مجالات الكتابة عن السينما: سقف الحرية والحنين والجمهور
عدنان مدانات
هناك خطأ شائع يتمثل في اعتبار أن الكتابة عن السينما هي مجرد نقد للأفلام. إن المجال الأهم للكتابة عن السينما هي السينما نفسها، السينما كقضية إبداعية ذات مواصفات خاصة، السينما وما يرتبط بها من مواضيع وظواهر اجتماعية ونفسية ، ماهية الحدود والآفاق والإمكانيات المتاحة لها، وعلاقة السينما مع مجالات الحياة المختلفة، كلها قضايا مهمة يجب على الناقد أن يتنطع لها للمساهمة في نشر الوعي بالسينما وليس أن يكتفي الناقد بإبداء رأي حول فيلم معين.
من الضروري جعل الكتابة عن السينما مجالاً رئيسياً من مجالات التفكير الثقافي في المجتمع. فمن الغريب أنك تقرأ عشرات المقالات حول قضية شعرية متكررة مثل قضية مشروعية قصيدة النثر، وبالمقابل، نادرا ما تصادف أن يكتب ناقد أو باحث ما دراسة حول نفس القضية في السينما، أي حول مفهوم النثر في السينما، على الرغم من أن السينما ذات جمهور أوسع بكثير من جمهور الشعر، و أيضا، على الرغم من أن السينما يمكن أن تمد الباحث بمخزون نظري أشمل وأكثر حداثة من أنواع الإبداع الأخرى. ما يهم وما هو ضروري في مجال الكتابة عن السينما هو ضخ المعرفة في وعي القارئ في المجال الفني السينمائي بما يجعله قادرا على فهم الأفلام التي يراها بنفسه انطلاقاً من وعي نظري منهجي دون أن يحتاج إلى ناقد يفسر له مضمون الفيلم.
النقد والحنين لسينما الماضي
في كثير من الأحيان، يبادر النقاد أثناء تحليلهم النقدي لفيلم ما لعقد المقارنة بين الأفلام المعاصرة والأفلام القديمة، أو بالأحرى، بين سينما اليوم و سينما” أيام زمان. وغالبا ما تكون هذه المقارنة لصالح سينما أيام زمان وتتسم بالحنين لها والتحسر على ما فعلته التقنيات المعاصرة بها. الحنين إلى ماضي السينما يشبه إلى حد كبير الحنين إلى الطفولة، حيث يتذكر المرء بحب لحظات من وقائع ساذجة في طفولته.
فالسينما التي عرفها معظمنا في الطفولة كعالم مبهر، باتت لهذا السبب بالذات، جزءا من ذاكرة الطفولة نفسها وجزءا من التاريخ الشخصي للإنسان. وهذه خاصية تتميز بها السينما عن باقي الفنون والآداب الأخرى، فهي فن مرئي مسموع له قدرة عن الإيهام بالواقع. ومشاهدة فيلم سينمائي كانت ولا تزال نوعا من العيش الواقعي لفترة قصيرة من الزمن، لحدث ولعلاقات إنسانية. وهذا الأمر يعكس نفسه في حالات كثيرة على الكتابة عن السينما، حيث تبقى الكتابة أسيرة لرؤية الطفولة الساذجة.
مساهمة المخرجين في النقد
التاريخ الإبداعي العالمي يعرف الحاجة الملحة لأن يكون المبدع ناقداً، حيث أن خبرة الممارسة إذا دمجت مع الخبرة النظرية تقود إلى نتائج أفضل، وأكثر علاقة بصلب الموضوع. أننا نعرف في تاريخ الأدب شعراء كبار كان لهم مساهمات في مجال النقد ولم يؤثر هذا على إبداعهم. أسوق، على سبيل المثال، تجربة الشاعر الإنجليزي ” اليوت ” فهو صاحب نظريات مهمة حول الأدب منها نظرية ( المعادل الموضوعي ) التي غالبا ما يتحدث عنها النقاد، وأيضا هناك تجربة الشاعر أدونيس فيما يتصل بالجمع بين النظرية والممارسة. وفي تاريخ السينما فإن أفضل النظريات نتجت عن سينمائيين مثل المخرج الروسي أيزنشتاين الذي قدم في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أفلاماً خالدة، وله، في المقابل، خمس مجلدات في نظرية السينما. وللأسف فنادرا ما نعثر على سينمائيين عرب يكرسون اهتماما خاصا لهذا الجانب المهم من النشاط المعرفي المرتبط بالسينما.
