أمين صالح يكتب عن: شعرية السينما وسينما الشعر

لقطة من فيلم "برسونا" لانجمار برجمان لقطة من فيلم "برسونا" لانجمار برجمان
Print Friendly, PDF & Email

ما هو الشعر؟

تتساءل سوزان برنار في كتابها الهام “قصيدة النثر”:

“هل الشعر، أو الطاقة الشعرية، موجودة حصرياً في القصيدة فقط، القصيدة كلغة، كقواعد، كنمط، كعناصر، كطريقة كتابة أو طباعة؟ ألا يوجد الشعر في أشكال وأنماط أخرى كالنثر والتشكيل والموسيقى والنحت والفيلم والمسرح؟ أليس بإمكان النثر أن يكون مشحوناً بالشعر، حيث الكلمات مكتنزة بطاقة سرّية، وحيث التيار الشعري الغامض يسري على امتداد العبارات غير المنسجمة، ظاهرياً، وغير الموزونة؟”

يعتقد الكثيرون أن القصيدة وحدها تحتكر صفة الشعر، وأن الطاقة الشعرية موجودة حصرياً في القصيدة فقط، رغم أننا نجد المئات من القصائد التي تفتقر إلى الروح الشعرية والحساسية الشعرية. ألم يعلن نرفال ذات يوم “أن الشعر يهرب من القصيدة، ويستطيع أن يوجد من دونها”.

إن ما يسمى اليوم شعراً هو، في جوهره وحقيقته، ليس شعراً.. مجرد كتابات موزونة أو خاضعة لبنى جاهزة أو لأشكال مألوفة. إذ غالباً ما يتم الخلط بين القصيدة والشعر، ويتم إطلاق صفة الشعر على كل قصيدة مهما اتسمت بالضعف والفقر، وتجرّدت من الطاقة الشعرية.

الشعر، في جوهره، لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد، في النصوص النثرية، في الصورة السينمائية، في اللوحة التشكيلية، في المقطوعة الموسيقية، في النحت، في الطبيعة، في الحياة اليومية. ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره.

حدث سابقاً أن تم تطبيق مفهوم الشعر على أشكال فنية غير أدبية، ففي المجال الموسيقى، استخدم الموسيقار فرانز ليسْت مفهوم “القصيدة السيمفونية” لوصف عمل له.

إذن الشعر لا يكمن في أي شكل محدد سلفاً، ليس له مفهوم واحد أو لغة واحدة، ليس قالباً لأي شيء موجود. الشعر، في جوهره، يفلت من أي قياس ومعيار. يقول لوي أراغون: ” لا ينبغي البحث عن الشعر، إنه يوجد”.

ويقول أوكتافيو باث في كتابه “الشعر ونهايات القرن”: “بوسع المرء أن يجادل إلى ما لا نهاية حول ما هو الشعر، لكن ليس من الصعب التفاهم حول معنى كلمة قصيدة، فهي شيء مصنوع من كلمات بغرض احتواء مادة ما وإخفائها في الوقت ذاته، وهي مادة غير محسوسة وعصيّة على التحديد اسمها الشعر”.

إذا كانت القصيدة هوية شكلية، أي مجرّد شكل محدّد ينهض على عناصر الشعر، فإن تحديد جوهر الشعر، ماهيته وشكله، هو أمر صعب، إن لم يكن مستحيلاً. الشعر ليس له وجود ثابت ومستقل وقائم بذاته، ليس مجموعة من القوانين والقواعد والمقاييس والقيم والأشكال والأنظمة، وهو غير محدّد وغير مرتبط بشكل ما، إنه يوجد في كل مكان، أشبه بأفق مفتوح.

لقد اتسع مفهوم الشعر وأصبح كل شيء مادةً للشعر. فالشعر يتجلى في كل مظهر، في كل شكل، في التعبير كما في الرؤية، والروح الشعرية توجد في كل الأشكال الفنية. ليس هذا فحسب، بل أن الشعر “يهبط إلى الحياة اليومية” على حد تعبير الشاعر نرفال. 

