“قبل زحمة الصيف” مواجهة النقص واكتمال الجمال
تجتذب العزلة وأجواؤها تلك النفوس الفارة إلى نفسها وربما منها عبر مساحات الفراغ التي تحتمل أثقالها النفسية وضجيجها الداخلي ، تلجأ لها للتنفيث عن صرخة أو ضحكة أو دمعة أو جنون ولو لفترة قصيرة قبل الاشتباك مع إيقاع الحياة من جديد أو ” قبل زحمة الصيف ” وهو اسم الفيلم الجديد للمخرج محمد خان الذي عرض في الدورة الخامسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية والذي يستعرض نماذج لهذه الحالة.
الفيلم نستطيع وصفه بالحالة أكثر منه بقصة ذات عقدة أو حل، وهو يعد من أفلام المكان الواحد حيث تدور أحداثه بالكامل خارج القاهرة في قرية سياحية في الساحل الشمالي قبل فصل الصيف كما يبين إسمه ، فالفيلم الذي وضع فكرته محمد خان وكتبت السيناريو له غادة شهبندر تجتمع شخصياته القليلة بشكل مقصود ليبدو الفراغ المكاني بشكل أوضح يتيح تأملا وتركيزا أكبر على الواقع النفسي للشخصيات وعالمها اللذين يقوم عليهما بناء الفيلم لا على الأحداث ، لكن المشكلة أن هذا الواقع النفسي لم ينجح تماما في شغل الحيز المفرد له، فهناك فراغ لم تملأه تفاصيل الشخصيات وإن رسمت بشكل جيد، فبدت أعماقها مرئية دون أن تلمس فقد بقيت مسافة ما بين المشاهد وأعماق الشخصيات التي لم تصل إليه أو يصل إليها وإن جُذب لتأمل ممتع لها لكنه تأمل أفقي، وظل الإحساس بنقصان شيء ما وعدم الاكتمال والتشبع ملازم للمتابع حتى النهاية.
الشخصيات في الفيلم خمس تجمع بينها خطوط مشتركة ربما تخفت عند شخصية “هشام” حيث أنه يعتبر الشخصية الثانوية بعكس الشخصيات الأربعة الرئيسية ، فالفرار والجوع النفسي أو الحرمان ثيمتان مشتركتان بين جميع الشخصيات بشكل أو بآخر، وهو ما يتماشى مع ما ألفناه في معظم أفلام محمد خان من ميل للشخصيات غير المتوائمة والمسكونة بالغربة والتي تكون مادة فيلمه الرئيسية، سواء يحيي في ” خرج ولم يعد ” الذي يفر من المدينة إلى الريف أو “هند وكاميليا” اللتان تلجآن إلى الأحلام لتحمل الواقع، أو منى في “زوجة رجل مهم” الهاربة من واقع زوجها إلى رومانسية عبد الحليم في عالم من اختيارها يجهل أبجديات واقعها وهو نفس الأمر مع نجوى في “في شقة مصر الجديدة” تلك الشخصية البيضاء الخارجة عن الزمن السريع القاسي والتي تحمل قيمها الخاصة التي تدفعها لخوض رحلة بحث حثيث في مدينة أخرى عن معلمتها التي علمتها الموسيقى .
أعماق جائعة
الطبيب يحي وماجدة زوجان من سكان شاليهات الصف الأول في القرية ، حيث الموقع في القرية بمثابة بطاقة الهوية، كلاهما هاربان إثر مشكلة طبية وقانونية في مستشفى يحيي الخاص بسبب استعانته بأطباء قليلي الخبرة ، يحي (ماجد الكدواني) شخص مرح فضولي يحب الطعام وطهيه ويهوى التلصص ومراقبة النساء دون الإساءة لهن، ليبدو الأمر كما لو كان يعوض نقصا ما ألمح له الفيلم في علاقته بزوجته البدينة ماجدة (لانا مشتاق) التي تعاني هذا التباعد الزوجي وسلوكيات زوجها في صمت وصبر مع عدم رضاها عن نفسها أو تصالحها معها وتعوض ذلك بالشيكولاتة ليلا وتمرينات اليوجا والتأمل أملا في السلام ، مدام هالة (هنا شيحة) امرأة شابة مطلقة جميلة وشديدة الأنوثة تعمل مترجمة وهي من سكان القرية لكن في الصف الثالث فالطبقات موجودة حتى في الطبقة الواحدة ، شخصية محبة للحياة لكننا نلمس جوعها العاطفي الكبير واحتياجها الجسدي في تهافتها ومبادرتها في علاقتها بحبيبها هشام (هاني المتناوي) الممثل المغمور الأربعيني الذي لا توازي وسامته كرجل جمالها كامرأة ويبدو أقل حبا واهتماما بها والذي يعوض بدوره إحساسه بالنقص المهني والاجتماعي برغبات النساء الجميلات والتي تعد هالة إحداهن بالنسبة له بينما هو الرجل الوحيد لها رغم إعجاب الجميع بها.
