جماليات “سينما المؤلف” والشكل الإبداعي عند تروفو وهيرتزوج

من فيلم زواج جميل" لإريك رومير من فيلم زواج جميل" لإريك رومير
Print Friendly, PDF & Email

محاضرة: تونى مكيبن

ترجمة: ممدوح شلبى

كان للسينما دائماً مؤلفوها، وكان لها دائماً مخرجوها الذين كانت أسماؤهم شديدة الأهمية مثلهم مثل الممثلين النجوم، فديفيد وارك جريفيث وإريك فون شتروهايم وسيسيل دى ميل وألفريد هيتشكوك وشارلى شابلن وجون فورد، كلهم كانوا أسماءاً قوية قبل أن تظهر “نظرية المؤلف” وقبل أن يقول مؤسسوها أن المخرج فنان وأنه أهم عنصر فى السينما.

لكن الذى تسبب فى كل هذا اللغط أن نقاد السينما الفرنسيين فى الخمسينيات – الذين كانوا يكتبون فى مجلة “كراسات السينما” وكانوا يُطبقون نظرية المؤلف، ليس فقط على المُخرجين ولكن على كتاباتهم النقدية أيضاً – لم يُدافعوا فقط عن أساتذة السينما الموقرين الذين يكتبون أفلامهم بأنفسهم فى أغلب الأوقات ويُنتجونها، لكنهم دافعوا أيضاً عن المخرجين الذين كانوا يُخرجون نوعيات مختلفة من الأفلام، والذين كان يُنظر إليهم حتى مُنتصف الخمسينيات بوصفهم مخرجين بالأجر.

قالت مجلة “كراسات السينما” أن العديد من هؤلاء المخرجين فنانين يتدخلون فى السيناريوهات ويرتبون خطط إنتاج الأفلام لتناسب رؤاهم، وفجأة ترقى مخرجون مثل هوارد هوكس ونيكولاس راى وفينسنت مينيللى وسام فوللر وأوتو بريمنجر إلى مرتبة الأساتذة.. كان يهمهم الأسلوب مثل إهتمامهم بالمحتوى، ولم يكن مُهماً إذا ما كان المخرج يؤلف الفيلم أم لا.

لقطة من فيلم “جلد ناعم” لفرانسوا تروفو

سينما المؤلف

وعلى الرغم من أن مصطلح “سياسة سينما المؤلف” خرج من هذه الحركة النقدية، لكن هذا لم يعنى أن كل النقاد كانوا متفقين مع بعضهم بعضاً. يقول جيم هيلير فى مقدمته لمجلة “كراسات السينما” تعليقاً على حقبة الخمسينيات حيث كان العديد من النقاد فى ذروة الخلاف فيما بينهم، (كان بازان يتحامل بشدة على إريك رومير فيما يتعلق بهيتشكوك وهوكس، بينما كان ريفيت وجودار يُشيدون بروسللينى لأسباب مختلفة تماماً عن الأسباب التى أوردها رومير)، وثمة أمثلة أخرى.

ما نستطيع أن نستخلصه من فكرة “المؤلف” بشكل أساسى، ليس فقط حرية المخرج، فالحرية الإخراجية كانت عندئذ مما يُصر المخرجون عليه أثناء إخراجهم لأفلامهم عندما تحولوا إلى “مخرجين مؤلفين”، لكن المصطلح كان يعنى حرية النقد أيضاً، فإذا إعتقد الناقد أن مستوى المخرج ضعيف، عندئذ فإن قوة الإقناع والتحليل الموضوعى يمكن أن يُوظف للتأثير على القارئ.

عندما دافع فيريدون هوفيدا فى مجلة كراسات السينما عن نظرية المؤلف، فقد فعل ذلك بتضمين مقولات للفيلسوف الوجودى جان بول سارتر الذى قال (لا يكون الكاتب كاتبا بسبب إختياره قول أشياء معينة، بل بسبب إختياره أن يقول هذه الأشياء بأسلوب معين) لماذا لم تتبنى السينما ما أرهص به هوفيدا؟ لأن هذا يسمح للناقد عند تفسيره لفيلم ألا يتوقف عند مقولة الفيلم بل يتجاوزها لتضمين ما يود قوله عن الصورة.

