ماذا يوجد داخل “الصندوق الأسود”؟

Print Friendly, PDF & Email

ساعات تفصل الليل المُخيِّم على إحدى المناطق الراقية المُنعزلة عن صباح ستتكشَّف فيه مصائر الأبطال.. عن قصَّة تدور في تلك الساعات دار فيلم “الصندوق الأسود” الذي أخرجه محمود كامل، وألَّفه هيثم الدهان وأحمد الدهان. مُقدمين تجربة بها إيجابيَّات كثيرة وبها أيضًا الكثير من الغفلات التي كانت ستزيد الفيلم إحكامًا وترفع من مستواه.

“ياسمين” (منى زكي) زوجة مُحامٍ غنيّ (شريف سلامة)، في شهور الحمل الأخيرة. هذا الحمل الذي من الواضح أنَّها قد عانت من إتمامه أكثر من مرة فيما قبل. نعرف ياسمين في يوم عيد ميلادها الذي لمْ يبق فيه أحد للاحتفال به إلا صديقتها “سارة” (أسماء جلال)، وزوجها الرقيق الذي يخفي لها هديَّة المناسبة في البيت. تحاول ياسمين أن تشغل وقتها بالذهاب إلى أبيها كما المُعتاد كل يوم خميس لكن تكتشف أنَّ أباها منشغل لتعود على غير عادتها إلى البيت الضخم الذي تسكنه.

وفي أثناء بعض عملها الاعتياديّ استعدادًا للنوم يستعدُّ آخران أيضًا للهجوم على البيت الذي يعتقدان أنَّها خالٍ -حيث رأى أحدهما ياسمين وهي تغادر البيت-. وبعد دخولهما نكتشف أنَّ “هادي” (مصطفى خاطر) و”سيد” (محمد فرَّاج) قد أتيا بحثًا عن أوراق قضيَّة فساد تشغل الرأي العامّ يتولَّى المحامي صاحب البيت الدفاع عن أحد المتهمين فيها. وبعد وقت قصير يكتشفان أنَّ ياسمين ما زالت في البيت فيشتبك الطرفان في نزاع يسرد الفيلم أحداثه حتى النهاية.

فيلم “الصندوق الأسود” فيلم جريمة وإثارة، لا علاقة له بأيّ شيء آخر فالتجربة تقدِّم قصَّة ليس إلا. وهذه القصَّة تُقاس بمنطقيَّة دوافعها وأحداثها، وبدرجة استدعائها لأحداثها -أيْ تأدية كلّ جزء للذي يليه بمنطقيَّة- ممَّا يعطيها اللُّحمَة والتناغم، وفي الوقت نفسه تعطي للمُشاهد الدوافع النفسيَّة لإكمال تجربة المُشاهدة. فهل امتاز فيلمنا بما يجعل المُشاهد يكمل المُشاهدة إلى النهاية؟

الفيلم ذو نطاق زمانيّ ضيِّق؛ حيث يدور في ساعات تقلّ عن اليوم الواحد. وذو نطاق مكانيّ مُوحَّد؛ حيث كل الأحداث تدور في بيت ياسمين إلا مشاهد معدودة تدور في مشفى أو عند طبيب ياسمين أو في شوارع خارج البيت. وهذان عاملان يساعدان -إذا تمَّ استغلالهما جيدًا- على تماسك العمل ووحدته. ومن عوامل وحدته أيضًا قلَّة الشخصيَّات حيث يكاد الفيلم ينحصر في شخصيَّات ياسمين وسيد وهادي. وهذا أيضًا عامل يؤدي إلى القوة في حالة إدارته الجيدة.

وأعتقد أنَّ عوامل الوحدة الثلاثة السابقة هي التي ستؤثر على رؤية الجمهور وتقبُّلهم الفيلم. خاصَّةً إذا أضفنا إليه فكرة السرقة واحتباس الشخصيَّات في مكان واحد مرغمين حتى صباح اليوم التالي. كلُّ هذه هي عوامل قوَّة الفيلم. وهنا يجب أن نغضّ النظر عن التشابُه بين هذا الفيلم وفيلم آخر مثل “غرفة الفزع” (Panic Room) 2002 -لاشتراكهما في فكرة الغرفة المُحصَّنة، وفي اختلاف السارقين في موقفهما من الضحيَّة-. فالأمر يدخل في نطاق الاستفادة الاعتياديَّة من الأعمال السابقة.

