“مالفسينت سيدة الشرّ”.. البطل هو الفكرة
كثيرًا ما قرأنا القصص القديمة الأسطوريَّة، وكثيرًا ما مثَّلتْ لنا متعة وبهجة، وصنعت ذكريات؛ بعضها مبهج وبعضها مخيف. كذلك كان كثير من تلك القصص ذا أبعاد تعليميَّة كم زرعت فينا بعض القيم، وأكَّدتْ أخرى. وفسرت لنا تفسيرات أسطوريَّةً ميثولوجيَّةً وجود أشياء في حياتنا؛ تفسيراتٍ كانت تخاطب خيالنا وعواطفنا لا عقولنا الواعية. وقد حرص تاريخ السينما العالميَّة على النهل من هذا المَعِين الفيَّاض بالمعاني المُسمَّى بـ”القصص الأسطوريَّة”. ليؤكِّد على المعاني القديمة نفسها، أو ليبُثَّ فيها معاني جديدة ما كانت حائمة في أفُق القصة كما رُويت قديمًا، أو حتى لتمثَّل القصة كما وصلتنا دون إضافة إلا إضافة نقلها تمثيلاً وتصويرًا فنيًّا.
ولكنَّ فيلم ” Maleficent Mistress Of Evil ” أو “مالفسينت سيَّدة الشرّ” اختار أن يُقدِّم لنا قصة تُروى لكنْ إلى الكبار فقط. فيها معاني فلسفيَّة عميقة اختار صنَّاع الفيلم أن تكون هي البطل. أن تكون فكرتهم هي البطل الحقيقيّ للفيلم. وليس النجمة الأشدّ التماعًا “أنجيلينا جولي”، وليس بقيَّة الأبطال، وليس الإبداع الصِّوَرِيّ في المنتج الفنيّ. لقد سيطرت الفكرة على كل العمل، وتربَّعتْ بطلاً منفردًا للفيلم.
الفيلم من إنتاج أكتوبر 2019 للشركة الضخمة “ديزني”. ومن إخراج يواكيم رونينج، وتأليف مشترك من/ ليندا ولفيرتون، نواه هاربستر، ميكا بلو. ومن بطولة “إنجيلينا جولي”، والنجمة الكبيرة “ميشيل فايفر”، والموهوبة الصغيرة “إيل فانينج”، وغيرهم.
والفيلم من تصنيف خيال، مغامرة، كوميديا. وقد حقَّق نجاحًا كبيرًا من الإيرادات بأضعاف ما أنفق عليه؛ مُحققًا ما يقرب من نصف مليار دولار أمريكيّ. وهو الجزء الثاني من الفيلم الأول “مالفسينت” عام 2014م. يحكي الفيلم فصلاً مستحدثًا من القصة الأسطوريَّة القديمة “الأميرة النائمة” (التي لعنتها من قبلُ مالفسينت لتنام إلى الأبد ولا ينقذها إلا قبلة حُب حقيقيَّة).
في الجزء الجديد نرى قصة جديدة كُليًّا؛ فبينما تقف القصة القديمة الأسطوريَّة عند تلقي الأميرة قبلة الحب واستيقاظها، نرى أنَّ الأميرة “أرورا” -تبعًا لتغيُّر القصة في الجزء الأول وجنوح مالفسينت إلى الخير والعطف على الأميرة، وكونها هي التي قبَّلتْها قبلة الحب الحقيقيّ- أكملت حياتها وصارت ملكة الغابة السحريَّة. ونرى كذلك الغابة بكل ما فيها من كائنات سحريَّة سعيدة تحت حُكم الأميرة السعيدة. وفي يوم يتقدَّم الأمير “فيليب” للزواج من الأميرة؛ لتكون أميرة مملكة “أولستيد”. وعدم رضا ملكة “أولستيد” -أمّ الأمير- على هذا الزواج الذي يأتي من عالم الغابة السحريَّة. ونكتشف أيضًا عالمًا آخر من الجانّ -الذي تنتسب إليه “مالفسينت” نفسها- وهو جان الظلام. وفي خضمّ العراك بين كل الخطوط الفائتة، وفي لمحات من العواطف والتأرجحات النفسيَّة، ومع خوض التواءات في قصتنا ستعيش تجربة مشاهدة لطيفة.
أما عن الأبرز في الفيلم أو عن البطل الحقيقيّ للفيلم هو الفكرة الفلسفيَّة عن “الشرّ”. فقد كان الفيلم دراما عن تفسير نشأة الشرّ في النفس البشريَّة. ولا شكّ أن موضوع “الشرّ” من أشد الموضوعات جدليَّةً في تاريخ الفلسفات والأديان، وإحدى معضلات الفلسفة العامَّة. فما بين مذاهب ترى الشرّ مُكوِّنًا من مكونات الحياة، وما بين مذاهب جعلت الشرّ إلهًا مساويًا للخير (مثل الزرادشتيَّة) نطالع في مؤلفات الفلسفة الكثير من التفسيرات. لكنَّ الفيلم اهتمّ اهتمامًا بارزًا للغاية بمناقشة فكرتين:
فكرة نشوء الشرّ في النفوس، وليس نشأة الشرّ أو خلقه الأوَّل. أيْ حاول الفيلم تفسير اتجاه النفس الإنسانيَّة للشرّ وللفعل الشرير. فعل ذلك من خلال تتبُّع اتجاه كل شخصيَّة شريرة إلى شرِّها؛ كيف حدث؟!
