نظرة أخرى على فيلم “الجوكر”.. هل هو ثائر أم مجنون؟

Print Friendly, PDF & Email

ماذا لو قرر المخرج الأمريكي تود فيليبس تقديم فيلمه “الجوكر” Joker (2019)  دون أن يستند إلى مرجعية قصص الكوميكس؟ ماذا لو قرر أن يُطلِق عليه أي اسم آخر بخلاف الاسم التجاري الشهير “الجوكر” عدو باتمان الأشهر؟ هل كان الفيلم سيثير كل هذه الضجة؟ هل كان سيلقى كل هذا الالتفاف وجيوش الألتراس على مواقع التواصل الاجتماعي التي تدافع عنه وتقاتل من أجله؟ الإجابة ببساطة: لا.

بلا شك، فإن جزءاً كبيراً من نجاح الفيلم يعتمد على جمهور جاهز مسبقاً، تم تربيته على مدار 12 عاماً في عالم مارفل الممتد، وثمانية أعوام في عالم دي سي الموازي، وقبلها في ثلاثية باتمان لكريستوفر نولان، وقبلهاـ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات ـ في ثنائية تيم بيرتون.

ويمكن القول إنه خلال هذه العقود الثلاثة التي ظهر فيها الجوكر في أربع نسخ سينمائية، وغيره العشرات من الشخصيات الخارقة ـ سواء كانت شريرة أم خيرة ـ استطاعت شركات الإنتاج خلق وتنشئة أجيال متتالية من محبي هذا النوع من السينما، وصاروا يترقبونه، ويساهمون في نجاحه سواء كان يملك بناء درامياً وأسباباً تؤهله لهذا النجاح ـ على غرار  “الفارس الأسود” The Dark Knight(2008)، أو لا يمتلك مبررات لذلك، مثل فيلم “كابتن مارفل” Captain Marvel  (2019) الذي تجاوزت إيراداته المليار دولار، ولا يمتلك مؤهلات لذلك سوى أنه كان حلقة وصل بين فيلمين مهمين في الخط الزمني لأفلام مارفل هما “المنتقمون: نهاية اللعبة” Avengers: Endgame(2019) و”المنتقمون: حرب الأبدية”  Avengers Infinity War(2018).

شيء آخر ميّز هذا الفيلم لدى جمهور أفلام الكوميكس، ففضلاً عن تاريخ شخصية الجوكر الذي يعرفونه جيداً من خلال ثلاثة أفلام تم تقديمها من قبل، فإن شخصية “الجوكر” تعد هي الوحيدة في عالم الأبطال الخارقين التي حصل مؤديها على جائزة الأوسكار، في الدور الذي قدمه الراحل هيث ليدجر في ثلاثية المخرج كريستوفر نولان، الذي استطاع خلق ملامح إنسانية للشخصية، كما فعل مع باتمان حين ابتعد به لأول مرة عن كونه شخصية كارتونية ليكشف أعماقه الداخلية.

وبالإضافة إلى ما سبق من المهم أيضاً الإشارة إلى ما تفعله أفلام الكوميكس من إعادة تقديم شخصيات الكوميكس الشريرة بشكل مختلف، وخلق جمهور من المحبين لها. ليس فقط تلك التي تتحول من جانب الشر إلى الخير مثل باكي في “كابتن أمريكا” Captain America The Winter Soldier، وسكارليت ويتش في Age of Ultron، وفينوم  Venomفي النسخة التي قدمها توم هاردي، وديدبول Deadpoolفي جزئيه، بل بتنقلها بين عالمي الخير والشر مثل عدد من شخصيات (X-Men) في أجزائه المتلاحقة، وشخصية لوكي في Thor: Ragnarokوالأفلام السابقة والتالية له، مع حديث عن مسلسل يتم إنتاجه لهذه الشخصية المحبوبة خصيصاً.

الأمر تجاوز هذا للتركيز على تقديم أفلام عن الشخصيات الشريرة فقط كمنقذين للعالم لديهم منطقهم وقناعتهم الشخصية أحياناً، مثل شخصية “ثانوس” في Infinity Warالذي يملك فلسفة تبرر رغبته في إبادة نصف الكوكب، وتأسست عشرات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لتبني فكرته. ومثلما فعلت دي سي أيضاً في “فرقة الانتحار” Suicide Squad  (2016)، وهو الفيلم الذي شهد ظهوراً باهتاً لشخصية جوكر بأداء جاريد ليتو، لكنها أكملت فكرة ظهور الشخصيات الشريرة في فيلم “الجوكر”، بمخرج وممثل مختلفين، وإيقاع أقل حدة وابتعاداً عن صخب الحركات البلهوانية والانفجارات المتوالية، ما أخذ الشخصية في طريق آخر مختلف أكسبه جمهوراً إضافياً.