الشعر، إذن، ليس مقصوراً على شكلٍ ونوعٍ خاص، بل هو مفهوم أرحب وأكثر شمولية من أن يكون مجرد صفة لشكل أدبي. الشعر رؤية شاملة للحياة والوجود، موقف من العالم والوضع البشري، تعبير عن التجربة الحياتية والروحية، طريقة خاصة في المعرفة وفي الاتصال بالواقع.

الشعر يوسّع فهم المرء ويمدّد إدراكه لما هو ممكن، ويزوّده بالقدرة على معارضة أشكال الواقع المكرّسة، وما تمارسه من هيمنة وإقصاء. الشعر – والفن عموماً – قادر أن يرفع الوعي إلى مستوى أعلى من الإدراك.

إن الشعر يمدّد تخومه وراء حدود الاتصال اللفظي ليشمل أشكالا وطرائق من التعبير الفني. ثمة علاقة عضوية بين الشعر والأشكال الفنية، بل ومختلف أوجه الحياة والفعاليات الإنسانية.  الروح الشعرية تبعث الحياة في أشكال الفن كلها.

لقطة من فيلم “نوستالجيا” لتاركوفسكي

السينما الشعرية

السينما تملك سلطة داخلية تتركّز داخل الصورة وتعبر إلى الجمهور في شكل مشاعر، محدثةً توتراً في استجابة مباشرة إلى المنطق السردي للمؤلف. وهو المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة.

من خلال الصلات الشعرية- كما يؤكد تاركوفسكي-  يتم “تصعيد الشعور وتعميقه، ويصير المتفرج فعالاً أكثر. إنه يصبح مشاركاً في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعم من قِبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف المتعذّر مقاومتها. تحت تصرّفه فقط ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركّبة المعروضة أمامه”.

في حديثه عن مفهوم “السينما الشعرية”، يشير تاركوفسكي إلى أن هذا التعبير أصبح مألوفاً وشائعاً، وهو يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة في رصدها للحياة على نحو خالص وصاف ودقيق.

السينما الشعرية تكمن بعيداً جداً عن النظريات أو التعريفات، ووراء نطاق المعاني أو التأويلات. لا قوانين تحكمها ولا أعراف أو تقاليد.

إن جذر الشعرية في السينما ينشأ من الاستجابة العاطفية المباشرة التي تستمدها السينما، والأفكار التجريدية التي بإمكان السينما ربطها، وابتكار مجازات فيها.

السينما الشعرية، كما يراها الباحث فيل ليروبولوس، هي نسل نخبوي (خاص بالنخبة) من فن الفيلم، يقتضي جمهوراً يقظاً، لكن يستطيع أيضاً أن يترك، على نحو رائع، شعوراً عميقاً داخل الجمهور.

عندما نأتي إلى مصطلح “السينما الشعرية” من أجل تعريفه وتحديده، نجده بدوره مصطلحاً مراوغاً، متملّصاً، يصعب الإمساك به، والذي يتشّعب إلى مناطق واسعة. 

مفاهيم أو مصطلحات، مثل “شعرية الفيلم” أو “السينما الشعرية” أو “الفيلم القصيدة”، استخدمت في مناسبات عديدة طوال تاريخ السينما من قِبل مخرجين ومنظرين وباحثين مختلفين. كل واحد منهم طبّق فهمه الخاص لما قد تكونه السينما الشعرية.

قبل محاولة تعريف مفهوم “شعرية الفيلم”، يواجه المرء مشكلة تحديد أو تعريف الشعر نفسه. ولقد أشرنا إلى أن كل محاولات تعريف الشعر أصبحت مستحيلة، ومن ثم غير مهمة.  

يرى البعض، في محاولتهم التعريف بالسينما الشعرية، ضرورة ألا يقوم الفيلم الشعري على البنى الهوليوودية، لكن مثل هذا المفهوم المتطرف لم يلق قبولاً لأنه غير مفيد، حيث أنه قد يشمل، ليس فقط كل ضروب صنع الفيلم التجريبي (أنواع من الأفلام التجريبية)، بل حتى أكثر التقاليد الأوروبية الفنية في صنع الأفلام، كما يوحي بأن أي فيلم غير سردي هو فيلم شعري.   

