“كيرة والجن”.. عندما تتحول البطولات الوطنية إلى “شغل سيما”

Print Friendly, PDF & Email

د. ماهر عبد المحسن

للمرة الثانية، بعد “الفيل الأزرق٢”، يعرض صانعوا فيلم “كيرة والجن” فيلمهم قبل موسم العيد بنحو أكثر من أسبوع، ربما لأنهم ضامنون للنجاح الجماهيري، فهو من بطولة النجم كريم عبد العزيز وتأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، بالإضافة إلى النجم أحمد عز.

وربما يكون السبب هو رغبة الشركة المنتجة (سينرجي) في تحقيق أكبر قدر من الإيرادات  بعد أن أنفقت على الفيلم ما يجاوز المائة مليون جنيه. والحقيقة أن الفيلم يستحق المشاهدة قبل العيد أو بعد العيد، لأن به من عناصر الجذب الجماهيري ما يضمن له تصدر شباك التذاكر، فقد حقق ما يقرب من العشرين مليون جنيه في أسبوعه الأول، ويكفي أن تعرف أن صالات العرض تكون شبه ممتلئة في حفلات العاشرة صباحا.

“كيره والجن” فيلم ملحمي يحكي قصة كفاح رجال المقاومة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي في الفترة من ١٩١٩ حتى ١٩٢٤ من خلال ثلاث شخصيات محورية: أحمد عبد الحي كيرة (كريم عبد العزيز) وعبد القادر شحاتة الجن (أحمد عز) ودولت فهمي (هند صبري)، بالإضافة إلى عدد كبير من الشخصيات الفرعية ذات التأثير الكبير على الأحداث مثل شخصية إبراهيم الهلباوي التي أداها باقتدار سيد رجب. والفيلم مأخوذ عن رواية أحمد مراد “١٩١٩” التي نُشرت عام ٢٠١٤.

يبدأ الفيلم بمشهد يصور أحداث دنشواي وينتهي بمشهد لثورة يوليو، رغم أن أحداث الفيلم تنتهي عند ١٩٢٤ في إشارة سريعة إلى التحولات التي مرت بها البلاد، وكيف أن ثورة يوليو كانت بمثابة الفجر الذي أضاء الدنيا بعد ليل مظلم طويل كان يجثم فوق صدور المصريين أيام الاحتلال الانجليزي.

الفيلم إذن يعتمد على أحداث حقيقية، لكنه يقدمها برؤية فنية سينمائية، ولا يخفى الفارق بين التاريخ والفن، السينمائي بخاصة، لأنه يجعلك ترى أشياء حدثت ولم تحدث في الوقت نفسه، أو بمعني أدق حدثت على الحقيقة لكن بنحو مختلف عما نشاهده على الشاشة.

بهذا المعنى، يجد الناقد نفسه أمام نوعين من المقارنة، واحدة بين الفيلم والرواية الأصلية، والأخرى بين الفيلم والتاريخ. المقارنة الأولى حسمها أحمد مراد (مؤلف الرواية وكاتب سيناريو الفيلم) في أحد اللقاءات التليفزيونية عندما ذكر أنه قام بتعديلات كثيرة على شخصيات الرواية وأحداثها بحيث صار الفيلم عملا مستقلا بذاته، ونحن، بدورنا، نحترم هذا الرأي ونرى أن هذا هو المنطق الذي ينبغي أن يحكم العلاقة التي تنشأ بين أي نوعين من الفنون، وعليه يتم التعامل مع السينما بمعزل عن مصادرها الأدبية، حتى لو كانت مجرد تعبير بصري عن الأدب المكتوب.

وإذا انتقلنا إلى المقارنة الثانية، بين الفن والواقع، فلن يختلف الأمر كثيرا إذا ما اتفقنا على أننا أمام عمل فني في المقام الأول، وبهذا المعنى يمكننا أن نقبل أشياءً ما كان لنا أن نقبلها لو كنا نتعامل معها كواقع أو كتاريخ. وإذا أردنا أن نحلل فيلم “كيرة والجن” فإن تحليلنا سيميل، بالطبع، إلى العناصر الفنية والجمالية بنحو أكثر. وفي هذا السياق، لا يمكن أن ننكر أننا أمام عمل كبير ومهم على مستوى الصورة والأداء، فقد نجح مراد في صياغة سيناريو محكم ومتماسك معظم فترات الفيلم، ونجح حامد في السيطرة على أدواته بحيث قدم صورة سينمائية مبهرة خاصة في مشاهد الحركة وتحريك المجاميع.

وهكذا يثبت مروان حامد منذ فيلم “عمارة يعقوبيان” وحتى “الفيل الأزرق٢” أنه مخرج المشاهد الصعبة، والتحدي الذي واجهه حامد هذه المرة ونجح في تجاوزه باقتدار، هو الإجابة عن السؤال: كيف يمكن تنفيذ مشاهد ملحمية تدور في العشرينيات من القرن الماضي بتقنيات إخراجية متقدمة دون أن يشعر المشاهد بالمفارقة؟

وإذا أخذنا مشاهد المطاردات كمثال، فسنلمس مدى القدرة العالية في الاخراج على مزج حركة الخيل بالكاريتات بعربات الجيش الانجليزي المصفحة، بالجثث المتطايرة من هنا وهناك، ولا يُعاب علي هذه المشاهد سوى المبالغة في الأداء البطولي للشخصيات بحيث تنجو من التفجيرات وطلقات الرصاص والسقوط المروع للعربات الداخلة في المطاردات، بل إن طعنات السكين واختراق الرصاص لصدور الثوار لم يكن سببا كافيا للموت في معظم الأحيان!