هل هذا يعني أن فيلم “الجوكر” سيء؟ أو أنه موجه فقط لمحبي سينما الكوميكس؟ والإجابة ببساطة هي لا. ولا أتبنى نظرية مارتن سكورسيزي التي تجرّد أفلام الأبطال الخارقين من هويتها السينمائية.

ولمزيد من التوضيح أرى أن أن تود فيليبس استطاع خداع الجميع، فمن جهة لم يقدم لجمهور أفلام الكوميكس  شخصية “الجوكر” التي يعرفونها، بل قدّم خليطاً من شخصيات أخرى شاهدناها من قبل في أفلام “سائق التاكسي” Taxi Driver(1976) و”ملك الكوميديا” The King of Comedy(1982) و “ف للانتقام” V for Vendetta(2005)، أقصد أنه لم يقدمه بوصفه مجرماً مجنوناً كما يعرفه الجميع، بل قدمه باعتباره ثائراً ضد مجتمع فاسد دفعه للجنون عندما منع عنه أدويته، ورمزاً للاحتجاج على توحش رأس المال والنيوليبرالية الجديدة بقيادة والد “باتمان”.

ومن جهة أخرى استطاع خداع أولئك الذين لا يحبون أفلام الكوميكس، باستغلال أداء مميز من خواكين فينيكس وقصة عن المرض النفسي، ليسرّب فيها بعضاً من قصة باتمان ووالده، بل يمكنني القول إنه هدم عالم باتمان التقليدي، وأعاد بناءه ليضع المشاهد في حيرة، بين من هو الشرير والبطل الحقيقي، بل إن المشهد التأسيسي في نشأة باتمان هو مشهد قتل والديه أمام عينيه، هنا يعيد تقديم المشهد لكن دون ذرة تعاطف مع الأب الفاسد ما ينسف مبرر قصة باتمان من الأصل. لكن ما أظنه أيضاً أنه قدم خدمة كبيرة لـ دي سي كوميكس، في بناء عالمها المظلم، الذي ظهر جلياً في Batman v Superman: Dawn of Justice(2016)، بالإضافة إلى إكسابها جمهوراً جديداً.

والأفلام الثلاثة التي سبق أن استشهدت بها، نجد أن اثنين منها (سائق التاكسي وملك الكوميديا) ينتميان لسكورسيزي وروبرت دي نيرو الذي يحضر ممثلاً في جوكر، ربما في إسقاط على الدورين، ففي الأول كان شخصاً ضائعاً وناقماً في مدينة لا ترحم، وفي الثاني الذي كان يحلم أن يصبح نجماً كوميدياً، وهو الحلم ذاته الذي يحمله الجوكر.

ومن المهم هنا الإشارة إلى شيئين، الأول: أن سكورسيزي ظل لأربع سنوات يفكر في تقديم فيلم الجوكر، قبل أن يرفضه تماماً، والثاني أن تود فيليبس عندما سُئل عن زمن فيلمه قال إنه أوائل الثمانينيات، وهو الزمن نفسه الذي دار فيه فيلما سكورسيزي الشهيرين. وهاتان الإشارتان تكشفان إلى أي مدى جاء هذا الفيلم من عوالم بعيدة نسبياً عن أفلام الكوميكس وإلى رؤية أي مخرج ينتمي.

أما الفيلم الثالث الذي سبق وأن أشرت إليه (فانديتا)، فهو إحدى القصص المصورة الصادرة عن دي سي كوميكس، أيضاً، وتتقاطع مع “الجوكر” في العديد من النقاط سيأتي الإشارة إليها لاحقاً، لكن أهمهما أن مؤلفه آلان مور، هو مؤلف قصة “باتمان: النكتة الضاحكة” التي استلهم منها فيليبس فيلم “الجوكر”، وإن قدم الشخصية بشكل مختلف.

