“ليلة على الأرض” حكايات الليل في تاكسي
حقبة التسعينيَّات حقبة في غاية الغنى على كل أصعدة الفنّ السينمائيّ، بل يعتبرها البعض أفضل العقود السينمائيَّة. كُتب فيها الخيال ممزوجًا بالحقيقة، وأخرجت فيها أصعب المشاهد واللقطات، وعُزف لها ما يثير الإعجاب حقًّا من الموسيقى الساحرة. وفي أول التسعينيَّات ألَّف أحدهم فيلمًا لطيفًا جدًّا، إنسانيًّا مُستجيبًا لكل النزعات الإنسانيَّة الدراميَّة في نفوس المشاهدين، انصبَّ على حكايا الليل التي ترويها شخصياتنا المتعددة في سيارات الأجرة. هذا الفيلم ليس مشهورًا لدى الجمهور العربيّ لكنَّه يستحق مشاهدتك.
فيلم ” Night on Earth ” أو “ليلةٌ على الأرض” من إنتاج عام 1991. ألَّفه وأخرجه المخرج والمؤلف الأمريكيّ جيم جارموش. واشترك في تمثيله العديد من الممثلين لعلَّ أبرزهم شهرةً هو روبيرتو بينيني الممثل الإيطالي الشهير، وكذلك الممثلة الشهيرة جينا رولاندز، وينونا رايدر، روزي بيريز، جيان كارلو سبوسيتو، وكثير غيرهم. الفيلم من تصنيف دراما، كوميديا. وهو من أفلام السيارات -أيْ التي تدور في سيارات- وهو نوع جذاب ومُنعش للتجربة البصريَّة.
يدور الفيلم حول حكايات ومواقف وقعت جميعها في ليلة واحدة ووقت واحد -وهو السابعة مساءً بتوقيت “لوس أنجلوس” الأمريكيَّة- لكن في مُدُن مختلفة من العالَم. الجامع بينها أنَّها تدور في سيارات أجرة “تاكسي”. وبهذا يكون الفيلم مُقسَّمًا تقسيمًا حاسمًا إلى فصول واضحة يفصلها فاصل موسيقيّ. وقد اختار صانع الفيلم (المؤلف والمخرج واحد) أنْ يُنوع في فصوله ما بين الكوميديا الخالصة والتراجيديا والدراما المُتوازنة. وأميز ما في الفيلم هو الشخصيات التي يطرحها. ودون إفساد لمتعة الفيلم أو أحداثه دعونا نجول سويًّا في شخصيات فصول حكاياتنا اللطيفة.
الحكاية الأولى تقع في “لوس أنجلوس” بين سائقة شابة لسيارة أجرة، وبين مسئولة في مكتب استقدام ممثلين للأعمال الفنيَّة. سيلفت اهتمامك المفارقة الشديدة في شخصيَّة الشابة اللطيفة التي إنْ بدَّلت ملابسها بملبس أميرة لكان أشدّ لياقة بها من ملابس سائقة. شابة فاتنة تتمتع بشخصيَّة جسورة بالقياس بملامحها. هي مهتمة جدًّا بعملها، تركز على تفاصيله المتعلقة بالسيارة والزبائن، وكذلك ما يلزم السيارة من إصلاحات. لُفافة السجائر لا تفارق فيها في هيئة تثير ابتسامتك قبل أن تثير فيك شيئًا آخر، فتشعر أنَّها تريد أن تخشَوْشِن أيْ تريد أن تتقمص شخصيَّة سائقي التاكسي المُتمرسين القدامى الذين لا يعبأون بشيء يدور حولهم. وسيسترعي اهتمامك أيضًا مُفارقة أخرى بين تلك الشخصية الفريدة وبين شخصية الأرستقراطيَّة التي تتمتع بها السيدة الأخرى. لباسها الفاخر، ترتيبها للحقائب، هاتفها المحمول، رقتُّها ولُطفها في إصدار الأوامر. ويقينًا ستستمتع بحكايتهما معًا وما فيها من ملامح إنسانيَّة.
الحكاية الثانية تقع في “نيويورك” بين ثلاثة من الشخصيَّات شابّ وشابة ورجل أجنبيّ. هذه الحكاية خُصصت للكوميديا المحضة، لكنَّك ستعجب بتمثيل الممثل الألمانيّ أرمين مولر الذي أدَّى دور ألمانيّ كان يعمل مُهرِّجًا وعندما أتى إلى أمريكا عمل سائق تاكسي. ويا لها من براعة في التمثيل تلك التي سيقدمها لنا هذا الممثل! .. وتخيَّلْ أنَّك تركب سيارة أجرة مع رجل لا يجيد أبسط قواعد قيادة السيارات، وقد برع المخرج في إخراج الكوميديا في هذا الفصل. لكنَّ شخصيَّة الألمانيّ كانت أبرز ما في الفصل؛ حيث يخطف قلبك وإحساسك ببراءته التي تصل إلى حد السذاجة، وبما يُبديه من صداقة وعلاقة للآخرين دون أيّ مُبرر له، ورغبته في النجاح وكسب لقمة العيش من مُهاجر سئم الأوضاع في بلاده. وهاجر ليجد فرصة أخرى، ووجدها في قيادة سيارة لا يستطيع التعامل معها، ليسير بها على طُرُق لا يدري من أسمائها أو اتجاهاتها شيئًا. لكنَّه يثابر بروح التفاؤل والأمل التي نطالعها في عينيه.