فيحق لنا أن نقول أن ثمة تناقضا فى موقف سينما المؤلف، فمن جهة ما خلقت “سياسة المؤلف”  العديد جداً من المخرجين الذين يتمتعون برؤية، وفى الجانب الأخر منحت هذه الرؤية للناقد حتى يتصرف بحرية فى تناوله لفيلم فيقوم بإسقاط تصوراته ومشاعره على الفيلم إلى حد طمس ما يقوله المخرج نفسه فى فيلمه.

ربما الجمع بين نظرية “سينما المؤلف” عند الإنجليز مع الشكل الإبداعى المتحرر الخلاق الذى مارسه بعض النقاد الفرنسيين يوفر لنا توازناً مفيداً عندما نتناول أفلام كل من فيرنر هيرتزوج وأيضاً فرنسوا تريفو الذى كان واحداً من نقاد مجلة “كراسات السينما” وكان من أوائل من مارسوا الكتابة النقدية على أسس نظرية المؤلف.

نظرية سينما المؤلف عند الإنجليز الآن وطبقاُ لتناولها من نقاد من أمثال فى. إف. بيركنز و روبين وود ونُقاد آخرين يكتبون للمجلة السينمائية الإنجليزية “موفى”، تسير على نفس نهج نظرية المؤلف لكنهاً تأثرت أيضاً بالنظرية التى أرساها “إف. آر. ليفيس” فى الأدب، وهى تنحو إلى تحليل كل مشهد على حدة بدلاً من الحديث الطليق عن الفيلم كله عندما كتب بيركنز على سبيل المثال فى مقالة ” الفيلم بوصفه فيلما” (الذى يهم فى تيمة بريمنجر ليس تفردها وطزاجتها ولكن الوسائل المقتصدة والذكية التى يتم بها تقديم التيمة) وكشف كيف أن بريمنجر يُعد مخرجاً مُقتصداً عظيماً.

لكن هل يمكننا أن نقدم: فقرات من الكتابة النقدية الدقيقة وفى نفس الوقت ننظر إلى تيمات أوسع مما ينشغل به المخرج؟ فالمخرج نيكولاس راى كان ريادياً طبقاً لكتاب مجلة كراسات السينما بسبب أسلوبه فى الميزانسين وقد قال” أنا مهتم بالقصة والشخصيات، أما الكاميرا فهى اداة، إنها الميكروسكوب…) فالميزانسين- طبقاً لأقواله- لم يكن كل ما يهمه.

عن سينما تروفو

كان فرنسوا تروفو مشهوراً بميزانسين أفلامه المثير للإعجاب، ويقول مدير تصوير أفلامه نستور ألمندروس (تريفو أستاذ فى اللقطة-المشهد) (إنه دائما يُفضل اللقطة المتوسطة، والتى تُحقق أفضل مسافة بالنسبة له.. إنه يحرك الكاميرا لكن لا أحد يلاحظ حركتها لأنها تتابع الحدث بحميمية حتى أن حركة الكاميرا تبدو حتمية ولا يلاحظها أحد”.

اللقطات القريبة- الكلوز أب- فى أفلام تريفو دائماً ما تأتى كنوع من الضرورة وليس فقط لدواعى أسلوبية، وإذا إتفقنا على ما قاله ألمندروس من أن تريفو يستخدم اللقطة المتوسطة عادة، لكن هذا نتج عنه إمكانية توظيف الكلوز أب كفاصلة بين اللقطات المتوسطة.

فى مشهد من فيلم “جلد ناعم” حيث تذهب الشخصية المحورية إلى غرفة فى الفندق مع عشيقته لأول مرة، نجد أن الكلوز أب تكشف عن الفعل الشائن وتجعله على المحك، فقبل حتى أن ينتهى الفيلم وصل لنا المعنى بوضوح، فى أحد المرات عندما كان تريفو وهيتشكوك يتناقشان حول التخييل، قال تريفو (ما نقوله هو أنه ليس من الضرورى أن نُصور شيئاً عنيفاً لكى نعبرعن إحساس العنف).