مخرج الفيلم محمود كامل

قدَّم الفيلم شخصيَّات البطولة عن طريقَيْن؛ شخصيَّة ياسمين -والتي تسيطر على الفيلم بشكل كامل- أفرد لها المؤلف فصلاً كاملاً وحدها للتقديم. حيث رأينا هذه المرأة الغنيَّة، المُحبَّة لكلبها، التي تتمنى أنْ تنال مولودًا بعد إخفاقات، والتي تمتاز بالود والمحبة. وياسمين تحب زوجها بشدة وتعتقد أنَّها مُبرَّأ من كل عيب في صورة مثاليَّة. هذا كلُّه قد ساعد في تأسيس الشخصيَّة، وهناك ملمح غريب ومُلتبس فعندما كانت تغادر ياسمين بعد أوَّل مشهد توجَّستْ أمام المصعد ودخلته بترقُّب وخوف شديدَيْن، وعندما بدأ المصعد في إغلاق بابَيْه صرخت في الممرضة لتوقفه وهبطت على السلَّم.

وهذا الملمح قد أوحى للمشاهدين جميعًا أنَّه يمهِّد لشيء سيأتي في المطاردة فيما بعد، لكنَّ شيئًا لم يكنْ. مِمَّا يحيلنا إلى أنَّ المؤلف قد أدرج هذا الملمح ليُشير على أنَّها سيِّدة ضعيفة أو رقيقة لا تحتمل الضغط وهذا أيضًا لا ينطبق على مدى ما أظهرته الشخصيَّة من رباطة جأش ومقاومة حتى الرمق الأخير وإدارة للمشهد رغم أنَّها كانت الضحيَّة. مِمَّا يؤول بنا إلى أنَّه كان لزيادة المحتوى أو أنَّه خطأ في بناء الشخصيَّة وتصوُّرها. كما أورد المؤلف مشهدًا آخر امتاز بالسذاجة ليُعرِّفنا بأنَّ هناك قضيَّة تشغل الرأي العام في مقهَى بداعٍ واهٍ، وكان من السهولة بمكان تفادي هذه السذاجة والاستسهال.

ثمَّ قدَّم لنا الفيلم الشخصيَّتَيْن الأخريَيْن -سيد وهادي- في منطقة متأخِّرة عن البطلة تبدأ بفصل الاقتحام. وفي حوار ساذج أشدّ السذاجة عرفنا أنَّهما صديقان، وأنَّهما قد أتيا إلى هنا لسرقة أوراق قضيَّة الألبان وغيرهما من معلومات في سذاجة غريبة كان من المُمكن تفاديها بسهولة. وهنا يجب التنبيه على تقنية إيراد المعلومة؛ حيث يوجد المؤلف الماهر المعلومة التي يحتاج المشاهد معرفتها والتي يريد إيصالها إلى المُشاهدين في الوقت المناسب بمُبرِّرات مقنعة حيث يشعر المُشاهد أنَّها لِبَنة في موضعها من البناء، ولا يتسرَّب إليه هذا الشعور بالبلاهة وضعف البناء الذي يكتنفنا حين ُنواجَه بمثل هذه الاستدعاءات غير المُبرَّرة.

ثمَّ نوغل في الخطأ في بناء الشخصيَّات بالأفعال بعد الأقوال حين نرى اللصّ “هادي” يبدأ بحثه عن “الأوراق الهامة الخطيرة التي يبحث عنها الجميع” في أدراج دولاب ملاصق لباب البيت! ثمَّ في أدراج الأثاث العاديَّة وبالقطع من المعروف أنَّ هذا هو المكان الوحيد الذي نجد فيه المستندات الخطيرة. هذا في الأساس ليس خطأً؛ حيث من الممكن أنْ نتصوَّر أنَّ هادي شخص سارق قد يفوته التقدير السليم. لكنَّنا نُفاجأ فيما بعد أنَّ هادي مُحامٍ يعمل عند صاحب البيت في مكتبه! وليس سارقًا وليس شخصًا يمتاز بالبلاهة اللازم لهذا الفعل. فهل لا يبحث المحامي عن الأوراق الخطيرة في أدراج الأثاث؟ وهل لا يفكِّر المحامي ابتداءً بالبحث عن غرفة المكتب في البيت؟