يمكن إذن تقديم قراءتين لفيلم الجوكر، الأولى تتحدث عنه باعتباره جزءاً من عالم دي سي المظلم وأفلام الكوميكس، يتتبع مساراتها، لا سيما بعد الحديث عن وجود جزء ثانٍ، والقراءة الثانية تتحدث عنه باعتباره فيلماً عادياً، لكن هنا علينا فقط أن نخلع عن أنفسنا عباءة الانبهار المسبقة ـ إن كنا من جمهور أفلام دي سي ومارفل ـ وننظر له بحيادية تامّة.

في كلتا القراءتين يتتبع الفيلم مصير المهرج آرثر فليك، المريض النفسي، الذي يعاني من اضطهاد وسخرية الجميع، الناس في الشارع، رئيسه وزملاءه في العمل، حتى من مقدم البرنامج الكوميدي موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو) الذي يحبه ويتابع برنامجه.

نحن إذن أمام فيلم صنع خصيصاً لكي يجعلنا نتعاطف مع بطله، لكي نحبه، بداية من المشهد الأول، ونحن نرى بعينيه المنكسرتين تعباً وألماً من مدينة غوثام بينما يسند رأسه على زجاج الحافلة، والفساد يأكلها، بينما تمرح الفئران في كل مكان في إشارة موحية، نهاية بمشهد مشابه وهو يسند رأسه على زجاج عربة الشرطة ويرى بعينين متسعتين دهشة وسعادة، المدينة الفاسدة تحترق، نتعاطف معه، لأننا طوال ساعتين رأينا كم كانت هذه المدينة فاسدة وظالم أهلها وتستحق أن تحترق.

آرثر فليك مريض نفسي، منعت عنه المدينة الرأسالمية التي لا تأبه بالفقراء دواءه فتحول لمجنون، يقتل دفاعاً عن النفس، لذا يتعاطف المشاهد مع هذا المجنون صنيعة الفساد والظلم، تماماً كما تعاطف مع أبطال Sin City(2005)، التي تشبه غوثام كثيراً، لكن الفرق أنها تقدم انتقامات شخصية، لا انتقامات ذات خلفية سياسية.

آرثر فليك مجنون، لكنه ليس مخيفاً لا يستحق التعاطف على طريقة جاك نيكلسون في “البريق” The Shining(1980)، لكنه قريب من طريقته في “طار فق عش الوقواق” One Flew Over the Cuckoo’s Nest(1975)، أقصد من ناحية دوره في تثوير المجتمع، سواء كان هذا المجتمع مدينة غوثام كما في “الجوكر” أو مستشفى كما في “طار فوق عش الوقواق”.

آرثر فليك، يتم تقديم حكايته مع إسقاطات سياسية واجتماعية واضحة، باعتباره شخصاً عادياً، مثل ملايين البشر حول العالم الذين يتم الاعتداء عليهم والتنمر بهم من كل فئات المجتمع، حتى تأتي لحظة الانفجار فينفجر، لكنه هنا يتحول إلى رمز، فيتعاطف معه الجميع كما يتعاطفون مع أي شخص يقرر الانتقام في أفلام هوليود، يسأل طبيبته النفسية ذات مرة: “هل هذا شعوري وحدي أم أن الجميع يزداد جنونا في الخارج”، ثم يقول لها في مرة تالية إنه لم يكن أحد يلاحظ وجوده حتى قام بالجريمة، فأصبح الجميع يتحدث عنه، هل ذلك يعني أنه سيصبح مجرماً أم بطلاً؟

 هل ساهم القتل في خلاصه من هزائمه الشخصية، في مشهد أخير بعد أن يقتل موري ينظر إلى الكاميرا ويضحك، كأنه ينقل ضحكته إلى جميع العيون المصوبة نحوه، كأنه يقول لهم إنه عرف كيف يجد ذاته، كيف ينتصر على كل هذا الفساد.

بدأ الفيلم بآرثر فليك المريض النفسي المضطهد، وكان عليه أن ينتهي بالجوكر المجرم المجنون، لكنه انتهي بالجوكر الذي يقود المجتمع للثورة على المجتمع، لا يقول لنا الفيلم أن الجوكر تحول في النهاية إلى مجرم كما نعرف عنه، بل تحول إلى أيقونة ثورية، تتقاطع مع  V for Vendettaفي الكثير من الثيمات، لا سيما القناع، الذي يحمل إرثاً كبيراً في السينما، سواء كانت للإشارة للشر كما في نسختي “الجوكر” السابقتين، أو سلاسل “It، التي تقدم مهرّجاً قاتلاً أيضاً، وScream، وHalloween، أو كان هذا القناع إشارة للثورة والتمرد كما في فانديتا  The Mask of Zorro، وحتى في مسلسل La Casa de Papel، الذي نرى في أحد مشاهده المواطنين الغاضبين في الشارع وهم يرتدون قناع سلفادور دالي على غرار الأبطال اللصوص في ثورتهم على السلطة.