قد نقول نفس الشئ على أى لحظة فى التوتر المتصاعد، إن المخرج الذى يستخدم اللقطة المتوسطة عادة يمكن عندئذ ألا يُعير أهمية للكلوز أب، ربما لم يكن تريفو من مخرجى أفلام الإثارة على النمط الهيتشكوكى، لكنه كان مُهتماً فى فيلم “جنون الحب” بالإستحواز العاطفى الذى قد يقود إلى جريمة قتل كما فى فيلم “جلد ناعم”، وفيلم “المرأة التى فى الشقة المُجاورة”، فتريفو كان مُهتماً بالتشويق الدرامى ويمكن للكلوز أب أن تساعده فى إنجاز هذا التشويق إذا إستخدمها بحكمة.

من فيلم “400 ضربة” لتروفو

لكن تروفو يمكن أن يُنظر إليه بوصفه مخرجاً مهماً من مخرجى اللقطة المتوسطة بسبب فيلمه “الحساسية”. ولاحظ النقاد أن أحد ملامح تيمات أفلام تريفو هو عدم عدالة توزيع الحُب، أو كما يقول الناقد دانى بيرى فى “دليل المتعصب السينمائى للقبلات المسروقة” (عندما ننظر إلى أى فيلم من أفلام تريفو سنجد ثالوثا عاطفيا حيث الشخص المرفوض هو الشخص الذى لديه أكبر قدر من الحب…).

ولاحظ بيرى المفارقة فى هذا الأمر، وفى القلب من هذه المفارقة هو الأسلوب الذى يستحق تروفو الإشادة عنه، فهو مخرج حكيم قرر أن يعرض وجهات النظر المختلفة المتاحة، وقد يكون تريفو مهوساً بالحب المجنون، لكن أسلوبه يقدم حالة  شعرية باردة ومنفصلة لمواجهة هذا الحب المجنون.

دعونا نفكر فى مشهد من فيلم “جول وجيم” حيث يطلب جول من كاثرين أن تتزوج منه، فترد بأنها نامت مع العديد من الرجال وأنه نام مع نساء قليلات جداً وطبقا لنص كلامها فى الفيلم (النسبة المئوية متقاربة ونستطيع أن نكون زوجين سعيدين)، ويحكى جول لجيم أن كاثرين وافقت على الزواج به، فيقدم تروفو لقطة “بان” panسريعة منتقلاً من الرجلين إلى كاثرين التى تقف أمامهما، اللقطة توحى بالعاطفة واللامبالاة فى آن واحد، وتأتى اللحظات الدرامية عادة فى أفلام تروفو من تكثيف مشاعر الشخصية أكثر مما تأتى عبر الفكرة التقليدية للحدث، فالشكل المرئى عادة يتم صياغته بنوع من الإدراك الذاتى والمسافية الأسلوبية: يهيم حباً لكنه لم ينغمس فيه كلية.

وذات مرة قال تروفو أن أفلامه تتحول إلى الحزن رغماً عنه، وعلى الرغم من أن أفلامه تنتهى عادة بموت شخص فإن إختيار اللقطة يقود مشاعرنا إلى الحزن العميق، ونستطيع أن نرى هذا فى الكادر الثابت الشهير من فيلم “الـ400 ضربة” أو فى نهاية فيلم ” أطلقوا النار على عازف البيانو” حيث تلتقط الكاميرا عازف البيانو فى نصف الكادر وتكشف عن الحائط فى النصف الثانى للكادر لتُعطى الإنطباع بإنقسام الشاشة، وفى نفس الوقت تؤكد على عزلة الشخصية الذى أصبح وحيداً مرة أخرى، الشكل هنا يخدم المحتوى: أو دعونا نُسميه تأطير المحتوى.

