ملفات فينيسيا (3): محنة الكتابة وعذاب الكاتب!

لدي أسباب شخصية كثيرة لإعجابي الكبير بهذا الفيلم الفرنسي الذي قد يبدو عند الكثيرين، عملا بسيطا تقليديا متواضعا. فقد وجدت فيه الكثير من المشاعر والتساؤلات التي لامستني مباشرة، خصوصا وأنها تتعلق بمهنة الكتابة وعمل الكاتب، وهو ما يدفع إلى طرح أسئلة قديمة- متجددة، قد لا نملك إجابة بسيطة عنها مثل: لماذا نكتب، ولمن نكتب، وكيف نكتب؟.. وغير ذلك.

الفيلم هو “في العمل” At Work وهو من إخراج الممثلة الفرنسية التي تحولت منذ سنوات إلى الإخراج، فاليري دونزيللي، أعدت له السيناريو مع جيل مارشاند عن رواية بنفس العنوان لفرانك كورتيس، ومن بطولة الممثل الصاعد نجمه بقوة، “باستيان بويون”. وهو ضمن 21 فيلما تشارك حاليا في مسابقة الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي.

لا يقدم الفيلم بالطبع أي إجابة عن هذه الأسئلة، وليس مطلوبا منه أن يفعل، لكنه يصور حالة رجل في الثانية والأربعين من عمره، سيطرت عليه فكرة الكتابة، أي أن يصبح كاتبا روائيا، حتى لو كان معنى هذا أن يستغني عن الدخل الجيد الذي كان يجنيه من عمله كمصور محترف، وعن حياة طبقته المريحة في مسكن مريح، ويفقد بالتالي زوجته التي تهجره وتذهب إلى مونتريال بصحبة ابنه وابنته، ثم يتعرض لغضب أبيه الشديد عليه، ويضطر أن يترك المسكن المؤقت الذي منحته له عمته ويصبح شريدا قبل أن تمنحه امرأة طيبة القلب مكانا مؤقتا.

بطلنا هذا “بول” (باستيان بيون) يعثر على موقع على شبكة الإنترنت يعلن فيه الزبائن عن طلب من يمكنه القيام بأعمال بسيطة منزلية مثل إصلاح ثلاجة أو باب أو تنظيف إصص الزرع في شرفة منزل، أو نزع هيكل حديدي لأريكة وحملها خارج الشقة، أو تقليم الحشا\ش في حديقة منزل، وغير ذلك. وكلها أعمال لا تأتي له سوى بما يكفي بالكاد لدفع الفواتير. ويتنافس الذين يقبلون مثل هذه الأعمال فيما بينهم عن طريق خفض قيمة ما يتقاضونه إلى أقصى حد. وهدف بول من العثور على مثل هذه الأعمال التي يشترط أن يقوم بها خلال النهار، لكي يتاح له وقت في المساء لكتابة ما يكتبه.

كان يمكن لبول أن يستمر في العيش كمصور، ويحتفظ بحياة كريمة ولا يتدنى، لكنه يختار عن وعي وإصرار هذا النمط الجديد من حياة الطبقة التي تعيش على هامش المجتمع. في اللقطات الأولى نراه يعمل في البناء وحمل الأتربة مع مجموعة من المهاجرين الأفارقة الذين يستغربون وجوه. وتقول له فتاة ذهب للقيام بعمل ما في شقتها إنه يبدو غريبا في مثل هذا العمل بل يبدو منظره كمنظر طبيب، وتسأله عما إذا كان لديه عمل آخر لكنه يتهرب من الإجابة.

هل الكتابة الإبداعية “لوثة” أو حالة جنون تفقد المرء عقله وتدفعه للتضحية بالكثير؟ هل هو سلوك متطرف؟ هل يمكن أن يعوضه العائد من الكتابة عما فقده؟ إنه يخبرنا بأن ما يحصل عليه من عوائد كتبه التي أصدر منها كتابان ويعمل على الكتاب الثالث، لا تزيد عن 200 يورو شهريا، فما معنى هذه المعاناة؟ ولماذا يرفض بول ما اقترحه صديق قديم عليه، أي العمل كمدرس أو كأمين مكتبة مثلا؟ هل هناك ولع خاص لديه بتربة حياة الطبقة الهامشية التي تضطلع بأعمال صغيرة تصب فيما يعرف باقتصاد العمل المؤقت؟

كلها تساؤلات طبيعية لا نحصل على أي إجابة عنها لا من طرف بول نفسه في حديثه مع أبيه أو صديقه، أو من خلال بناء الفيلم نفسه. وهو ما دفع الكثيرين لرفض الفيلم نتيجة غياب القدرة على الإقناع، إلا أنني وجدت أن بول هنا صادق تماما مع نفسه، فهو في الحقيقة لا يبحث عن الراحة أو العمل الروتيني الذي يجعله يجلس أمام مكتب لساعات محددة في اليوم، أي عمل يستغرقه ويشغل ذهنه كثيرا، فهو يريد أن يتفرغ ذهنيا لممارسة الكتابة الأدبية الإبداعية، وأما الأعمال اليدوية البدائية التي يمارسها فهي تكسبه أولا القدرة على الانغماس في التعامل معها بواسطة الجهد العضلي، وثانيا أنها تكسبه تجربة الاحتكاك مع أناس من طبقة الذين يستغلون “القوة العاملة العاطلة”، الذين يتعيشون على بيع ما يمكن لقوة أيديهم القيام به حتى ولو على حساب صحتهم البدنية.