النقد وسقف الحرية في العمل السينمائي
“ثالوث المحرمات” تعبير شائع عند الحديث عن العوائق التي تجابه حرية التعبير في مجالات الأدب والفن ويقصد به المواضيع التي تلاقي صعوبات مع الرقابة الرسمية في العالم العربي. ويمكن تقسيم هذه المواضيع إلى ثلاثة فروع رئيسية هي : الدين والجنس،والسياسة. ويتجسد هذا الثالوث في أشد حالاته عندما يتعلق الأمر بالسينما في العالم العربي، فهذه المحرمات ظلت تمثل إشكالية كبيرة مزدوجة الاتجاه، فالسينمائيون العرب بشكل عام كانوا باستمرار يطمحون للتعبير عن مواقفهم اتجاه هذه المواضيع، وهي مواضيع جذرية تخص المجتمعات العربية، في حين كانت هذه المواضيع هي خطوط حمراء بالنسبة لقوانين الرقابة على الأفلام في العالم العربي.
لكن المشكلة لا تقتصر على الرقابة الرسمية بل تشمل ما يمكن اعتباره الرقابة الاجتماعية ( الرأي العام ) فحتى لو تغاضت الرقابة الرسمية عن بعض الجوانب التي تخضع لقوانين المحرمات نجد أن الرقابة الاجتماعية وحتى رقابة الأفراد العاديين تهب للوقوف في وجه ما يرد من أفلام وخاصة في مجال الجنس والدين. ويبدو أن قضية ثالوث المحرمات تشكل بؤرة الصراع الذي يقوده السينمائيون العرب في مجال بحثهم عن حرية التعبير. بالمقابل، هناك من يؤكد بأن الإبداع قادر على تجاوز سقف الرقابة، وأن الأفلام الفجّة والمباشرة هي التي تقع عادة في قبضة الرقيب، بدليل أن هناك الكثير من الأفلام العربية الجريئة أنتجت في ظل مناخات سياسية قائمة، وقيض لها الظهور، بمعنى أنه يمكن من خلال الإبداع الذكي تجاوز مشكلة الرقابة بشكل عام من أجل الوصول إلى فكرة ما، وذلك من خلال التحايل على قول الحقيقة، أو بالأحرى، قولها بذكاء، دون التعرض لمقص الرقيب، مستفيدا من استخدام أنواع المجازات المختلفة، من التورية والاستعارة والكناية والترميز وغيرها، وذلك كما يحدث مع السينما الإيرانية المعاصرة التي تطرح مواضيع جريئة مهمة دون التعرض لخط مواجهة الرقيب.
لكن المشكلة ليست في تحايل الإبداع لأن التحايل في كثير من الأحيان لا يسمح بقول ما يريده المخرج بالصورة التي يريدها، وبالتالي فقد تأتي الفكرة ناقصة. إن المشكلة هي في إصرار السينمائيين والمبدعين العرب بشكل عام على حقهم في حرية التعبير، وهذا إصرار ينجم عن موقف مبدئي، بمعنى أن المخرج المبدع يحتاج لكي يتمتع بحقه في التعبير الحر وليس حقه في التحايل على الرقابة. إن إحدى المهام التي يجب أن يكرسٍ لها النقاد جهودهم ترتبط بالدفاع عن حرية التعبير في السينما.
تواصل النقد مع “جماهير” السينما
تعبير” جماهير السينما” هو التعبير الأكثر التباسا والذي يشيع استخدامه في كتابات النقاد. هناك آلاف الأصناف من المشاهدين، وهم يتشكلون من مجموعة أفراد يشاهدون الأفلام وهم مختلفون فيما يخص المستويات الثقافية والذوقية وينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة وهو بمجموعهم يشكلون ما يصطلح على اعتباره جماهير السينما. ولكن، في الواقع فلكل فئة من هذه الجماهير وعيها ومزاجها. و لهذا لا توجد قاعدة تحكم ذوق ومزاج المشاهد العربي ولا يوجد أساس يمكن للناقد أن يستند إليه لقياس مستوى وعي القراء لما يكتبة،
ولكن يمكن القول أن غالبية المشاهدين العرب كما بقية المشاهدين في العالم يبحثون قبل كل شيء عن التسلية والإثارة في الأفلام السينمائية، أكثر مما يبحثون عن الفكر والقيم والجماليات الفنية. فلا تزال السينما كمنجز فني موجهة للنخبة فقط. ولهذا فإن الإشكالية التي تعاني منها السينما العربية والتي نسميها “المعادلة الصعبة” تنطلق من الحاجة إلى صناعة أفلام تتضمن مستوى فنيا وفكريا جيدا من ناحية، وقدرة على التسلية وجذب المشاهدين من ناحية ثانية. ولا تقتصر هذه الإشكالية على صناعة الأفلام بل تشمل أيضا ممارسة النقد والتحليل للأفلام.