ولهذا لم يكن مستغرباً أن نسمع عن دور العرض الأمريكية التي منعت دخول الفيلم بالأقنعة ـ مع أن هذا معتاد في أفلام السوبر هيروز هناك ـ ولم يكن مستغرباً أن نرى هاشتاجات على تويتر وفيس بوك تحمل اسم “الجوكر” وقناعه في محاولة لاستغلاله سياسية من قبل البعض، ولم يكن مستغرباً أن نقرأ عن تخريب في بعض الدول حول العالم من بعض من ارتدوا القناع،  وربما  لهذا السبب سأل مقدم البرنامج الكوميدي موراي، الجوكر في مشهد رئيسي بالفيلم عما إذا كان للقناع دلالة سياسية، فأجابه: “لست سياسياً، بل أحاول إضحاك الناس”، في محاولة من صناع الفيلم لوقف أي اتهام بصنع فيلم سياسي.

غير أن ما تجب الإشارة إليه هنا هو الفارق الجوهري بين شخصية “فانديتا” و”الجوكر”، فالأول كان منظّماً، لديه أيدولوجيا واضحة يؤمن بها ويدعو إليها أتباعه، في حين أن الأخير ليس أكثر من حانق وغاضب من الفساد وتوحش الرأسمالية، لأنه يمسه بشكل شخصي، لأنه ضحية له، فتحول لرمز لدى أنصاره ـ دون رغبة منه ـ بسبب قناعه الرمزي، بسبب رصاصة أطلقها دون قصد، بسبب غضبه لا بسبب أفكارِ يحملها.

هذا الغضب داخل آرثر فليك من المدينة الفاسدة، يحمل المشاهد على أن يتعاطف معه حتى في جنونه، فجميع الجرائم التي قام بها في الفيلم يمكن تبريرها، بداية من قتله ثلاثة أشخاص في القطار حاولوا التحرش بالفتاة ثم اعتدوا عليه، إلى زميله في العمل الذي وشى به ولفّق له تهمة، حتى مشهد قتله لأمه لا ينقل أي مشاعر إلى المشاهد الذي لا يعرف، هل فعل ذلك رحمة بها من المرض أم انتقاماً منها، وحتى قتله لمقدم البرنامج موراي فرانكلين يمكنه تبريره بأنه فعل هذا لأنه سخر منه. وبالإضافة إلى ما سبق فإن من قتل والدي باتمان هو واحد من آلاف الثائرين الذين يضعون قناع المهرج، ويجد المشاهد نفسه محمولاً على عدم الشعور بأي تعاطف مع رجل الأعمال الفاسد الذي يسرق الفقراء ويستغلهم للوصول إلى السلطة. الجوكر ـ كما قدمته هذه النسخة ـ ليس مجرماً إذن. هو قائد ثورة المضطهدين والمظلومين في المجتمع.

