“كانيبال” من إسبانيا.. درس في السينما الجميلة!
قبل أن يبدأ الفيلم الإسباني “كانيبال” Cannibal وهي كلمة تعني الشخص الذي يأكل اللحم البشري، (ونفضل الإبقاء عليها في أصلها اللاتيني لما للكلمة من وقع خاص على الأذن تفسده بلاشك الترجمة خصوصا مع غياب مرادف في كلمة واحدة لها في العربية)، يتوقع المتفرج أن يشاهد فيلما من النوع المثير thriller على شاكلة “صمت الحملان” The Silence of the Lambs مثلا، وأن يرى الكثير من مناظر الدماء والتهام الأعضاء البشرية أو في صورة أخرى، رجلا مهووسا له ملامح فظة وسحنة شيطانية، يطارد النساء ويقتنصهن بكل شراسة وقسوة.
مثل هذه الصورة المستقرة مسبقا في الأذهان هي أول ما يتجاوزه هذا الفيلم البديع الذي يعد درسا في الإخراج يتوج درسا آخر بليغا في كتابة السيناريو (عن أصل أدبي) ويتوجُ الإثنين معا، تصوير سينمائي يجعل من كل لقطة تحفة بصرية متميزة، لكنها تظل ضمن النسج العام للفيلم كله، الذي يعتمد على الصورة، وعلى التعبير الصامت (لا يشغل الحوار في الفيلم أكثر من 30 في المائة من مساحة المشاهد) كما يعتمد وبشكل اساسي أيضا، على أداء ممثل عبقري، يعبر عن الشخصية بفهم كامل، وليس استجابة لتعليمات المخرج وتفسيره للشخصية المركبة التي نراها في هذا الفيلم.
الجانب الثاني المثير والملفت للنظر بشدة في هذا الفيلم يتعلق بهدم فكرة تجسيد الشرير في صورة يرفضها المتفرج ويبقى بعيدا عنها، يدين تصرفاتها وأفعالها ويستنكرها وصولا مثلا إلى لحظة من لحظات التطهير حينما يدفع الشرير الثمن (تقبض عليه الشرطة أو ينتهي بالقتل أو بالموت ما في أفلام الرعب المالوفة). فبطلنا لا يموت في النهاية ولا تقبض عليه الشرطة.
هذاعمل سينمائي كبير لا يهبط إلى مستوى الإثارة السطحية كما في أفلام الرعب أو الغرائبيات. قد تكون هناك مؤثرات قادمة من عالم الأدب مثل “الحسناء والوحش” Beauty and the Beast ، (أو”شبح الأوبرا” وهي في الأصل رواية فرنسية لجاستون ليرو) غير أن الموضوع هنا لا علاقة له- ببساطة- بـ “القبح” مقابل “الجمال”، فبطلنا ليس قبيحا ولا فظا بل يمكن أن يكون فيه من الجمال الشكلي ما يغوي فتيات كثيرات بالوقوع في حبه.
الفيلم هو العمل الرابع للمخرج الإسباني مانويل مارتن جوينيكا Manuel Martin Cuenca، أنتج عام 2013، وعرض في عدد كبير من المهرجانات السينمائية. كتب له السيناريو مخرجه جوينيكا بالاشتراك مع أليخاندرو هيرنانديز عن رواية بنفس الإسم للكاتب أومبرتو أرينال، وقام بدوري البطولة الممثل الاسباني أنطونيو ديلا تور، والممثلة الرومانية أوليمبيا ميلينت.