والحقيقة أننا رغم ما رأيناه من مظاهر ترينا أنها تحبه وأن الأمر ليس علاقة جسدية فقط لكن غياب تفاصيل ونشأة هذه المشاعر وعدم الوصول لرسم لأعماقها ومشاعرها بشكل مقنع أدى بالمشاهد تلقائيا لنفس النتيجة التي حاول نفيها الفيلم عن بطلته فلم يبق أمامه من تفسير لهذه العلاقة سوى العلاقة الجسدية، أما جمعة (أحمد داوود) فهو جنايني شاب في فترة التجنيد يقوم بتوفير احتياجات وطلبات سكان القرية، يفتن بهالة ويرى في جمالها وأنوثتها نموذجا لحلم جميل يتمناه فيتتبعها طوال الوقت ويشتهيها في أحلام يقظته التي يترك لها العنان ليكشف ذلك مزاوجة بين الكبت والتطرف حيث سبق لهذا المغرم بمراقبة هالة وأنوثتها وأن تصدى بعنف لاثنين من الأجانب يمارسان الحب على الشاطىء.
شاعرية الصورة والأجواء
وبينما يستعرض الفيلم شخصياته وخطوط أزماتها كان هناك معادل بصري مواز لحالة الجوع والحرمان التي تتحول مع الوقت إلى صراع بقاء أسسه خان من خلال لقطات القط المتربص بالببغاء داخل القفص والببغاء المتحفز للدفاع والتي انتهت بفتك القط أو القطط بالببغاء، وهي لقطة لم تنتهك شاعرية الفيلم التي بناها خان فكل ما رأيناه كان ريشا متناثرا، فقد تمكن خان برشاقة فنية معهودة من خلق حالة شاعرية عامة للفيلم بأجواء شتوية معتدلة بتنوعاتها من شمس هادئة وليل هادىء ومطر.. جو عام يلائم حالة العزلة وما تستدعيه من إصغاء للذات وبوح نفسي ويحتوي الآهات الفارة دون مبالغة أو بكائية .. فرغم عالم الشخصيات المتعب المضطرب إلا أن حب الحياة يلازمها ؛فيحي رغم حالة الحرمان يحتفي بالطعام وطهيه وبلذة تجاذب الأحاديث.. دائم الضحك والابتسام ، وجمعة رغم قسوة حياته وظروفه المادية وحلمه المحبط بهالة أيضا دائم الابتسام والرضا، أما هالة فبرغم إحباطها من هشام وقسوة جارتها ماجدة معها تنطلق بعجلتها غير عابئة بقادم أو آت في لقطة رائعة الجمال قادرة أن تسكن الذاكرة وقتا طويلا، فالفيلم برونق وحساسية كاميرا فيكتور كريدي ممتع بصريا وحسيا بدرجة كبيرة رغم سلبياته ..فالكادرات مؤسسة جماليا وتشكيليا والصورة تسعى لإيقاظ كل الحواس ودغدغة الشهية للحياة بما فيها لقطات الطعام مع استعراض هادىء متأنٍ لكل شيء بتلذذ واحتفاء بالجمال والأنوثة والحياة رغم أحاسيس الوحدة والحزن والحرمان والإحباط.. ليأتي الصيف وتستأنف الحياة وحتى المرح بآلية تخشى يقظة الذاكرة الداخلية ولا تجد وقتا للنظر في الأعماق .. وكأن الفيلم إطلالة قصيرة على قاع نهر لا يقترب ولا يُرى إلا في ضوء قمر شتاء هادىء قبل الصخب وزحمة الصيف .