا في موسم الانتخابات، وصدر بيان وجه للفيلم أبشع الأوصاف. ولابد من العودة إليه في مقال خاص.
دورة 2024 من مهرجان كان، كانت عموما دورة محبطة مخيبة للآمال، خلت من التحفة السينمائية التي يجتمع عليها الجميع من مختلف الثقافات والخلفيات، كما أن نتائجها وجوائزها زادت من ثقل وطأة هذه الدورة الـ77، على معظم النقاد والصحفيين الذين تابعوا حفل الختام.
وتظل أفلام 4 أفلام شاهدتها في هذه الدورة هي بالترتيب:
- إيميليا بيريز- جاك أوديار
- الفتاة والإبرة- ماجنوس فون هورن
- بارثينوبي- باولو سورينتينو
- ليمونوف.. أنشودة إيدي” – كيريل سربرينيكوف