الاتجاه العكسي
إننا هنا أمام مستوى آخر من الإثارة يعتمد على محاولة النفاذ إلى “قلب” رجل يتلذذ بقتل النساء اللاتي يقع في حبهن أو اللاتي ينجحن في إثارته وإغرائه، ثم أكل لحم أجسادهن. يبدأ الفيلم بداية تضعنا مباشرة في قلب الموضوع كما تعكس أسلوب بناء الفيلم الذي يلعب على السير في الاتجاه المعاكس لما هو سائد ومتوقع، أي عكس ما يتوقعه المتفرج وينتظر حدوثه:
رجل وامرأة في سيارة. المرأة مستلقية في المقعد بجوار قائد السيارة. الرجل يقود السيارة في طريق ريفي ليلا. سيارة تسرع بمحاذاة سيارتهما لا نرى من فيها، ثم تسبقهما، وفجأة تأتي من الاتجاه العكسي مسرعة في مواجهة السيارة الأولى تماما. الطريق ضيق. أضواء السيارة القادمة تجعل رؤية السائق في السيارة الأخرى شبه مستحيلة. يصب السائق اللعنات على ذلك القادم من أمامه مباشرة عكس الطريق، تغلق السيارة القادمة الطريق فتنحرف سيارة الرجل والمرأة خارج الطريق وتسقط في هوة. تتوقف السيارة الأخرى ثم تعود إلى الوراء إلى أن تصل قرب موقع انقلاب السيارة الأخرى. يهبط منها رجل، ينتشل جسد المرأة من داخل السيارة المحطمة. يحملها الى سيارته وهي تئن من فعل الجروح التي أصيبت بها. تتحرك الكاميرا أفقيا فنرى بقعة كبيرة من الدماء من المراأ النازفة (لن نرى الدماء في الفيلم سوى مرة أومرتين بعد ذلك) . يتوجه بالسيارة الى كوخ حجري في منطقة جبلية تغطيها الثلوج. يحملها إلى الداخل، يمدد جسدها فوق منضدة خشبية، ينزع عنها ملابسها. على الجدار القريب مجموعة كبيرة من السكاكين ومنشار وآلات حادة قاطعة، يتناول أحدها. يقترب من جسد المرأة يتحسسه، يتشمم بطنها، ثم نرى ساقيها ونسمع صوت ضربة “الساطور”. يبدأ في تقطيع لحمها، ندرك هذا من الصوت ومن انقباض عضلات الساقين مع ضربات السكين.. نرى في لقطة قريبة الجزء السفلي من الساقين والدماء تتدفق الى أسفل المنضدة الخشبية!
هذا المشهد وحده يصلح للتدريس على دارسي السينما، فهو يقول كل شيء، عن الرجل، وعما يفعل دون أن نرى بشكل مباشر تقطيع الجسد أو تعبئة كتل اللحم ودون أي مؤثرات صوتية أو موسيقى صاخبة مثلا. هنا يقوم المونتاج بتوليف المشهد بعبقرية واقتصاد يلخص في بساطة الموقف، ويصنع مدخلا مناسبا تماما للفيلم.
هذا هو بطلنا (ويدعى كارلوس) نراه في المشهد التالي يقود سيارته من نوع الدفع الرباعي والأمطار الغزيرة تضرب زجاج السيارة، لا نرى سوى جزءا من وجهه في المرأة الداخلية. نظراته الحادة وتقطيبة جبينه توحي بأننا أمام رجل غريب الأطوار. في بيته بمدينة غرناطة (في الأندلس) يخرج من الحقيبة التي أتى بها أكياسا من اللحم يضعها في الثلاجة. في محل قريب من البيت يمارس كارلوس عمله كخياط ماهر، يحتقر الملابس الجاهزة، يرتبط بعلاقة وثيقة مع جماعة دينية، يتردد على الكنيسة بانتظام باعتباره كاثوليكيا مخلصا، يتردد عليه أحد أقاربه، رجل متقدم في العمر واضح انه هو الذي قام بضمه الى جماعة دينية تابعة للكنيسة، يجلس في المساء يتناول شرائح اللحم مع كأس من أفخر أنواع النبيذ.
كارلوس ناجح تماما في عمله، تكلفه الكنيسة ذات يوم باستعادة بهاء غطاء أثري منقوش يعود الى سنوات بعيدة مضت، فيقبل المهمة بسعادة (رغم اعتراض شريكته “أوروا) وهي المرأة الوحيدة التي يرتبط معها بنوع من الصداقة، هي امرأة متقدمة في العمر يمكن أن تكون بمثابة الأم البديلة له غير أنه في أحد المشاهد عندما تقول له إنه ليس من الممكن أن يرتبط بعلاقة مع امرأة: “الحمد لله أنك لست أمي”!
