مرايا العراق في الشتات
لا يزال الفنان السينمائي العراقي الشامل قاسم عبد، المخرج والمصور والمونتير، يحاول باجتهاد وإصرار، وينجح في صناعة سينما تسجيلية خاصة به. سينما تسجيلية متميزة، تقترب من السينما الروائية، سينما تحكي عن نماذج انسانية في صراعاتها مع الزمن، سينما تقع في منطقة ما بين الروائي والتسجيلي. وفي هذا تقترب تجربته من تجربة المخرجة اللبنانية نادين لبكي، صاحبة الفيلم المتميز كفر ناحوم. لبكي التي تبدأ من الفيلم الروائي، لتمزجه مع التسجيلي لاحقا، والنتيجة هي هذا التهجين الجميل ما بين النوعين.
وفي فيلم قاسم الأخير، “مرايا الشتات” فان شخصيات الفيلم الحقيقية هي مثل أبطال فيلم روائي. فالفيلم يصور الخيبة والألم والمنفى، إضافة إلى النقطة الاهم، وهي تطور الإبداع الفني في الغربة الطويلة. الابداع الناتج من امتزاج معاناتهم الذاتية والموضوعية، مع الحياة في روما مدينة الفنون وغيرها من المدن الايطالية. ان هذا التفاعل يحقق ما يسمى بالإنجليزية Synergyاي ابداع أكبر من المتوقع. ربما ليس مع جميعهم لكن على الاقل مع بعض الأسماء، التي تحضر في الفيلم من الفنانين التشكيليين العراقيين وهم عفيفة العيبي، جبر علوان، علي عساف، رسمي كاظم، بهاء الدين احمد، فواد علي، كاظم الداخل، بالدين أحمد.
ان السينما التسجيلية مجال وعر احيانا، وممل للمشاهد، وفي الغالب كانت تقع في خانة الدعاية او الپروپاغاندا للحكومات او الجهات التي تموّل وتسند الفلم. وشهدنا هذا مع الفيلمين الوثائقين السوريين عن مجاميع الدفاع المدني في الأجزاء الثائرة من مدينة حلب، “الخوذات البيضاء” و”آخر الرجال في حلب”. ورغم أن أولهما فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي قصير، والثاني فاز بجائزة مهرجان سندانس لأفضل فيلم وثائقي طويل. إلا أن المشاهد يشعر بسهولة انهما فيلمان دعائيان ضد النظام السوري، وربما تكون الجوائز الممنوحة لهما، تدخل فيها المجاملة والمحاباة لأصحاب هذه الأفلام، على حساب الفن السينمائي.
لكن مع قاسم، الأمر مختلف. اذ نشعر أن السينما التسجيلية صادقة وحقيقية نزيهة وحيادية، وأقرب للذوق الجماهيري العام، في الشكل والتصوير والسرد. لأن قاسم عبد فنان يحترم القيم السينمائية التي تربى عليها في دراسته ومشاهداته وخبراته المتراكمة، وثقافته الأدبية والفنية. وهذا يظهر من عنوان الفيلم الذي استوقفني كثيرا، “مرايا الشتات”. وهو دليل عملية اختيار طويلة، وصيرورة اخذت وقتا وجهدا. واذا كان الشتات مفهوما بالنسبة للمشاهد لأنه يعبر عن تجربة الشعب العراقي منذ نهاية السبعينات، في الهجرة إلى بقاع مختلفة بسبب الظلم والديكتاتورية والحروب الطويلة.. لكن هذه الهجرة تستمر حتى بعد سقوط النظام الدكتاتوري، بسبب دخول العراق في نفق الحرب الطائفية والإرهاب.
لكن ما هي المرايا، او بالاحرى من هي المرايا؟
انهم فنانو المهجر أو المنفيون طوعا منذ نهاية السبعينات. فنانونا التشكيليون اليساريون في أوروبا، الذين جمعتهم روما المدينة العظيمة، وعملت على صقل مواهبهم واطلاقهم نحو الابداع والشهرة، رغم أن بعضهم ترك روما لاحقا إلى مدن أوروبية أخرى في السويد وهولندا. هذه المرايا العراقية تشهد لتاريخ العراق الحديث ومآسيه، وكذلك تبرز القيم الجمالية والفنية التي يختزنها العراق. ان العنوان يقترح أن اللوحة تصبح مرآة تعكس وجه العراق في الغربة، من خلال هؤلاء الفنانين الذين تابعهم قاسم منذ بداية التسعينات في محاولة تسجيلية أولى، في فيلمه “حقول الذرة الغربية”. ثم عاد إليهم لاحقا في محاولة ناضجة، تستنطقهم فنيا وانسانيا، لنكتشف أن الخيبة لا تزال قائمة، حتى بعد سقوط الديكتاتورية وزوالها!
اخيرا، أعود بالذاكرة، عندما التقينا الفنان قاسم عبد، الذي كنا ننظر له نظرة احترام خاصة، منذ أن كنا مراهقين وأصدقاء لأخيه، وكنا نتوقع منه إنجازات فنية مهمة. قاسم عبد والفنانون المذكورون أعلاه سافروا إلى أوروبا، للتعلّم والاطّلأع ومواكبة العصر منذ منتصف السبعينات في القرن الماضي. وفوجئوا وهم هناك بأن بلدهم وقع لاحقا كليا في قبضة الدكتاتورية، التي طاردت القوى اليسارية والتقدمية وزجت بهم في السجون، مما أدى الى بقاء هؤلاء الفنانين منفيين في أوروبا، خوفا من اعتقالهم عند عودتهم للعراق.
وقد التقى قاسم بهؤلاء التشكيليين في بداية التسعينات، كما نرى في مشاهد عديدة من فيلمه. وبعد سقوط الديكتاتورية عام 2003، تهلّل الفنانون المنفيون واستبشروا، لكن سرعان ما انكشف السراب عن الغزو الأمريكي، عن عنف وفوضى وفساد وارهاب لا ينتهي. فازدادت الخيبة والحسرة، فاستقر هؤلاء الفنانون في منافيهم الآمنة البعيدة.