جاءت الصورة معبّرة عن الحقبة الزمنية التي كانت تدور فيها أحداث الفيلم خاصة فيما يتعلق بالملابس والديكورات وماكياج الممثلين، غير أن النقاء الواضح للصورة والألوان الزاهية للملابس، والألوان الفاتحة للمبان والحارات أفقدت هذه الحقبة شيئا من روحها بحيث يشعر المشاهد، خاصة في مشاهد النهار الخارجي، أنه أمام لوحات فنية لامعة، وإن جاءت تعبيرا عن زمن فائت!

ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن أداء الممثلين الذي غلب عليه التعبير الحركي الخارجي دون عمق نفسي مواز على نفس المستوى، ولا يرجع السبب إلى الممثلين بقدر ما يرجع إلى السيناريو الذي اهتم أكثر بتجسيد حركة مقاومة الثوار لجيش الاحتلال الإنجليزي، وهي حركة تعتمد على المجاميع بنحو أكثر. ولا يعني ذلك ضعف الأداء، بل على العكس شكّل الأداء في هذا الفيلم إضافة مهمة لمعظم الممثلين خاصة النجوم أصحاب الأدوار المحورية، فقد أجادت هند صبري في دور دولت فهمي الثائرة الصلبة ذات الأصول الصعيدية، التي ضحت بسمعتها في سبيل حماية الثوار، ودفعت حياتها ثمنا لعادات وتقاليد البلاد التي نزحت منها.

وينطبق الأمر نفسه على كريم عبد العزيز وأحمد عز، غير أن وجود النجمين في فيلم واحد بحجم “كيرة والجن” وضع مسألة الأداء في أزمة، فالمشاهد لا يستطيع أن ينسى أنه أمام كريم وعز، النجمين ذي الشعبية الكبيرة، ومن هنا لم تكن المباراة بينهما في التمثيل وإنما في النجومية، وبهذا المعنى كان على كل منهما أن يضع بصمته الخاصة، أو علامته المميزة، التي تعودها جمهوره منه على الأداء، والتي من شأنها أن تذكرك طوال الوقت أنك أمام نجمك المفضل الذي أحببته. وضح ذلك في خفة الظل التي حرص عليها كريم، والإفيهات المضحكة التي كان يلقيها عز حتى في أشد المواقف سخونة.

والمنطق نفسه هو الذي جعل السيناريو يحرص على أن يكون عادلا بحيث يضع تفاصيل الشخصيتين بنحو متساو، ويزن المواقف التي تجمعهما بميزان حساس، فيمكنك أن تجد مبررا دراميا لانسحاب كريم من مشاجرة مع عز فوق أحد المراكب بعد أن تلقى لكمة قوية على وجهه من الأخير، لكنك لن تجد أي مبرر، قرب نهاية الفيلم، لأن يوجه كريم اللكمة ذاتها إلى وجه عز، الذي سافر إليه في إسطنبول لإنقاذه من القتل على يد الإنجليز، سوى أن السيناريو لا يريد أن يترك فرصة لأن يبدو أحدهما متفوقا على الآخر.

وبالرغم من ذلك، إذا شئنا المقارنة، تفوق كريم في المشاهد النفسية وتفوق عز في مشاهد الحركة، وربما كان السبب هو توزيع الأدوار الذي جعل أحدهما يمثل المخ بينما يمثل الآخر العضلات، هذا دون أن نغفل كاريزمة كريم الشخصية ذات الجاذبية، والتكوين الجسماني الرياضي المميز لعز.

بالرغم من طول زمن عرض الفيلم الذي بلغ الساعات الثلاث، إلا أنه يُحسب للسيناريو قدرته على الاحتفاظ بالإيقاع السريع اللاهث للأحداث، خاصة في النصف الأول من الفيلم، بحيث لم يدع فرصة للمشاهد لأن يشعر بالملل كما يحدث عادة في مثل هذا النوع من الأفلام، ساعد على ذلك موسيقى هشام نزيه صاحب البصمة اللحنية المميزة، من خلال الانتقالات الموفقة بين الإيقاعات السريعة والبطيئة للقطات، والمواءمة بين بث روح الحماسة في مشاهد الحركة وإشاعة مشاعر الشجن والحزن في مشاهد الحب والموت.

ربما لم يناقش فيلم “كيرة والجن” قضية معينة، ولم يتعمق كثيرا في أبعاد شخصياته، لكنه نجح في استعادة روح المقاومة التي تحلى بها المصريون ذات يوم قبل أن تقهرهم مطالب العيش، وبث الحياة في بطولات حقيقية سقطت من الذاكرة بعد أن انشغل الوعي الجمعي ببطولات من ورق وآلهة من الصلصال، وذلك كله من خلال لغة فنية احترافية يحق أن نطلق عليها “شغل سيما”!

Visited 1 times, 1 visit(s) today