الحب والانتحار على طريقة الحوت الأزرق

Print Friendly, PDF & Email

ضمت المسابقة الدولية في الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولية فيلمين من أصحاب العناوين الطويلة الأول المجري “الاستعدادات لنكون معا لأجل غير مسمى” والثاني المكسيكي “50 أو حوتان يجتمعان على الشاطئ”.

الفارق أن الفيلم الأول لم يكن عنوانه مناسبا تماما أو متماشيا مع الأحداث وكانت هناك فرصة لصناعه لإيجاد عنوان أفضل منه خاصة أن هذا الفيلم يعد الأفضل فنيا على مستوى أفلام المسابقة وكان يستحق جائزة الهرم الذهبي بدلا من الفيلم الإنجليزي المتوسط “التيه”، عكس الفيلم المكسيكي الذي جاء عنوانه موفقا إلى حد كبير وأكثر توافقا مع الأحداث التي اقتبست من قصة حقيقية للمخرج خورخي جوتشي الذي هو أيضا كاتب السيناريو والمنتج، وحصل الفيلم على جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو خلال الدورة في المهرجان.

تعتمد أحداث الفيلم على لعبة يطلق عليها “الحوت الأزرق” ظهرت عام 2016 في روسيا على مواقع التواصل الاجتماعي وأخذت في الانتشار بين أوساط المراهقين بشكل كبير على مستوى كل دول العالم، واللعبة في مضمونها تشتمل على مجموعة من التحديات يتم تحديدها للشخص الذي يشارك في اللعبة ينفذها يوميا على مدار 50 يوما وتتضمن طلبات غريبة الشكل أغلبها يميل إلى العنف مثل نزع الحواجب، تجريح الجسم، الصعود إلى مبنى عال والمشي على حافته و اطلاق النار على شخص معين، والمتحدي يقوم بتصوير مهامه المكلف بها عن طريق الفيديو وارسالها إلى الإدارة العليا.

بعد الانتهاء يُطلب من اللاعب الانتحار، وفي حالة عدم تنفيذ تحدي الانتحار تقوم الإدارة العليا بإرسال قوات روسية للقضاء على عائلته بالكامل.

واختيار اسم اللعبة “الحوت الأزرق” يأتي بسبب انتشار ظاهرة انتحار الحيتان على الشاطئ، ومن هنا قام المخرج ببناء فكرة فيلمه وهي الربط بين أربعة أمور الحب، الانتحار، الشاطئ والحيتان عن طريق شخصيتين رئيستين من المراهقين هما فيليكس وإليسا.

ارتكز مخرج الفيلم في مستوى السرد على شخصيتين فقط مع استبعاد متعمد لبقية الشخصيات وهم الآباء الذين ظهروا عن طريق الأصوات أو من خلال الكاميرا العكسية، لكن دون ظهور وجوهم، فطوال الأحداث لم نعرف شكل والدة فيليكس حتى وهي تتحدث معه، والمشهد الوحيد الذي ظهر تواجد والده كانت الكاميرا مركزة على فيلكس رغم أن فيليكس كان صامتا في المشهد، أيضا لم تظهر والدة إليسا ولا حتى زوجها الذي لم تظهر هيئته الكاملة ووجهه سوى في مشهد واحد أثناء قتله.

زاد المخرج من خصوصية بطليه من خلال الاعتماد في عدد من مشاهد الفيلم على تقسيم الشاشة إلى نصفين بشكل طولي، في نصف الشاشة نشاهد حياة فيلكس وفي النصف الآخر ما تقوم به إليسا، وسار الجانبان معا في اسلوب جميل وشيق لم يضفِ خصوصية فقط على تلك العلاقة بل أظهر أيضا أن المعاناة والأزمة واحدة، كلاهما يشعر بالوحدة والمعاناة الأسرية والسلطة الأبوية النسبية.

