توب غان مافريك: مزايا عديدة و لكن..

Print Friendly, PDF & Email

محمد كسبر

هناك ميم شهير تم تداوله من فترة على السوشيال ميديا بطريقة ساخرة واستخدم كدليل على أن توم كروز في الأصل فامبير (مصاص دماء)، والميم عبارة عن مقارنة بين صورة قديمة لتوم كروز بصحبة الممثل جوناثان ليبنيكي الذي شاركه بطولة فيلم جيري ماغواير   jerry maguire وهو طفل ثم صورة حديثة لنفس الممثل مع توم كروز بعد أن كبر وأصبح شابا والمفاجأة أن توم كروز يبدو في الصورة الحديثة أكثر شبابا وحيوية من الممثل الذي شاركه البطولة طفلا وناداه بأونكل توم في يوم من الأيام!

لكن يكفي بقليل من الفحص والمحص على جوجل إدراك زيف الصورة فالشخص الثاني الذي يقف بجانب توم كروز في الصورة الحديثة ويبدو أكبر سنا منه هو المخرج  كريستوفر ماك كويري الذي أخرج له المهمة المستحيلة سقوط mission impossible fallout! لكن أيضا زيف الصورة لا ينفي الفرضية المتمثلة في كون توم كروز فامبير متخفي يتحدى الزمن دائما بلياقته المبهرة وتغريده خارج المألوف والدليل قيامه بقيادة طائرة حقيقية في تصويره أحدث أفلامه توب غان مافريك.

لكن الفيلم لا يقتصر على مجرد طائرة حقيقية قام توم كروز بقيادتها أو لياقة بدنية مبهرة قام توم كروز باستعراضها على الشاشة لكن فكرة تحدي الزمن هنا تتجاوز توم كروز وتتغلغل لمضمون الفيلم ذاته الذي يمكن تلخيصه في صراع بين زمنين ” زمن مافريك القديم” بما يحمله من  احتفاء بالشجاعة الفردية  التي تصل لحد التهور احيانا وزمن حالي لا يولي اهتماما كبير للعنصر البشري ويفضل انهاء الصراع بضغطة زر وباستخدام طائرات دون طيار، لكن تشاء الظروف أن يتقابل الزمنين في مكان واحد من أجل إنجاز مهمة محددة.

وقبل الخوض في فيلم توب غان ومضمونه لابد أولا من الإجابة على السؤال الوجودي المطروح دائما على مائدة الحوار:

“هل لابد من مشاهدة الجزء الأول للفيلم والذي طرح عام 1986 قبل مشاهدة الفيلم الحالي”

الإجابة النموذجية والدبلوماسية والتي تمثل رأي الأغلبية هي:

“نعم من الأفضل أن تفعل ذلك من أجل مزيد من المتعة لكن أن لم تفعل لا مشكلة ستستمتع أيضا ولكن بدرجة أقل”

هذا المقال يطرح صوت مخالف وينفي إمكانية حدوث أي استمتاع بالفيلم دون مشاهدة الجزء الأول، فمشاهد الفلاش باك المطروحة في الجزء الثاني لن تغني بتاتا عن مشاهدة الجزء الأول لأنها مطروحة أساسا كنوع من تنشيط الذاكرة والنوستالجيا لمن شاهد الجزء الأول!

والمخالفة السابقة لا تهدف إلي الخلاف من أجل الاختلاف ولا ترغب في تسلق سلم الشهرة عملا بمبدأ “خالف تعرف” لكن توجد حجة منطقية نطرحها على مائدة الحوار مفادها أن أصحاب الاتجاه “الدبلوماسي” قرورا ما قروره بعد أن شاهدوا الجزء الأول، بل بعضهم شاهده أكثر من مرة، لكنهم مع ذلك، أعلنوا في النهاية هذا الرأي الدبلوماسي المزيف   الذي يحاكي زيف صورة توم كروز لإثبات كونه فامبير متنكر، والذي يرضي  أيضا جميع الأطراف ولا يوقف سوق الفيلم في الوقت ذاته !

أما كاتب المقال فلقد شاءت الظروف أن يشاهد الجزء الثاني أولا دون الاطلاع على الجزء الأول   فكانت النتيجة هي لعن الفيلم وصناعه من فرط الملل وضعف القصة ثم قرر بعدها تحدي الظروف وشاهد الجزء الأول وأعاد مشاهدة الجزء الثاني في نفس اليوم فاستمتع بالفيلم ووجد نفسه يثني تدريجيا على صناعه ويغير رأيه السلبي القديم!

فالمزايا والعيوب التي توجد في هذا الفيلم وتطرح في هذا المقال تنبع قيمتها من الجزأين معا وتتعامل معهم ككل لا ينفصل.                       