في الواقع، ليس هناك تعريف محدد لخصائص السينما الشعرية. ثمة طرائق مختلفة للاقتراب من الموضوع وفهمه، ولا يمكن الجزم بصحة مفهوم وخطأ آخر، أو رفض أي منظور محتمل. 

من ناحية أخرى، الشعرية هي الطريقة التي بها يقدّم صانع الفيلم قصته. الفيلم هنا يدمج الحوار، أو السرد الشعري المنطوق، مع الصور البصرية والصوت ليخلق تمثيلاً أقوى، وتأويلاً، للمعنى المراد توصيله.

الشعر اللغوي فعل انفرادي، متوحّد، بينما الشعر في الفيلم فعل جماعي، يشارك فيه المصور ومصمم المناظر والمونتير وآخرون. إنهم يساهمون في العنصر التقني لشعرية الصورة. بخلاف الشاعر، المخرج السينمائي يتعاون مع عدد من الفنيين والممثلين في تحقيق الفيلم. وعلى المخرج أن يتعامل بوعي وفهم مع ذوات متنوعة وحساسيات مختلفة ورؤى متعددة ينبغي أن تتوافق مع رؤية وأسلوب المخرج من أجل إبداع عمله بصورة قوية وسلسة. 

في سبيل تقدير السينما الشعرية (أو أي فيلم فني عموماً) ينبغي فهم فنيّة الفيلم وبراعته (ليس فقط ما يحققه من تسلية وترفيه)، والسرد البصري، وكيف يكون المخرج والمصور قادرين على التعبير عن رؤية الفيلم وخلق المعنى باستخدام الوسط.

لقطة من فيلم “المرآة” لتاركوفسكي

كيف يمكن للفيلم أن يكون شعرياً؟

إنه الفيلم الذي يتميّز بالأسلوب السردي اللاخطي في المونتاج، وتدفق تيار اللاوعي من الصور والكلمات المنطوقة. وبعض المخرجين يدمجون الكثير من الجمل، السرد البصري، والموسيقى في أفلامهم بينما يعالجون بعض القصص العميقة جداً، بحيث يتمكنون من رفع أعمالهم من “الفيلم” إلى “التجربة”. خلاصة هذا النوع من صنع الأفلام أنه ينتهك قوانين السرد الخطي، ويعبّر عن أفكار ومشاعر من خلال البصري والسمعي.. مستخدماً الحواس للاتصال وترجمة الثيمات. في هذه الحالة بإمكان الفيلم أن يكون وسطاً مؤثراً وفعالاً بقوة للتعبير عن الشعر.

السينما، كاكتشاف فني، انبثقت بوصفها صورة عالمية جديدة وحقيقية. لقد ظهرت ككشف، كرغبة متّقدة تقتحم قوانين العالم.                                                                                                 

يقول بازوليني (في مقابلة له مع جيمس بلو، خريف 1965):

“جوهرياً، التمييز أو الاختلاف ينبغي أن يكون بين سينما النثر وسينما الشعر. من جهة أخرى، سينما الشعر ليست بالضرورة شعرية. في أحوال كثيرة، يحدث أن يتبنى مخرج ما معتقدات وقواعد ومعايير سينما الشعر ومع ذلك يحقق فيلماً مدّعياً وسيئاً. ويأتي مخرج آخر ويتبنى معتقدات وقواعد ومعايير سينما النثر – أي أن يروي قصة – ومع ذلك يبدع شعراً”.

فيما يتعلق بالشعرية في السينما، يطرح الباحث السينمائي ديفيد بوردويل أسئلة أساسية (مجلة Alphaville، شتاء 2012) من بينها: كيف يستخدم صانعو الأفلام الدينامية أو الفعالية الجمالية للوسط السينمائي لتحقيق تأثيرات معينة على الجمهور؟

ما هي المبادئ التي وفقاً لها تنبني الأفلام والتي من خلالها هي تستنبط تأثيرات معينة من المتفرج؟

كيف يستخدم السينمائي الدينامية الجمالية من أجل توصيل معنى تجريدي إلى المتفرج؟

وفق أي مبادئ يتشكل المعنى التجريدي في الفيلم؟

وأسئلة أخرى عن البنية الشكلية للفيلم. عن الأنماط والغايات والعناصر والممارسات. عن أنشطة المخرج والمتفرج معاً.

