ملامح وسمات الفلسفة الوجودية في سينما روبير بريسون

Print Friendly, PDF & Email

مقدمة

الوجودية عند المخرج الفرنسي روبير بريسون حاضرة بكثرة في افلامه الاولي والاخيرة في تاريخه الفني، وللوهلة الاولي نتساءل ما هي الوجودية في افلامه، هل هي وجودية مؤسسة (عامة) أم ملحدة أم وجودية متفائلة أم وجودية الفيلسوف الدينماركي كيركجارد او وجودية كامي او وجودية سارتر، أم وجودية بريسون نفسها من ذاتها لذاتها؟

ويلاحظ ان وجودية بريسون الذاتية حاضرة بشدة بخلاف تناص هذه الوجوديات المختلفة مع الصورة، ويلاحظ ان جفاف الصورة أدي الي جفاف وجودي، فهناك علاقة بين المنحي الوجودي وطبيعة الصورة لديه، فهذا التشابك بين الفلسفة الذاتية واللغة السينمائية ينتج عنه جماليات سينمائية حقيقية، ويحاول هذا المقال الاستفهام حول ارهاصات الفلسفة الوجودية في الصورة لدي بريسون في عدة حلقات متتالية.

الوجودية الدينية

روبير بريسون كان لاهوتيا حذرا يميل الي الوجودية الملتزمة بمحاذير أيضا، فكان قاب قوسين أو أدني بين الوجودية واللاهوت، فالتفسيرات الدينية واجبة في نصوص أفلامه وملامح صوره السينمائية وأيضا الأفكار الوجودية الملحدة أو الملتزمة تسيطر علي ملامح وتوجهات شخصياته السردية، فلا يمكننا الا القول إنه وجودي صوفي أو لاهوتي متحرر فجاءت الصورة متدفقة بالشجن الوجودي والتدفق الديني فأصبحت صورة ناعمة رقيقة ومونتاج سلس مسرحي هادى هذا الهدوء جاء نتيجة الحضور اللاهوتي رغم توتر شخصياته الدائم واعترافهم بداخلهم عن بحثهم الوجودي التائه المستمر هذا التناقض ما بين الوجودية واللاهوتية صنع جماليات صورة اقرب الي الواقع أو الي الطبيعة الإنسانية المعتادة وهو الترحال بين حالتين أو عالمين وهي جماليات ذهنية تحولت إلي جماليات صورة لا تحتاج إلي حمل تمثيلي أو حمل سردي قصصي واستطاع بريسون رغم اتجاهه الفكري الذهني أن يرسم جماليات صورة بأدوات سينمائية بسيطة مقتصدة وفقيرة.

يوميات قس ريفي- (1951)

وكما يقول امام عبد الفتاح إمام، الفيلسوف المصري، ترتبط الوجودية بالتدين والتصوف والابعاد الروحية، وتعبر بشكل رسمي او ممكن القول أنه التعبير الوحيد عن الوجود الانساني الاصيل، والميول الوجودية الدينية شائعة في افلام بيرسون، وهي موجودة في اكثر من فيلم ومنه فيلم يوميات كاهن في الارياف وملائكة الخطئية وذلك بشكل مباشر عن قصص تتعلق بالروح الدينية الوجودية، ولكن هناك روح دينية رمزية يعني بشكل غير مباشر موجود في الافلام، وهو يعتبر منحي وسؤال فلسفي للدين، فرغم المنحي الوجودي او الاستلادل اللاديني الوجودي مثلا في افلام موشيت والنشال والمال الا ان هناك مسائلات خفية للدين في مسار الشخصيات والاحداث. وقد صرح بيرسون أنه مسيحي ملحد، وهناك ميل الي وجودية كيركجور في الروح والابعاد الدينية.

الوجودية الاخلاقية

ينتقل روبير بريسون في محاكمات اخلاقية وجودية لشخصياته، ما بين الوجودي المحدد لكينونته والمفسر لاحكام القانون وماهية الدولة، وطرح تساؤلات جامعة وجودية وهو شخصية ميشيل في فيلم النشال، حيث ليس هناك انسحاق وجودي فيما يتعلق بفهم وتفسير الالتزام القانوني، واتضح خلال مشاهد مناقشات ميشيل مع رجال القانون والشرطة حول القانون واختراقه وكانت مناقشات وجودية حول ماهية الفرد وعلاقته بالقانون، وما بين الانسحاق الوجودي الانثوي، وهو في شخصية موشيت الي تتعرض لمضايقات طول الوقت، فتترك الالتزام الاخلاقي والقانوني الي المجتمع، وهنا تصبح المناقشات الوجودية حول الاخلاق والقانون بلا هدف، فالاستسلام نتيجة لسيطرة المجتمع قانونيا واخلاقيا علي الفرد، بخلاف ميشيل في فيلم “النشال” فقد وصل وعيه الي احقيته الوجودية في التحديد او الفهم عندما اخترق القانون واصبح مثال نيتشة الانسان الاعلي وانسان خارق رغم انه ليس محترفا للسرقة انما قدومه علي فعل السرقة بطريقة فلسفية وجودية، وايضا المحاكمات الوجودية الاخلاقية الانسانية الوجودية العامة وهي في فيلم .