بول هو الإنسان الحالم الذي يجد متعته الحقيقية في الكتابة. لكنه شأن كل الكتاب في عصرنا، الذين لا ينتمون إلى مؤسسات ترعاهم وتؤمنهم ماليا، يواجهون متاعب لا تنتهي مع الناشرين.

ناشرة كتب بول تقول له إن روايتيه السابقتين نجحا ونالا ثناء من جانب النقاد لكن في سوق التوزيع لم يتجاوز أي منها بيع أكثر من 5 آلاف نسخة فقط. وأقرت بأنه موهوب ويمتلك ناصية اللغة ولديه أسلوب بديع لكن ما يكتبه لا يتماشى مع ما يريده القاريء. وتحت نفس الحجة ترفض نشر روايته الثالثة “قصة نهاية” التي يبدو أنه ضمنها تجربته مع حبيبته أو زوجته التي هجرته مؤخرا.

عندما رأيت الناشرة الخبيثة وهي تشكو من أن كتب بول لم توزع أكثر من 5 آلاف نسخة ضربت كفا بكف، متعجبا، وقلت لنفسي إن الكتاب في العالم العربي اليوم لو نجح في اختراق حاجز الألف نسخة لاعتبر ناجحا جدا.

الطريف بالطبع أن بول سيتخلى عن روايته الرومانسية التي لم تعد تناسب جمهور قراء اليوم، ويدون تجاربه في العمل اليدوي في بيوت الآخرين، والشخصيات التي يقابلها خلال ذلك، على صفحات دفتر صغير. وربما على سبيل المزاح أو السخرية، سيرسل بهذا الدفتر الى الناشرة. وعندما تقرأ ما دونه تكلف سكرتيرة الدار بطبع كل كلمة من كلمات الصفحات التي كتبها على الكومبيوتر، وتتصل بالكاتب المحبط لتخبره انه أعجبت كثيرا بما دونه وأنهم سينشرون الكتاب!

في الفيلم الكثير من المواقف الصعبة، والمواقف الأخرى المعذبة، فزوجته مثلا تخبره في اتصال عبر الإنترنت بأن لا هي ولا ابنه أو ابنته قرا أحدهم ما يكتبه. لكنه سيسعد كثيرا عندما تنجح روايته الثالثة وتنتشر أخبارها في الصحف فيتصل به ليخبره بسعادته الكبيرة وفخره به. وهو ما يجعل بول يشعر ربما لأول مرة منذ أن بدا الكتابة بقيمة ما يفعله. ولكن هل سينتقل إلى عمل آخر، أكبر يتيح له حياة أفضل؟ لا يبدو الأمر كذلك، بل سيستمر غالبا في العمل داخل تلك التجربة التي أصبحت المعين الذين يستمد منه المادة الروائية.

فيلم بسيط لكنه مصنوع بقوة وجمالية خاصة” لقطات قصيرة، كاميرا تتحرك في بطء، ترصد على سبيل المثال، من وراء زجاج باب الشرفة، بول وهو يعمل، بينما صاحب الدار يجلس أمام جهاز الكومبيوتر مشغولا بأشياء بعيدة كل البعد عن العمل اليدوي. إضاءة خافتة، ومساحات ضيقة خانقة تشعرك بالجو الذي يعيشه بول. وهو أيضا يعمل أحيانا على سيارة اقترضها من أبيه، كسائق لحساب شرطة أوبر لنقل الأفراد. وذات مرة يصدم غزالة صغيرة في طريق ريفي، ويحملها معها ويروي فيما بعد لأبيه كيف أنه اضطر إلى خنقها لكي يريحها من عذابها ولم يستع ذبحها قط. ويعلق قائلا إنه رأى فيها أيضا لحما شهيا مجانيا. وعندما تستلطفه راكبة من الراكبات اللاتي ينقلهن بالسيارة وتدعوه الى مسكنها، يفشل في مماسة الجنس معها، فعقله مشغول بفكرة واحدة، وجسده منهك تماما بفعل ما يمارسه من أعمال شاقة!

الممثل باستيان بويون، يبدو مناسبا تماما لشخصية بول، البارد، الذي يبدو كما لو كان منوما، متجها نحو مصير غامض، بعد تخليه الطوعي عن حياة ابن الطبقة الوسطى، لكي يحقق ذاته عن طريق الكتابة. ولكن الكتابة تقتضي العثور على ناشر، والناشر يفرض نوعية معينة من الكتب التي يرحب بنشرها، والنشر ليس معناه النجاح، وإشادة النقاد بالكتاب لا يعني أن الكتاب سيبيع. والخلاصة التي خرجت بها شخصيا من هذا الفيلم، هي أننا جميعا- أي الكتاب- مجانين، وأننا نكتب أساسا لإرضاء أنفسنا، وان الكاتب الذي يحلم بالعيش من الكتابة هو شخص واهم، فمن دون عمل حقيقي يجب أن يكون مستعدا لمواجهة الموت الاقتصادي أو الانتحار الاجتماعي!