تريفو يعطى إنطباعاً دائماً بأنه أستاذ: فهو حجة سينمائية وناقد معروف جيداً أحدثت مساهماته النقاشية حول فيلم “400 ضربة” نقلة نوعية فى شكل إخراج الفيلم الفرنسى، وهو أستاذ فى اللقطة المشهد مثله مثل أى مخرج أمريكى جاء قبله.

وماذا عن فيرنر هيتزوج؟

قالت الناقدة بولين كيل بتعجب فى مقالة “عندما يتلاشى الضوء” (أن تكنيك هيرتزوج لا يدين إلا بالقليل للسينما التجارية السابقة عليه: فهو لا يدين للأفلام السابقة عليه بجميع أنواعها).

هذه كانت ملاحظة كيل، لكننا ربما نسمي هذا تفرد هيرتزوج، فهو لم يتعامل فقط مع موضوع الجنون والإنحراف مثل أفلامه “حتى الأقزام بدأوا صغارا” و”أجويرا- غضب الله” و”وستروشيك” و”فيتزكارالدو” “ولغز كاسبار هاوزر” لكنه أيضاً أخرج هذه الأفلام كما لو كان فى حالة جنون وإنحراف.

لا يصور هيرتزوج لقطة- مثل التصويب على موضوع أو منظر عام- إلا إذا كان لهذه اللقطة بُعد ميتافيزيقي، كما أنها تفقد قيمتها الإجتماعية وتصل إلى ما سماه الفيلسوف مارتن هيدجر”شيئية الشئ” ونستطيع أن نرى ذلك فى المراحل الأولى من فيلم” قلب من زجاج” و”لغز كاسبار هاوزر” كيف يمكن إزاحة كل التصورات السابقة حتى نرى لقطة المنظر العام طازجة أو نرى وجهاً لم يسبق لنا أن رأيناهمن قبل؟

أصرت ناقدة مثل كيل فى منتصف السبعينات أن هيرتزوج كان شاعراً سينمائياً لكنه (شاعر سينما تعليمية، وما توجب عليه ان يقوله أصبح الآن موضة شائعة) وربما نستدعى تعليق هوفيدا عن الأمر الذى يتحدث فيه شخص عن أشياء، فليس المهم من هو الشخص المتحدث، إنه الشكل الذى صاغ به هيرتزوج قضاياه فبدت جديرة بالإهتمام.

 فى بداية فيلم “أجويرا- غضب الله” لم تكن جبال الأنديز ونهر الأمازون خلفية لقصة مغامرات، فالجبال والنهر يبتلعان المغامرات إلى حد توظيف المكان بنفس أهمية القصة التى يرويها هيرتزوج، ومن ملامح أسلوب هيرتزوج- الإخراج فى الأماكن الطبيعية، فهو يصور فى تضاريس من المستحيل أن تلتقى مع طموحات الإنسان، وهل ثمة جنون أكثر من هذا؟

من فيلم “حتى الأقزام بدأت صغيرة” لهيرتزوج

وينطبق هذا أيضاً على فيلم “فيتزكارالدو” الذى عاد به إلى الأمازون، فقصة الفيلم تتناول رجلا يحاول أن يسحب قارب صيد إلى قمة جبل حتى يستطيع أن يبنى داراً للأوبرا فى الأدغال، وقرر هيرتزوج وطاقمه السينمائى أنهم يجب عليهم أن يسحبوا قارباً حقيقياً فوق جبل حقيقى، كما لو أن هيرتزوج مُصاب بالجنون مثله مثل شخصية فيلمه، وكما قال هيرتزوج عن سحب القارب إلى قمة جبل (لم يكن ثمة سابقة لهذا الشئ فى تاريخ التقنية، ولا يوجد كتاب إستشهادى نستطيع الرجوع إليه).. لهيرتزوج تفرده بكل ما تعنيه كلمة تفرد، وعلى الرغم من أنه مقتضب فيما يقوله إلا أنه يحتاج أن يصور رؤيته الخاصة عن العالم.

Visited 84 times, 1 visit(s) today