مآزق أنثوية ورجال صامتون
يحب الكثير من المشاهدين اختيار أفلام السهرة من قائمة الأفلام الخفيفة التي لا يجدون فيها الكثير من الخطوط الدرامية كما تبتعد عن مشاهد العنف أو الإثارة الشديدة، هذا النوع من الأعمال لا يحتاج لانتباه كبير كما لا تهتز معه عواطف المشاهد، إنها أشبه بالأغاني اللطيفة التي تُشغّل بينما كل واحد ينشغل أمامه بشيء. يجد هؤلاء ضالتهم في الأعمال الاجتماعية والرومانسية التي يمكن أن تشبه قصصها قصص مشاهديها وتتقاطع حيواتهم ومصائرهم بحيوات ومصائر الجالسين أمام الشاشة.
الفيلمان الأمريكيان “كل أماكننا متألقة” All the bright places (إخراج برات هالي- إنتاج 2020) و”قبل أن نذهب” Before we go (إخراج كريس إيفانس- إنتاج 2016) ينتميان إلى هذه النوعية الخفيفة من السينما الرومانسية بل يمكن أن نجد الكثير من نقاط التماثل فيما بينهما في بنية القصة والصراع والأحداث.
في فيلم “كل أماكننا متألقة” شابان يلتقيان في الصباح الباكر (هناك الكثير من التشابهات أيضا بين هذا الفيلم ورواية “خيالات ضوء القمر” لليابانية بانانا يوشيموتو ولهذا التشابه تفصيلات عديدة ليس مجالها هنا)، تفكر فيوليت (إيل فينينغ) في الانتحار من على جسر بعد انتكاسة شديدة تسبب فيها مقتل شقيقتها في حادث سيارة. يحاول فينش (جيستيس سميث) غريب الأطوار الذي يسميه زملاؤه بالمسخ أن يخرجها من حالة الحزن الشديد الذي تعيشه. ابتداء من الدخول في عالمها من خلال مشاركتها في إنجاز بحث ضمن مقررات الدراسة، يكتشف الاثنان الكثير من الفرحة من خلال أشياء في غاية البساطة.
وفي فيلم “قبل أن نذهب” تجد بروك (أليس إيف) نفسها في محطة قطارات وقد ضيعت رحلتها كما تعرضت لسرقة حقيبتها التي فيها كل أوراقها ونقودها. لا تملك الشابة الشقراء إلا تذكرة سفر في القطار الضائع. تلتقي في المحطة عازف سكسفون (كريس إيفانز) الفيلم يصور كيف تمضي بروك ساعات الليل إلى الصباح. كيف يساعد الشاب الوسيم الشابة الجميلة إلى أن يطمئن عليها.
تبدو مشكلة الأنثى في الفيلمين واضحة أو لنقل بسيطة، بنت تنزوي عن الجميع، يقل كلامها، يقل أكلها، السبب واضح والحالة واضحة. وشابة تجري في محطة القطارات فلا تلحق القطار وعندما تغلق المحطة تبقى واقفة أمام البوابة مطولا وبيدها تذكرة سفر. في الجانب الآخر يظهر أن الشاب أو الرجل هو المبادر، هو المساعد، لا يشكو. لكن في الأخير يظهر أنه يحمل حزنا أكبر من حزن المرأة لكنه يقاوم.
وبينما وجدت هي من يفهمها لم يجد هو من تفهمه رغم الصداقة التي بُنيت شيئا فشيئا وتعمقت والحال ذاته مع “نيك” الذي يحاول المساعدة رغم أنه لا يملك المال، كما يتحمل اعتداء اللصوص وضربه بسبب محفظة بروك.
كلاهما من الطبقة المتوسطة. هذه الشخصيات تشبهنا كثيرا، تشبه نزق شبابنا، هفواتنا وآلامنا الصغيرة والكبيرة، تشبه خيباتنا في الحياة وفي أنفسنا. في كلا الفيلمين تتعرض الشابة إلى أزمة، ولا تأتي المساعدة الا بالمصادفة ومن خارج الأسرة، صحيح أنّ الأزمة عندها وجودية مرتبطة بمفاهيم الفقد والألم الروحي واستمرت لفترة بينما أزمة بروك مؤقتة لكن اللحظات الخاصة مثل التي مرت بها بروك في مدينة واسعة لا تعرف فيها أحد أزمة حقيقية أيضا قد تخسر بسببها ليس حقيبتها فقط ولكن حياتها أيضا.
المساعدة التي قدمها كلاهما للأنثى لم تكن من أجل الحب، أو على الأقل هذا ما يمكن أن نراه لو نتأمل جيدا الفيلمين. إنها رغبة في المساعدة لأن إنسانا هشا يحتاج هذا، التعاطف هو المحرك الأساسي وليس الحب لذلك كان فينش أو نيك على استعداد أن يقدما يد المساعدة لأي أحد بحاجة إليهما. وهي المساعدة التي لم تجدها أي منهما في الأسرة، أو ربما لم تعرف الأسرة كيف تقوم بها. فالأسرة في الفيلمين تظهر كخلفية باهتة لا تأثير لها في سياقات العملين. في “كل أماكننا متألقة” يظهر البيت باردا، الصمت الكثيف الذي يخيم على البيت، الحوارات القليلة بين أفرادها يظهر هذا أما في “قبل أن نذهب” فلا وجود للأسرة إلا على الهاتف باتصالات قليلة مع زوج بروك لا تظهر الرابطة بين الزوجين كبيرة. إنها علاقة فاترة بين الأنثى ومحيطها. مشهد الفتاة وهي تكلم امها عن البحث الذي طلب منها في المدرسة بينما أمها منشغلة بالكمبيوتر يوحي بهذا. والاتصالات العديدة من بروك لزوجها بينما هو لا يتصل يوحي بهذا أيضا.
يعلي الفيلمان من قيمة الصداقة ووزنها في عالم الأشياء والمادة وفي محيط قاسٍ لا يهتم كثيرا لمطبات الروح وخيبات النفس كما يرافعان من أجل التغيير والتحسين. لا مشكلة أن تعرف على أشخاص جدد يشكلون مفردات يومياتنا الآتية بشرط أن يمروا باختبار الثقة. كلا الفتاتين لم تقبلا بدخول الشابين في حياتهما إلا بعد محاولات عديدة. هذا مثير للاهتمام أيضا ويعني جيدا أنّ العلاقات الإنسانية التي قد تأتي بعضها بشكل انسيابي قد يأتي بعضها بعد صعوبات كثيرة. وسواء كانت العلاقة بين اثنين ناضجين أو مراهقين ظل مفهوم الصداقة محوريا في كامل الفيلم.
قد تكون نهاية الفيلمين مختلفة إلى حد ما فبينما “قبل أن نذهب” ينهي قصة الاثنين بشكل مفتوح قد نفهم منه أن علاقة الصداقة ستستمر بعد مغادرة بروك المحطة وعودتها إلى بيتها ينهي “كل أيامنا جيدة” العلاقة باختفاء تيودور فينش.
إنهما من الأفلام الجيدة التي تقول لنا أنّ المفاجئات قد تخبئ لنا أشخاصا يظهرون لنا في أشد الأوقات احتياجا وهشاشة وأنّ الأحداث السيئة التي لا نعرف كيف ننتهي منها هي بدايات لمرحلة جديدة قد تكون أجمل وألطف.