بذور هذه الثورة، نجدها في الحوار الذي تم وضع بعناية لآرثر، سواء في جمله الحوارية العادية خلال الفيلم، مثل قوله “لم أشعر بالسعادة ولا لحظة في حياتي اللعينة، أتعرفين ما المضحك، ما الذي يضحكني حقاً؟ كنت أظن أن حياتي مأساوية، لكني أدرك الآن أنها مسرحية هزلية لعينة” أو حتى في خطبة تدشينه “زعيماً للثورة” قبل قتله موراي، وهي التي تناقلت جملها الصحف والقنوات التلفزيونية نقلاً عن شخصية الجوكر في زيها الثائر الجديد، “لم يعد لديّ شيء أخسر، لم يعد بإمكان أي شيء أن يؤذيني، ما حياتي إلا مسرحية هزلية، أنتم جميعًا، يا من تشكلون النظام، الذي يعرف كل شيء، أنتم تقررون ما الصواب وما الخطأ، كما تقررون المضحك من عدمه، الكل فظيع في أيامنا هذه، وذلك كفيل بدفع أي شخص إلى الجنون”، هذه الكلمات اليائسة كطلقات رصاص، يمكنها أن تنطبق على أي شخص بائس محبط حول العالم، ومن هنا حدث التوحد مع شخصية الجوكر من محبي الفيلم “لو كنت أنا ميتًا على قارعة الطريق، لمشيتم من فوقي وتجاهلتموني، أمر إلى جانبكم كل يوم ولا تلاحظونني”، وهذه العبارة صرخة أخرى ضد الرأسمالية وتوحشها، ضد النيوليبرالية، ضد الفروق الطبقية، ويتابع ذاكراً ما يمكن اعتباره مبرراً لبدء الثورة على المجتمع الفاسد وإشارة لقتل والد باتمان: “أتظن أن الرجال من أمثال (توماس وين) قد يضعون أنفسهم مكان أمثالي؟ أو يضعون أنفسهم مكان غيرهم؟ كلا، يخالون أننا سنجلس مكتوفي الأيدي، ونتلقى المذلة مثل أطفال صغار مطيعين، يخالون أننا لن نتوحّش ونتصرف بجموح”، يقول هذا لتبدأ أعمال السلب والنهب، وأعمال السطو في المدينة، لتحترق جوثام بمن فيها. ليصبح الجوكر رمزاً لكل الذين تجاهلهم النظام، أو كما قال مبرراً غضبه وجنونه وجرائمه “عندما تجمع بين متوحد مريض عقليًا، ومجتمع يهجره ويعامله كالحثالة”.

يمكن قراءة الفيلم باعتباره سيرة مدينة جوثام الفاسدة حتى قبل وجود الجوكر، بل إن المشهد الأول في الفيلم هو لنشرة أخبار يسمعها آرثر بينما يضع قناعه، كأنه ضرورة له كي يستطيع العيش في هذه المدينة التي  تلفظه ولا تشبهه، يحاول أن يبتسم بيأس فلا يستطيع، يسير في الشارع فيتنمر به المراهقون، يتسامح معهم ويقول إنهم مجرد فتيان، فيشجعه زميله على عدم التسامح، لكنه يستمر في الهرب داخل ذاته، بل إن أحد أشد المشاهد تأثيراً، عندما يقرر أن يختبئ داخل الثلاجة، ليس من شيء محدد، بل هرباً من عالم يضطهده،  تستمر انكساراته حتى يفقد سلامه النفسي بعد أن أو قفت المدينة منحه دواءه، كأنها تعطيه مبرراً لجنونه وجرائمه، فيقول للطبيبة: “أنت لم تنصتي إليّ أبدا”، فترد عليه: “إنهم لا يبالون بأمثالك يا آرثر”.

يحاول فيليبس بهذا أن ينقذ الفيلم من الوقوع في فخ الترويج للعنف، بإلقاء حمولة جرائم القتل على المرض النفسي، نرى ذلك في الرقصة المجنونة عقب كل جريمة يفعلها، كأنه يحتفي بها ويهرب بها من كونها جريمة، هذا الاحتفاء والانتشاء ينتقل بشكل ما إلى المشاهد فيشاركه الاحتفال بالنصر.

أول جريمة ارتكبها كان يدافع فيها عن نفسه، لكنه جعلته يسير منتصباً، منحته بعض الثقة، بعض السعادة، بعض الانتصار الذي رأيناه في رقصته. يقول آرثر إن جريمته الأولى لم تزعجه إطلاقاً، إنها أفرغت شحنة الغضب داخله، بل إن جارته تقول له: “أظن أن من فعلها بطل، قتل 3 أوغاد في المدينة”، كأنه تأكيد على تلك الفكرة، حتى عندما يقتل زميله في العمل، يفرج عن الآخر القزم، لأنه الوحيد الذي يعامله جيداً، كأن الفيلم يريد أن يقول إن آرثر ليس قاتلاً، بل ينتقم لنفسه من المجتمع،  يدهن وجهه بالأبيض، وعندما يقتله زميله يطرطش اللون الأحمر على وجهه فنشعر بتكوّن شخصيته الجديدة.