أول هذه المزايا هو المشاهد الافتتاحية في الجزء الثاني التي يمكن اعتبارها بمثابة إجابة عن السؤال أو الدهشة التي طرحت في نهاية الجزء الأول، فعندما أثبت مافريك شجاعة استثنائية وأنجز المهمة الموكولة إليه على خير وجه ، منحته القيادات  حينها حرية اختيار المكان الذي يود الخدمة فيه وإذا به يختار أن يعمل مدرسا في مدرسة “توب غان” التي تضم نخبة من أكفأ الطيارين الأمريكيين، وبمجرد أن يسمع رئيسه بقراره يعلق مندهشا “كان الله في عوننا!”

وهي بالطبع دهشة في محلها فمافريك شخصية شجاعة لحد التهور، تعتمد على حدسها ولا تفكر كثيرا في المخاطر المترتبة على قرارتها وتتمرد دائما على الأوامر، فأي نوع من المدرسين سيكون مافريك هل ستؤثر عليه الوظيفة الجديدة وتحد من جموحه السابق؟ أم سيتأقلم مع المؤسسة العسكرية وينخرط في انضباطها الصارم؟

جاءت الإجابة في بداية الجزء الثاني وباستخدام مشاهد موجزة أصابت الهدف تماما، فمافريك كما هو لم يتغير ولا يؤمن بالمستحيل ويتجلى ذلك في قيامه بالتحليق بالطائرة عاليا وتجاوزه للسرعة المطلوبة حتى يضمن استمرار التمويل الممنوح لبرنامج الطيارين.

وحتى قصة الحب بالجزء الثاني والتي يراها البعض فاترة ودخيلة على الفيلم، فأنها على العكس تماما، جاءت مناسبة لإبراز تمرد مافريك وعدم تغير شخصيته على مر السنين. فبيلي بنجامين والتي لعبت دورها جنيفر كونيلي ترغب في شد مافريك تجاه علاقة عاطفية مستقرة تتناسب مع عمره الجديد وهذا بالطبع يتناقض مع روح مافريك الشابة لذلك ساد  نوع من البرود العاطفي  في مشاهدهم المشتركة،  على عكس الجزء الأول حيث انخرط مافريك في علاقة عاطفية ساخنة مع تشارلي والتي لعبت دورها كيلي ماغيليز لكن سخونة العلاقة في الجزء الأول لها ما يبررها فهي تتوافق مع روح مافريك المتمردة لو وضعنا في الاعتبار وظيفة الحبيبة القديمة كمدرسة  مدنية لمافريك، وبالطبع علاقة سرية تجمع بين مدرسة وتلميذ تناسب طبيعة  مافريك الراغب دائما في تجاوز المألوف على عكس الحبيبة الجديدة التي تملك ابنة صغيرة وترغب في حياة تقليدية، ومافريك نقيض الحياة التقليدية وهذا يتجلى أيضا في عدم اهتمامه بالترقيات وثباته في وظيفة كابتن طائرة بعد كل هذا العمر!

لكن ثبات مافريك وولائه لقيم جيله يقابله الزمن الجديد الذي يحمل قيم مختلفة وتصورات جديدة، فالصوابية السياسية أطلت برأسها في الجزء الجديد، على استحياء نعم ولكن بشكل ملحوظ لو قارناها بالجزء الأول التي غابت فيها تماما أي نوع من الصوابية و”تبرطعت ” الخشونة الذكورية كما يحلو لها ودون أي قيود أخلاقية.

 ففي الجزء الجديد  تم إضافة عنصر نسائي  عسكري  لمدرسة توب غان ومع العنصر النسائي جاء مساعد  شاب خجول خافت الصوت، يرتدي نظارة نظر وهذا بالطبع يناقض الصورة التقليدية للعسكري الأمريكي من  كشخص مفتول العضلات، جهير الصوت وقوي البنية، وبالطبع هذه الإضافات البسيطة  تمثل تغير راديكالي لو قارناها  بفريق الجزء الأول، بما كان يحمله من صفات  تنمرية وقيم ذكورية تتجلى في الجمل الحوارية  ويكفي للتدليل عليها تعليق ايس مان  مثلا عندما أراد التقليل من كل من لم توجد صورته في لوحة شرف المدرسة ، حيث اخبر زملائه بوجود لوحة أخرى  بديلة ولكن في حمام السيدات، فانخرط الجميع في  وصلة ضحك على هذا الافية الذكوري الظريف!