تنقلب حياة كارلوس عندما تأتي للسكن في الطابق الواقع أعلى شقته امرأة شابة حسناء (شقراء) تدعى الكسندرا من رومانيا، تحضر إليه ذات يوم في محله القريب، تطلب أن يساعدها في وضع إعلان لما تقوم به أي التدليك، بل وتعرض عليه مقابل ذلك أن تمنحه تدليكا خاصا مجانيا في أي وقت يشاء. كارلوس متحفظ كثيرا في حديثه معها. لا يبدو مرحبا باقاة أي علاقة معها، لكنه يراقبها من غرفته ليلا وهي تخلع ملابسها قبل أن تلقي عليه نظرة إغراء وكأنها تدعوه. يتوقع المتفرج أنه سيقبل الدعوة وتحدث مذبحة من نوع ما، لكن الفيلم يختار دائما السير عكس التوقع كما أشرنا. كارلوس لن يقرب هذه المرأة أبدا، رغم كل محاولات الاغراء التي وصلت حد اقتحام شقته واستعراض نفسها أمامه بكل جرأة. كارلوس يعمل بمهارة في تفصيل الملابس، يقضي وقتا طويلا في العمل، وفي المساء يستمتع بوجبة من اللحم البشري، وكأس من النبيذ الفاخر، ثم يقرأ ويفكر في الكسندرا التي من الواضح أنه يشتهيها كثيرا، وتواصل هي استفزازتها الجسدية له: تلجأ إليه ذات يوم لكي يساعدها في ابلاغ الشرطة عن مشاجرة وقعت في شقتها مع شخص لا نراه. لكن كارلوس يرفض ويعتذر، وتلح هي عليه، تحاول إغواءه، يصر على أن تغادر شقته، لكنه يقرر فجأة أن يساعدها، تركب الى جواره في السيارة، ولا نعرف ماذا حدث.
من هذه النقطة تختفي ألكسندرا من الفيلم. وبعد مرور فترة من الزمن، تأتي امرأة تشبه ألكسندرا تقول إنها شقيقتها “نينا” (داكنة الشعر)، وإن شقيقتها اختفت وتسأل كارلوس عما اذا كان يعرف عنها شيئا. هذه المرأة ستقلب حياة كارلوس رأسا على عقب، سيقع في حبها لكنه لن يقربها ولن يجرؤ على الاعتراف لها بأنه يحبها. سيساعدها ويمنحها ثلاثة آلاف يورو لكي ترسلها الى أهلها في رومانيا، رغم ترددها في قبولها ودهشتها من تصرفه هذا غيرالمألوف، فهي تعتقد أن لا أحد يساعد أحدا مقابل لاشيء فلابد ان يكون له طمع ما فيها. ورغم ذلك تقول إنها على العكس منه، ترغب دائما في رؤية الجانب الجيد في الآخرين. تتعقد العلاقة، بعد أن تنتقل للإقامة معه في شقته دون أن يحدث بينهما أي إتصال جسدي، إلى أن يأخذها الى كوخه الجبلي، وهناك يخدرها ويمدد جسدها على الطاولة الخشبية، ويحاول قتلها لكنه لا يفعل.
معاناة كارلوس
هذا فيلم عن مأساة رجل، عن الوحدة المدمرة عندما تستبد بصاحبها فتهوى به إلى مرتبة الحيوانات، غير أنه يظل أيضا يحمل في داخله إنسانا، يختزن المشاعر الإنسانية، ويكبتها ويمارس قمع الذات. إنه ممزق بين الاستسلام للجانب الحيواني الذي تولد فيه بفعل معاناته ووحدته، وبين استعادة الجزء الإنساني الكامن في داخله.
كارلوس رجل وحيد مات والداه، يعتمد على نفسه، يميل للعزلة، لا يثق في الآخرين، يجيد حرفته حد الكمال، كل شيء عنده يجب أن يكون مثاليا، يتخيل أن الحياة يجب أن تكون أيضا مسواة دقيقة بنفس الدقة التي يقطع بها القماش.. لكنه أيضا يتلذذ يستخرج أفظع ما فيه، نره على سبيل المثال في أحد المشاهد، يستمتع بمشاهدة فريسته وهي تغرق أمامه في البحر.
تتملك كارلوس حالة من القسوة الدفينة والرغبة في الانتقام من المرأة خصوصا تلك التي تنجح في إثارة مشاعره الجنسية التي يريد قمعها، ولكنه في الوقت نفسه، يناضل من أجل استعادة انسانيته. وهو بهذا التكوين المعقد، يعتبر حالة إنسانية يمكن أن يتفهمها المشاهد بل ويتعاطف معها أيضا.
عن الأسلوب
لا يفلت مشهد واحد في هذا الفيلم من المخرج، فهو يسيطر سيطرة مدهشة على الحركة والأداء، ينقل إلينا عشرات المشاعر المتناقضة من خلال تلك الرصانة وذلك السحر في تجسيد المواقف وتصوير الشخصية في إطار المكان، والنجاح في إبراز التناقض بين تلك المرأة الأولى المثيرة الملتهبة التي يمكن أن تثير خيال أي رجل، وبين تلك البرودة القاتلة لدى كارلوس.