بدايات السينما الشعرية

نشأ مفهوم “السينما الشعرية” لأول مرة في فرنسا، بين المجموعة الطليعية، خلال السنوات العشرين الأولى من بدايات السينما. كانت هناك اهتمامات جمالية، وتساؤلات حول خاصية الإبداع والمسؤولية الثقافية، إضافة إلى الرغبة في تحدّي تقاليد سائدة معينة.

العديد من المشاركين في الحركة الطليعية أرادوا تطهير الفيلم باعتباره فناً حقيقياً وشرعياً وليس مجرد وسيطٍ في الثقافة الجماهيرية. كانوا يرفضون المحاولات الناقصة للسينما لمحاكاة الأشكال الأدائية والأدبية مثل المسرح والرواية.

في عام 1911، قام الناقد الفرنسي ريكيوتو كانودو بتوضيح الفارق بين التقاليد المسرحية والشعرية في بدايات السينما، هذه التقاليد التي تُحدث نتائج مختلفة وتحمل إمكانيات مختلفة للفن الجديد. كتب يقول: “التجليات الجديدة للفن ينبغي أن تكون بدقة أكثر رسماً أو نحتاً في الزمن، كما في الموسيقى والشعر، والتي تحقّق نفسها بتحويل الأثير إلى إيقاع طوال مدّة التنفيذ”.

لقطة من فيلم “الملائكة فوق برلين” لفيم فيندرز

كان هناك تفضيل للإيقاع على القصة والأداء، والذي يشكّل جوهر السينما. في العام 1919 رأى السينمائي لوي ديلوك في السينما إمكانية لأسلبة الواقع، وجعل المألوف غريباً. وعوضاً عن الواقع العادي، المبتذل، المعروض في الصورة الفوتوغرافية، تقترب اللغة السينمائية من الشعر لتكشف الناس والطبيعة في شكل جديد تماماً.

الشاعر السوريالي لوي أراغون كتب في 1918 يقول إن السينما تنبثق من الجمالية الشعرية أكثر من الجمالية المسرحية.        

في العام 1923، وصف الناقد ريكيوتو كانودو السينما بأنها “فن سابع” لأنها مركّبة من ثلاثة فنون إيقاعية (الموسيقى، الرقص، الشعر) وثلاثة فنون تشكيلية (الرسم، النحت، العمارة)، مستبعداً الأدب والمسرح، كما لو أراد أن ينقذ السينما من سيطرة السرد.

بأخذ المزيج من الخاصيات الإيقاعية والتشكيلية كتحدٍ، قام عدد من الفنانين التشكيليين – فرناند ليجيه، مان راي، مارسيل دوشامب، هانز ريختر، فايكنج إيجلنغ، وآخرين – بالانتقال إلى السينما على أمل إيجاد حلول حركية لمعضلات تصويرية لا يستطيع الكانفاس الساكن أن يحل لغزه. آخرون أغوتهم، بشكل خاص، المظاهر الإيقاعية للسينما. عدد من هؤلاء الفنانين شكّلوا الحركة الطليعية.

في إحدى مقالاته، قال الناقد الفرنسي جان إبشتاين إن الصورة السينمائية يمكن أن توفر لنا “الوعي الحاد” الذي هو امتياز الشعر. علاوة على هذا، هو استنتج أن السينما “وسط الشعر الأكثر قوة وفعالية”.

أفكار مماثلة طرحها الناقد المجري بيلا بالاش، في مقالة كتبها في 1924 فيها نسب الجاذبية الغنائية إلى اللقطة القريبة، وقال أن حركة التعابير الوجهية هي “شكل من الغنائية التي هي، على نحو لا يُضاهى، أغنى وأكثر امتلاءً بالفوارق الدقيقة من الأعمال الأدبية أياً كان نوعها”. وأضاف: “حين تُظهر اللقطة القريبة كل درجة من الإحساس بتفاصيل دقيقة، فإنها تعبّر عن حساسية المخرج. اللقطة القريبة هي شعر السينما”. 

Visited 327 times, 1 visit(s) today