والغريب عدم وجود صراع بسبب هذا التغير بل على العكس يختار مافريك الفتاة ومساعدها ضمن فريقه للمهمة ، وهذه نقطة سلبية في الفيلم بشكل عام، فلا يكاد يوجد في الفيلم أي عنصر محفز للصراع،  فالخصم مثلا هو خصم مبهم، فلا هو شخصية مركبة لا تنسى كشخصية الجوكر مثلا، ولا هو الطبيعة بقوتها التدميرية  الهائلة وبصراعها مع الانسان الراغب في السيطرة عليها  كما هو الحال في فيلم Don’t look up، بل الخصم هنا لا يتجاوز كونه مصنع لتخصيب اليورانيوم يهدد حلفاء أمريكا في المنطقة، والخصم في الدراما عامل أساسي لتحفيز الصراع  وغيابه يؤدي إلي تسلسل الملل إلي نفوس المشاهدين  شيئا فشيئا. بالطبع، كان الخصم في الجزء الأول غامض كالجزء الثاني فهو أيضا لا يتعدى كونه  حرب جوية مع خصم روسي مبهم، لكن اختلاف السياق الدولي لعب دور مؤثر في بروزة هذا الخصم دون حاجة إلي  الحديث عنه في الفيلم، فعام 1986 كانت الحرب الباردة مازالت موجودة  والاستقطاب الدولي مازال حاضرا على عكس عام 2022، أيضا كانت توجد نقاط صراع أخرى في الجزء الأول منها مثلا صراع البطل مافريك مع ايس مان  بما يحمله من مناوشات متبادلة أضافت كثير من الحيوية  إلي الأحداث، لكن في الجزء الثاني   مثلا لا نستطيع أن نتعامل مع العلاقة المتذبذبة، بين البطل وروستر والذي يلعب دوره مايلز تيلر، على أساس  أنها عنصر محفز للصراع، فالعلاقة الحميمية القديمة التي تجمع بين بطلنا ووالد روستر تجعلنا ندرك أن هذه المناوشات مجرد خلافات سطحية سرعان ما ستزول  وتعود المياة إلي مجاريها في نهاية المطاف وهذا الاحساس بالطبع يؤدي إلي زوال الترقب المطلوب  لاستمرار المشاهدة.

لكن هذه لا يعني غياب عنصر المتعة تماما أثناء المشاهدة فالدعاية السابقة على نزول الفيلم والمتعلقة بقيام صناع الفيلم بقيادة طائرات حقيقية  ساهمت في الاقبال عليه بشكل مكثف، بالإضافة طبعا إلي استغلال عنصر النوستالجيا القديمة بشكل احترافي  سواء على مستوى شريط الصورة وهذا يتجلى في  مشاهد عديدة نذكر منها  قيام البطل بقلب الطائرة  رأسا على عقب  وتعليقها هكذا في الهواء  أو  قيادة مافريك لدراجته  البخارية على الأرض والطائرة تحلق فوقه وكأنه في سباق معها أو المشهد الحيوي للعب الكرة  على الشاطئ إلخ  وهي كلها مشاهد أيقونية ارتبط المشاهد بها في الجزء الأول وتكررت في الجزء الثاني وعلى مستوى شريط الصوت ساهمت الموسيقى التصويرية  القديمة   في بث حالة من الحيوية والمرح على روح الفيلم ولا ننسى أيضا  غناء الابن روستر  لأغنية  GREAT of  BALLS FIRE وهي نفس الأغنية التي غناها ابيه غوس في الجزء الأول، بالإضافة طبعا للظهور الأسطوري  للشخصية القديمة أيس مان  كضيف شرف في مشهد واحد ويبدو في هذا  المشهد  مريض وغير قادر على الكلام  وهذا للأسف يتطابق مع الحالة المرضية للممثل فال كيلمر لذا مشهد موته في الفيلم  يثير الشجن من الناحيتين معا، فنحن نبكي موت الشخصية التي أحببناها في الجزء الأول ونشفق على المصير المرتقب لمؤدي هذه الشخصية التي أحببناها سواء في أدائه لهذه الشخصية أو شخصيات أخرى  كثيرة (يوجد استغلال لا أخلاقي هنا  لا يتسع المجال لذكره بالتفصيل).

لكن عوامل النجاح التي ذكرناها هي عوامل وقتية ولا تضمن استمرارية الفيلم في الذاكرة، فالبروباجندا التقنية المتعلقة بظروف التصوير، والنوستالجيا القديمة التي يكنها محبي الجزء الأول لهذا الفيلم، هذه كلها عوامل لا يمكن الاعتماد عليها لو أراد صناع الفيلم القيام بجزء ثالث مثلا.

فما يبقى في الذاكرة ويخلد في تاريخ السينما هو الشخصيات الفريدة لأبطال الفيلم والروابط المعقدة بين هذه الشخصيات، والشخصيات للأسف هنا جاءت مسطحة أو على أقل تقدير فاقدة للحيوية المميزة لها بسبب شبح الصوابية السياسية الجاثم على صدر الفيلم. وعموما من الجميل أن تكون شخص ايجابي تسير وفق أجندة أخلاقية في حياتك الفعلية لكن من الصعب أن تنشأ فيلم طريف ببطل يحمل هذه الصفات الحميدة! فالشخصية اللاأخلاقية تضيف حيوية للفيلم ومتعة للمشاهد أكثر بكثير مما تضيفه الشخصية المستقيمة وهذا هو درس الفن.

 فهل يستوعب صناع العمل هذا الدرس ويضعوه في اعتبارهم مستقبلا عند انتاج جزء جديد من نفس الفيلم أو من أي فيلم آخر ؟ أم ستصيبهم حالة من النشوة بسبب نجاح الفيلم بشكل يدفعهم لتكرار نفس التجربة بنفس الأخطاء؟

بالطبع لا نملك إجابة قاطعة على هذا السؤال، ونترك إجابته للزمن!

Visited 1 times, 1 visit(s) today