بالصدفة يابلتازار 1966

روبير بريسون الفرنسي كان رائدا في المحاكمات الأخلاقية وفلسفة تأنيب الضمير في بداياته السينمائية ففي ملائكة الخطيئة وضع كل شخصياته في مأزق أخلاقي وركز غلي شابتين في دير كهنة للإصلاح فكانوا مسجونتين وانتهوا من العقوبة فكانوا يتأسالوا وجوديا عن هويتهم واحقيتهم في حياة اخري ليست فيها تسلط الحكم الديني للدير او تسلط قانون المجتمع في ملاحقتهم جنائيا فالأمر الأشبه برواية كافكا المحاكمة فدائما الشابتين في حالة محاكمة حتي لو كانت محاكمة معنوية أو محاكمة ذاتية وكانت أسئلة بريسون حول السلطة أسئلة وجودية نفسانية وليست أسئلة محددة مباشرة مما صعب الأمر على شخصيات الفيلم أنفسهم حتي أصحاب السلطة كانوا في مأزق وجودي أخلاقي لا مثيل له.

اقترب بيرسون من إشكالية الخير والشر وقد انتصف للشر لفكرة رئيسية لديه وتوصل أن الشر يحوم في النفوس وانه طريقه للقبول للحياة فكان وجوديا مبرزا دعواته للخير بلا أمل أو تشاؤميا في عدم مقدرة الفرد في تحديد مصيره اليومي فهناك حسابات وصراعات خارج الإنسان تضبطه وتحركه في مأخذ عدة وترك لشخصياته حرية المحاولة لإثبات ذواتهم دون الوصول الا تحديد الا الشعور الصوفي وهو تحمل الالم والانسحاق في الحياة فكل شخصياته كانت مذنبه أو منسحقة أو منبوذة.

تقنيات فقيرة

استند روبير بيرسون الي الاقتصاد وتفقير الاشياء والادوات والتقنيات الفنية، ومنها الحكاية والموسيقي والحوار وحتي الصورة، فجاءت الجماليات متقشفة زاهدة، تسحق المشهدية نحو الالم والتحميل الجمالي، فيقول بريسون ” لا داعي لموسيقى مرافقة، مساندة أو داعمة، لا داعي لموسيقى البتة، الأصوات هي الموسيقى”. فحتي الموسيقي التي تعتمد علي الحواس والحدس يدعو أكثر الي التفقير و الاعتماد علي الاصوات الطبيعة او الموسيقي الطبيعية الغير مصطنعة وهي بعد معقد جدا كان بداخل بريسون ملخصه الاقتصاد في التعامل مع الادوات الفنية.

رجل يهرب- 1956

وقد ساهم هذا الامر في التعبير عن المناحي الوجودية الفلسفية والنفسية من خلال التأمل الجمالي المتقشف، فرغم انه يكره التفكير والموضوعات الا ان هناك تأمل وجودي، وليس فلسفة وجودية، وهناك جماليات وجودية، وليس فلسفات تناقش الوجود، فالتحم الفكر الوجودي الفلسفي بالجماليات والصورة والفيلم، والطريق إليه يكون عبر التأمل الذاتي للفيلم والصورة، ويقول بريسون ” لا أفكر كثيراً فيما أفعله عندما أعمل، لكنني أحاول أن أحس شيئاً، أن أرى من دون أن أفسر، أن ألتقطه بقدر المستطاع. هذا كل شيء. التفكير عدو رهيب. عليك أن تحاول العمل ليس من خلال إدراكك، وانما بحواسك وقلبك بحدسك”.

بدأ بريسون رساما وكانت لديه روح الرسم واللوحات فكان يشكل الممثلين في لوحات وكان التمثيل والصورة لديه بناءا تشكيلا بناء علي خليفته في الرسم، وهو ما انعكس علي قوة الصورة، فالبناء التشيكلي كان قوياً ولم يتجاوز خطاب الصورة، فالصورة التشكيلية امتزجت بالصورة السينمائية وهو ما عبر عن روح وجودية. فالرسم والبناء التشيكلي فناً يعبر عن وجودية الشئ، فالوجودية لدي بريسون غير مصطنعة، فهذه الخبرة التشكيلية ساعدت بريسون في ابراز صورة فنية كاملة. وكان البناء التشكيلي للصورة والشخصيات بناءا جافا ومتقشفا مثل باقية عناصر اللغة السينمائية لديه، فكانت الروح التشكيلية اضافة لصورة بريسون وتسبح في فلسفة التقشف والاقتصاد ايضا، فكانت تشكيلية زاهدة خالية من التعقيد والبناء الفني المتعدد.

فوكونية بريسون

المال- 1983

هناك ميول فوكونية نسباً للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول الشخصيات والصورة لدي بريسون فيما يتعلق بتحليل فوكو لشخصية المجنون والمهمش فهناك تحيز فوكوني للمجنون والمهمش والمتجاوز للقانون والمختلف جندريا حيث يتواجدون خارج العالم، فالمجنون بالأخص، لا يوحد في العالم، وهي نظرة بريسون لهذه الفئة، ومحور شخصياته، فهناك نظرة فوكونية كبيرة جدا، في مستهل افلامه واحداث درامياته المأسوية، ووفقا لفوكو المجنون يتمرد علي العالم ويصبح في عزلة خارج وجوده في العالم، والمجنون قد يكون ذا الرؤية المختلفة، والمتجاوز لما هو يومي وحياتي، وصاحب الافكار المهلوسة، والمتطرف ضد الانظمة والسلطات بشكل هيستري، والشاعر المفرط في خطابه المثالي والمتعالي. وهذه الروح كانت موجودة في شخصيات بريسون باقتدار، والأمثلة كثيرة على ذلك.

Visited 6 times, 1 visit(s) today