وفي شخصيَّة سيد نرى شيئَيْن غريبين؛ لأنَّه شخصيَّة مغايرة لهادي، فهو لصّ في الأصل. ومع ذلك لا يُواجهنا بأيَّة معلومة عن الداعي الذي يوجده في هذا المكان إلا أنَّه يصنع جميلاً لصديقه القديم الذي استدعاه. وهذا وحده غريب كلَّ الغرابة في ظلّ تعرُّضه -فيما بعد- لمشاقّ لا تحتمل إلا لمغانم ضخمة. والأشدّ عجبًا أنَّ اللصّ والمُغتصب الذي قُدِّم إلينا قد دخل البيت الفخم الضخم ولمْ يفكِّر في البحث أصلاً عن أيَّة مغانم أو أشياء للسرقة. بل عندما تُرِك وحده قعد ليُشاهد التلفاز! .. كما بالقطع نلاحظ أنَّهما قد دخلا دون قفَّاز على الأيدي رغم أنَّ الأوَّل محامٍ يجب أنْ يحتاط، والثاني لصّ يجب أنْ ينتبه لهذا بالقطع.

هذا وغيره من عوامل الضعف في بناء الشخصيَّات، وباعتباره جزءًا من بناء القصَّة فهو ضعف فيها بالقطع. غير أمور أخرى مثل قضيَّة اكتشافها لماضي زوجها من جهاز حاسوبه غير المُؤمَّن تمامًا، وكأنَّها معلومات متاحة للعرض. ومشهد المياه التي تتسرَّب داخل الغرفة المصفَّحة دون مبرِّر، وغيرها. هل يعني هذا أنَّه فيلم سيِّء أو بالغ الضعف؟ .. لا ليس فيلمًا سيِّئًا، بل فيلم به ضعف -والأسوأ أنَّ غالب مظاهر ضعفه كان من الممكن تلافيها بسهولة لو ركَّز الصنَّاع على العمل. وهذه العيوب تعدُّ عيوبًا لأنَّ أفلام القصص المُشابهة يجب أنْ تمتاز بعنصر الإحكام في البناء لتُؤثِّر في المُتلقِّي.

أمَّا عن الأمور الجيِّدة فأوَّلها هو تمثيل الشخصيَّات الرئيسيَّة. وكانت منى زكي في حالة تركيز كانت واضحة من دراستها لمتطلبات كلّ مرحلة من الأحداث، وإتقانها لكثير من مفردات دورها. وكذلك كانت الهيئة العامة لتمثيل محمد فرَّاج في دور المجرم وإيحائه بكامل ملامح الشخصيَّة من تهورها وغبائها وسهولة استدراجها. لولا غرابة تصرُّفه الاعتياديّ رغم تلقيه طعنة خطيرة في ظهره لمْ تؤثر عليه إلا مشهدًا أو اثنين وبعدها تعافى من دون سبب وتصرَّف بكل قوَّة وعنفوان. وهذا عيب ضخم في التنفيذ يتحمَّله المخرج في المقام الأوَّل والممثل بصناعته للشخصيَّة -تنفيذًا وليس تأسيسًا-. وكذلك كان الأمر جيدًا مع مصطفى خاطر.

ولعلَّ قلَّة استفادة المخرج من محلّ التصوير الذي اختاره -فيلا ضخمة ذات مساحة واسعة بجوارها من الأشجار وطريق طويل لخارج الفيلا- يثير شيئًا من التساؤل حول جدوى اختياره له. فعندما صوَّره خارجيًّا بدت أماكن كثيرة للغاية كان من الممكن استغلالها بدل الاقتصار على جزء صغير من كامل المساحة -داخليًّا وخارجيًّا-. وكذلك اختيار لحجم لقطات قريبة مثير للتساؤل في أوَّل المشاهد بين الطبيب وياسمين. غير أمور أخرى منها مونتاج لقطات التحرُّك على السلَّم التي كان بها الكثير من الاضطراب والتخلُّص من اللقطة على أيَّة شاكلة.

وفي الفيلم لقطتان مثيرتان للإعجاب تصوِّران المنطقة الراقية المُظلمة وباقي المدينة المكتظ المزدحم المنير. وفي نهاية الفيلم نرى ملمحًا أخلاقيًّا في شخصيَّة هادي الذي خرج دون أيَّة عاقبة مع أنَّه مجرم مُدان فعل الكثير من الأخطاء. هذه كانت أهمّ ملامح تجربة “الصندوق الأسود” الفيلم الذي يدخل تحت تصنيف مقبول رغم أخطاء بسيطة جدًّا كانت ستنقله لخانة الجيد والجيد جدًّا.

Visited 57 times, 1 visit(s) today