فيليكس هجره والده ولم يعد يكترث بأمره فلا يراه سوى مرة واحدة في الاسبوع مما جعل الاهتمام والتركيز ينتقل إلى الوالدة التي أصبحت أكثر تسلطا وميل لاستعطاف ابنها والضغط المستمرعليه، والعكس عند إليسا التي تنساق والدتها لسيطرة صديقها والذي بدوره يفرض وصاياه على الإبنة، تلك الوحدة والمعاناة جعلت اثنين من المراهقين يجدا البديل والحل في لعبة خطيرة تؤدي في النهاية إلى الانتحار الذي كان السبيل الأفضل للثنائي أو الاختيار الآخر التخلص من عائلتهما.

استخدم المخرج التصاعد التدريجي الشيق للأحداث منذ المشهد الأول الذي قام فيه فيليكس باحراق احدى السيارات في الشارع ثم قيامه بتصوير الفيديو حتى يرسله ويؤكد على تنفيذه للتحدي، ثم الانتقال شديد العذوبة في طريقة تعارف فيليكس وإليسا، ونمو قصة الحب بينهما التي جمعت بين الشاعرية والقسوة في إيذاء الجسد، وهي التناقضات التي تحملها شخصيات المراهقين في هذه المرحلة العمرية فكلاهما مزيج بين الحب والبراءة ومن جانب آخر الجنون والاندفاع والانسياق وراء التقدم التكنولوجي الرهيب التي في مرحلة تالية يسيطر عليهم تماما كبديل مرضي في ظل المعاناة الأسرية الذي يزيد الفجوة تماما.

اهتم جوتشي بعرض فكرة التمرد ليقتصر على المراهقين ثم كيف يتحول التمرد بمرور الوقت إلى غضب واقدام على تصرفات تحمل قدرا كبيرا من الحماقة، ولم يكترث بمشاكل الآباء أو عرض الأسباب التي جعلتهم في حالة تسلط، اهمال للأبناء، التركيز خلال طوال الأحداث كان حول شخصيتي فيليكس وإليسا كأنهما يقدما صرخة للخلاص من الوحدة.

برع المخرج في استخدام الموسيقى كعامل أساسي في المشاهد خاصة التي كانت الشاشة فيها منقسمة إلى نصفين الشاشة بين فيليكس وإليسا وكان مقصودا أن يكون صوت الموسيقى عاليا لأنه بالعودة إلى حياة الحيتان نجد أن طريقة تعارفهم أو تلاقيهم تتم عن طريق الأصوات اللحنية التي غالبا تكون عالية وصاخبة، ومن هنا جاء اختيار عنوان الفيلم، 50 ترمز إلى تحديات اللعبة ويرمز لها الفيلم إلى الوصول إلى قمة التمرد والغضب والرفض من جانب المراهقين، أما كلمة اثنين بها تخصيص لشخصيتين دون غيرهما.

لم يكن اختيار اسم الفيلم من لعبة “الحوت الأزرق” فقط بل الفكرة تمتد إلى طريقة حياة الحيتان بداية من التواصل والتعارف مرورا بالبحث عن مساحات واسعة للحياة فيها وصولا إلى النهاية والانتحار، وهو ما اتفق عليه البطلان، أي أن تكون المقابلة على الشاطئ الواسع بمفردهما، لكن يبقى الأمر التساءل عن السبب الذي جعل المخرج يفصح مبكرا عن هوية إليسا وهي التي تقوم بإرسال التحديات والمهام إلى فيليكس فقد كان من الأفضل أن تكون مفاجأة في النهاية الفيلم لكن يبدو أن كوتشي كانت لديه رغبة في التأكيد على وصول قصة الحب إلى ذروتها لدرجة أن فيليكس لم يهتم عندما علم بأن إليسا هي من تكلفه بالمهام.

طرح المخرج خورخي جوتشي- الذي يقدم فيلمه الأول على مستوى الكتابة والإخراج- فكرته بشكل شديد القسوة والعنف خصوصا خلال مشهد الانتحار الذي قام فيه البطلان بجرح أيديهما بأدوات حادة، أو مشهد قتل صديق والدة إليسا، والمشاهد الخاصة بتنفيذ تحديات لعبة الحوت الأزرق التي قام بتنفيذها الثنائي فيليكس وإليسا.

ورغم القسوة في الطرح إلا أن الفيلم يظل تجربة جميلة ومميزة تحمل مزيجا شديد الخصوصية.

Visited 46 times, 1 visit(s) today