يخلق المخرج مانويل مارتن جوينيكا من خلال الحركة داخل المشهد وعلاقة المشاهد واللقطات ببعضها البعض، إيقاعا بطيئا، فاللقطات طويلة، وحركة الكاميرا بطيئة، وزوايا التصوير تبدو كما لو كانت من وجهة نظر كارلوس، أي متلصصة، ويجعلك الصمت الطويل وقلة الحوار واقتصاده بدرجة مدهشة مع تعبيره الخاص عن أفكار الفيلم بكثير من البساطة، أمام تدفق للصور يلعب دورا منوما hypnotic إذا جاز التعبير. وهو لا ينحرف في أي وقت، إلى أسلوب الإثارة السطحية الخارجية المعتادة من خلال المونتاج السريع أو الموسيقى الصاخبة المثيرة وغير ذلك.
تتميز المشاهد التي تدور في الجبال المغطاة بالثلوج، بنزعتها التشكيلية التأثيرية الواضحة، وتتناقض النيران المشتعلة في الداخل، أي داخل الكوخ الحجري لكارلوس الذي وضع قطعا من أخشاب الأشجار في المدفأة، أشعل فيها النار، مع الثلوج البيضاء التي تغطي المنطقة في الخارج، وكأن هذا التناقض تجسيد للتناقض بين ما يدور داخل كارلوس من مشاعر متضاربة عنيفة متصارعة بشدة، وبين هدوئه الظاهري وبرودته القاتلة. ويولي مدير التصويرعناية خاصة لدور الاضاءة والتكوين سواء في المشاهد الخارجية (استخداماته المميزة لعمق مجال الصورة) أو الداخلية (مثلا تركيزه على الممر الطويل المظلم داخل شقة كارلوس مثلا).
يصل أداء الممثل أنطونيو ديلا تور في دور كارلوس، إلى ذروة التعبير بل إن أداءه في الفيلم يعد واحدا من أفضل ما رأيناه في تجسيد الشخصيات المركبة في السينما. إنه يعبر عن ما هو خافت وغامض، بتمكن وقوة ولكن في بساطة آثرة وتلقائية نادرة، بنظراته الغامضة، وصمته الذي يخفي الكثير، من جوع واشتياق وعجز وخوف وقلق وعنف ودمار.
على الصعيد المقابل، نجحت الممثلة الرومانية أوليمبيا ميلينت في أداء الشخصيتين: ألكسندرا ونينا، فقد جسدت التباين بين ألكسندرا التي تتميز بقوة الشخصية، بكونها شخصية اقتحامية عنيدة مجادلة مغوية، تريد أن تنال ما تريد من أقصرالطرق، وبين شخصية “نينا” الهادئة الرصينة الناعمة، التي تميل إلى التأمل، تبحث عن الشعور بالدفء الإنساني في بلد غريب عليها، هي فيه وحيدة أيضا.
لا يميل المخرج جوينيكا، إلى الكشف عن كل شيء للمتفرج، ولا إلى أسلوب الشرح والتفسير والتبرير، فالفيلم عما نراه، لكنه أيضا عما لانراه، فنحن مثلا لا نرى ما الذي يحدث بعد أن يذهب كارلوس مع ألكسندرا، بل يمكننا فقط أن نتخيل- وهذا التخيل لا يأتي إلينا إلا فيما بعد، قرب النهاية- فلابد أنه أخذها الى الكوخ حيث قتلها وعبأ لحمها في أكياس، فقد شاهدنا محاولته القيام بهذا الفعل مع شقيقتها “نينا”. وهو يعترف لنينا في النهاية بحقيقته بكل صراحة وكأنه لم يعد يقدر على الصمت أكثر من هذا، كما يعترف بما بقتله شقيقتها، لكنه يتوقف دون أن يعترف أيضا بأنه يحبها. فهو يدرك أنها علاقة حب مستحيلة، وهذا هو في الحقيقة موضوع الفيلم، اي أنه فيلم عن قصة حب في بين اثنين ليس من الممكن أصلا أن يحدث اللقاء بينهما. فهو ذلك “الحب المستحيل”!
“كانيبال” أخيرا.. درس في السينما الجميلة، لكل من يرغب في أن يشاهد، ويتعلم.