الحكاية الثالثة تدور في مدينة “باريس” بين أربع شخصيَّات؛ اثنان ثانويان، وآخران هما بطلا الفصل. هذه الحكاية لمْ تخصص للكوميديا بل خصصت للتعرض لقضية الهجرة من الأفارقة إلى أوربا عمومًا، وإلى فرنسا بالخصوص حيث يعيش ملايين منهم هناك. كما ناقشت بشكل مُوسع وبقوَّة مسألة تعامل الأعمى مع ما حوله ومَن حوله. أبرز ما في القصة هما البطلان السائق الأسود الأفريقيّ الذي أتى يرتزق لمدينة النور -لقب لباريس مشهور- وما يجده من مضايقات عديدة للونه وضيق حاله وتلك النظرة التي تواجهه من أنَّه جاء يتطفل على أرزاق أهل البلد أنفسهم. والغريب أنَّ هذا التنمُّر (مُضايقة الشخص لشيء فيه من لون أو عاهة أو غيرها) لمْ يأتِ في أول الفصل إلا من أفريقيَيْن أيضًا ظنًّا أنَّهما أعلى منه. ونرى السائق جديًّا شديد التركيز على العمل وحسب، جامد الملامح والقسمات خاصةً في ظلّ التنمُّر الذي يتعرض له.
ونرى الأمر يتغيَّر تمامًا عندما تستوقفه شابة عمياء لينقلب هذا الذي كان يُعاني من التنمُّر منذ دقائق وهو جادّ منتهى الجد ينقلب لتبدأ أساريره في الانفراج، وعينه تبدأ تلاحق تلك العمياء الراكبة معه، بل يبدأ في شبه التنمُّر عليها لولا أنه صُعق لقدرتها الشديدة على ردعه. وأميز الشخصيات هي الفتاة العمياء الواثقة أشدّ الوثوق من نفسها، والتي تعرف كل دقيقة مما يدور حولها، وقد أدهشت السائق عندما سلك طريقًا غير التي تريده، وأدهشتْه وهي تضع الزينة على شفتَيْها. ليسألها كيف تشعر بالأشياء، وكيف تعرف ما يدور حولها ويُفاجأ سائقنا أنَّ فقدان حاسّة من الحواس ليس فُقدانًا للإنسانيَّة، وليس فقدانًا للإدراك، وليس فقدانًا للعقل والتمييز. وفي حوار جيد ستجد نفسك مُنفعلاً معهم مُنتظرًا لما سيحدث.
الحكاية الرابعة تدور في “روما”. وقد خصصت بالكامل للكوميديا بل الكوميديا الهزليَّة على يد المُمثل المبدع روبرتو بينيني. نجد فيها سائقًا يميل إلى الهزل وممارسة هواية الإضحاك على كل مَن يقابلها، حتى إنْ لمْ يجد أحدًا مارس الهزل على نفسه دون جمهور. هذا النموذج نراه في حياتنا بكثرة لكنْ مع اختلاف المهارة والذكاء في قدرة كل شخص على توليد الضحك أو بدقة اقتناص الضحك في حينه. هذا السائق يستقلّ أحد رجال الدين والذي يصرُّ على أنَّه أسقف -رتبة دينيَّة مسيحيَّة رفيعة- رغم تأكيد الرجل كثيرًا أنَّه ليس أسقفًا. هذا الفصل خاصةً سيضحكك رغمًا عن أنفك، لقد قام فيه الممثل روبرتو بإحدى أفضل أداءات الكوميديا على الإطلاق بعزف منفرد بديع، دعَّمه وأعطاه إشارة البدء هذا الحوار المضحك الذي كتبه مخرج الفيلم.
الحكاية الخامسة تدور في مدينة تُسمَّى “هِلسنكي” وهي عاصمة جمهوريَّة “فنلندا” والتي إنْ رأيت موقعها على الخريطة فسرت سبب الثلوج الكثيفة التي نراها في الفصل. في هذه الليلة قاسية البرودة ذهب سائق تاكسي ليستقلّ ثلاثة من السكارى. في البدء بدأوا يلومان عليه عدم تقديره لمصيبة أحدهم الذي أنامه السُّكر حتى الثمالة، ثم بدآ في سرد عدد من المصائب لحِقَ به. إلى هنا كل شيء عاديّ حتى يُبدي سائقنا أسفه على ما أصاب الراكب من مصائب، لكنَّه يُفاجئهما ويفاجئنا بقصة شديدة الألم ومصيبة حقيقيَّة جعلت الراكبين يتحولان كل التحول على حسب المثل المصريّ الشعبيّ “اللي يشوف بَلوِة غيره تهون عليه بلوته”. وهو فصل إنسانيّ بامتياز على أنَّه مُحزن جدًّا وقد أخَّره المؤلف لنهاية الفيلم ليترك المشاهد في شعور من الاعتدال خاصةً بعد فصل هزليّ قبله.
هذا هو فيلمنا الدراميّ الذي لمْ يصبْ نجاحًا تجاريًّا وقت عرضه، ولمْ يصب شهرة واسعة بيننا. وهو وجبة فنيَّة متنوعة وذكيَّة ولطيفة تخاطب فيك نزعات الضحك والبكاء والتعقُّل والألم. مع موسيقى بالغة الإمتاع استمدَّت حيويتها من اعتمادها على الأصوات البشريَّة لا الآلات. لتقدم لنا حكايات إنسانيَّة أبطالها غرباء لا يعرفون شيئًا عن بعضهم البعض، وما أبدع مواقف الغُربة!