هنا يبرز لنا اسم الفيلم “سيدة الشرّ” ونرى من خلاله هل “مالفسينت” سيدة للشرّ حقًّا؟! وهل للشرّ سيدة أو سيد؟! هناك نجد “البشر” الذين يتأهبون دومًا لفعل الشرّ تجاه “الغابة” ومخلوقاتها العجيبة؛ لأنَّهم يرون فيهم غرابةً عنهم، واختلافًا يدفعهم إلى تبنِّي حدوث الشرّ من تلك الغابة ومخلوقاتها. لذا اختاروا موقفًا ابتدائيًّا هو “العداء” واستباق الغابة بالشرّ. ونرى على الصعيد الآخر “الغابة” ومخلوقاتها الذين يرون في البشر عدوًّا فطريًّا من اعتداءات سابقة من البشر عليهم، مما جعلهم متوجِّسين خِيفةً من هؤلاء البشر ومن كل ما يأتي منهم. ونجد “جانّ الظلام” الذين تأذوا من حرب البشر القديمة عليهم، وما ألحقوه بهم من الإيذاء. مما جعلهم في حال من الكراهية الفطريَّة في أجيالهم الجديدة من هذا الشرّ الذي يسمَّى البشر؛ خاصةً مع أجيال تلاحق أجيالاً تلقن هذا التعليم وتنبه من أخطار البشر.
وعلى جانب الأفراد نجد “مالفسينت” التي تتأذّى من البشر وأفعالهم -منذ الجزء الأول- وكيف تتأرجح بين الخير والشرّ نتيجةً لأفعال بعض أفراد البشر قديمًا وحديثًا -في جزئنا هذا-. ونجد “الملكة” التي بدتْ طوال الفيلم رمزًا للشرّ هي الأخرى بدأ الشر يتسلل إلى قلبها جرَّاء ظلم قديم وقع عليها. ونجد “الأميرة النائمة” نفسها جنحت إلى ما يشبه الشر عندما خُدعتْ -دون كشف للأحداث-. ونرى في تحول ضخم لمسار القصة مفاجأة تُرينا كيف بدأ الأمر كلّه، ومَن صنع ولماذا أسطورة “الأميرة النائمة” ولعنتها.
كل ما سبق يؤدي بنا إلى نتيجة هامَّة يريد الفيلم أن يقودنا إليها؛ هي أنّ “الشرّ” نتيجة. الشر في الفيلم نتاج أفعال أخرى، وليس مُركَّبًا في النفس البشريَّة. فما فعلتْ إحدى شخصياتنا فعلاً شريرًا إلا اكتشفنا أن الشخصية قد فعلت هذا مدفوعةً بفعل آخر شرير وقع عليها قبله. أيْ أنّ الشرّ “ردّ فعل”، وليس “فعلاً” ابتداءً. وأن إيقاف هذا الفعل الشرير بيد الشخص متى اختار ذلك (عندما اختارت الشخصيات منع الاقتتال). كما يدلُّنا على أنّ من أسباب إيجاد الشرّ وممارسته على الآخرين عدم المعرفة بالآخر أو بالشيء (كما يُقال في الحكمة: المرءُ عدو ما يجهل)، وظنّ السوء بالآخر، وقبول ما أتاك كما أتاك دون تأكُّد منه.
أما الفكرة الأخرى هي: هل يجوز للإنسان فعل الشرّ ليحقق خيرًا من وجهة نظره. وهنا نطالع الفكرة مع شخصية “الملكة”. ففي أكثر من قول صريح ومباشر طرحتْ هذه الفكرة. من ضمن أقوالها للأميرة النائمة في تبرير الشر للآخرين: “حُكم البشر أشدّ تعقيدًا من الركض حافية القدمين، واضعةً الزهور في شعرك”. طارحةً فكرة عميقة جدًّا عمَّا هو شرّ، وما يمكن تكييفه على أنَّه شرّ؛ أيْ ما يظهر في صورة الشرّ.
وقد استطاع الفيلم إبراز الأفكار بقوة من خلال حوارات وتعقيدات والتواءات. في فيلم قد لا يميِّزه الخلق الفنيّ في عالم السحر في الغابة؛ فقد كانت الكثير من تصورات المخلوقات السحريَّة منقولةً عن أفلام قديمة، أو عن الجزء الأول. وقد لا يمتاز بالإبهار العالي إذا ما قُورن بأفلام أخرى سلكت عالم الخيال، وانتهجتْ المؤثرات البصريَّة مادةً أساسيَّة تفرضها عليها طبيعة العالم الخياليّ. ولكن كان هناك مزيد من الإضحاك، وتدعيم لوسائله. في فيلم مميز في إضافته لعالم الأسطورة، وفي طرحه للمعاني العميقة.