في ظني أن “الجوكر” هو فيلم خواكين فينيكس، مع كل احترامي لكل طاقم التمثيل الذي كان موجوداً وعلى رأسهم السهل الممتنع روبرت دو نيرو، فلم نر أحداً سوى فينيكس، ربما قدم أداءات مشابهة من قبل عن الوحدة في فيلميه “لم تكن هنا ابدا” You Were Never Really Here(2017)، و”هي”  Her(2013)، أو تقارب المرض النفسي في “السيد” The Master(2012)، وحبيبان”  Two Lovers(2008)، وحتى عن الشر “المصارع” في Gladiator(2000) و”المهاجر”  The Immigrant(2013)، أو تبرير الجريمة بمنطق ملتوِ في “رجل متطرف” Irrational Man(2015) ولكنه هنا يمزج بين كل هذه الأداءات ليقدم أداء خاصاً ساعده عليه أداء حركي مميز في بعض المشاهد المأساوية، أو رقصته الشهيرة بعد كل جريمة قتل، فضلاً عن ضحكته المميزة، تلك التي تستدعي الحزن عند سماعها، والتعاطف مع صاحبها، كونها حالة مرضية من عدم الثبات العاطفي، تُسمى Pseudobulbar Affect   يفقد المريض خلال نوباتها السيطرة على أعصابه وانفعالاته، فيضحك لا إرادياً، من الحزن والغضب والألم، وكان فينيكس يضحك بينما هو يبكي فعلياً، ويجعل مشاهده حائراً أمامه في مشاهد ذكرت بمشهد سريع من فيلم أوليفر ستون المهم Natural Born Killers(1994)، عندما كانت بطلته تتعرض الاعتداء والاغتصاب على خلفية صوت ضحك وتصفيق، وكأنه مشهد من فيلم كوميدي.

لا يمكن أيضاً تجاهل الموسيقى التصويرية المثيرة للعواطف التي صنعتها هالدير جونادوتير، ولا إخراج متميز من تود فيليبس، شارك في كتابة السيناريو مع سكوت سيلفر، صوّر خلاله المدينة المظلمة الفاسدة غوثام، بدءاً من الملصق الدعائي الذي لا نعرف فيه إذا كان الجوكر يرقص فيه أم يسقط للخلف بين بنايات المدينة المتوحشة، إلى عشرات الأسئلة التي تركها مفتوحة في الفيلم، حول ما إذا كان الجوكر شقيق باتمان، والوجه الآخر لهما، أيهما الطيب وأيهما الشرير؟ وهل كلاهما يُصلح العالم بطريقته؟

أخذ الفيلم أيضاً من أفلام الكوميكس شخصياتها السطحية، فبخلاف شخصية آرثر، التي تشهد تحولاً واضحاً، فإن بقية الشخصيات أحادية الجانب، شريرة تماماً. في الحقيقة، لا توجد شخصيات طيبة في عالم الجوكر، حتى الأم التي كان على المشاهد أن يتعاطف معها، يحملها الفيلم ذنب توريثه المرض النفسي والكذب عليه فيما يخص والده، حتى الحبيبة التي تنكره في النهاية، لم تكن المشاهد الجميلة معها إلا توهماً، بل يمكن القول إن كل المشاهد التي منحت آرثر فليك في الفيلم بعض الأمل لم تكن سوى بعضاً من خيالاته، بداية من مشهده مع الحبيبة المفترضة إلى مشهد تحوله إلى نجم كوميدي يحصد التصفيق.

الجوكر، ليس فيلماً سيئاً، لكنه أيضاً ليس فيلماً عظيماً، لا يمكن مقارنته بـ “سائق التاكسي”، ولا يمكن اعتباره مجرد فيلم “كوميكس” عادي، لكنه في ظني فيلم مهم، استطاع أن يجيب سؤال سكورسيزي حول إشكالية أفلام الأبطال الخارقين، وفي نفس الوقت وضع تلك الأفلام في ورطة حول نوعية “السينما” التي ستقدّمها في المستقبل.

الجوكر الذي قدمه فيليبس وخوانكيس، ليس هو جوكر باتمان ودي سي كوميكس، ليس ذلك المجرم المجنون، لكنه شخص بائس في غوثام، شاءت الظروف أن يحوّله البعض إلى بطل في يوم وليلة ـ بدون قصد منه ـ نرى ذلك كثيراً في واقعنا الاجتماعي والسياسي، لكنه في النهاية ليس أكثر من شخص مضطرب نفسياً في مدينة فاسدة.

Visited 211 times, 1 visit(s) today