في مهرجان القاهرة السينمائي: التاريخ والهوية في فيلم “داهومي”

الفيلم الأفريقي مشغول، بشكل عام، بتصفية الحساب مع التاريخ الاستعماري في أفريقيا السوداء. والسينمائيون الأفارقة يحاولون دائما، فهم العلاقة مع هذا الماضي، ومن الناحية الأخرى، العلاقة مع الأسلاف والتاريخ، بغرض الوصول إلى جوهر الهوية.

وهذا تحديدا هو الموضوع الرئيسي الذي كان يشغل بال المخرجة السنغالية “ماتي ديوب” Mati Diop وهي تصور فيلمها “داهومي” Dahomey الذي يعرض خارج المسابقة في مهرجان القاهرة السينمائي الـ45 وهو الفيلم الفائز بجائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين السينمائي هذا العام.

 الفيلم من النوع الوثائقي، ويقع في 68 دقيقة فقط، ويتميز بصوره الجميلة الخلابة، وموسيقاه المعبرة، وتلك العلاقة البديعة التي صنعتها المخرجة من خلال المونتاج، بين الصوت والصورة، أي بين التعليق الصوتي الذي أكسبته طابعا شديد الخصوصية، بعد أن أضفت على التماثيل القديمة المستعادة حساً إنسانياً، وجعلتها تنطق بلسان الشعوب التي عانت من الاستعمار.

مناقشات طلاب الجامعة فتحت الكثير من القضايا المسكوت عنها

يستند الفيلم على ما حدث في نوفمبر 2021، عندما شحنت 26 قطعة أثرية من تماثيل الملوك، من متحف فرنسي، لتعود إلى بلدها الأصلي في جمهورية بنين، بعد أن كان الاستعمار الفرنسي قام بنهبها في أواخر القرن التاسع عشر عند احتلال البلاد التي أصبحت تعرف باسم بنين، وشحنها إلى فرنسا ضمن سبعة آلاف قطعة أثرية نادرة. أما “داهومي” فهي المملكة الساحلية التي كانت تقع في قلب بنين، وكانت تتميز بالقوة وبشجاعة محاربيها من النساء، وظلت قائمة لمدة 300 سنة.

في البداية نشاهد جميع القطع الأثرية في مكانها داخل متحف “رصيف برانلي” على الضفة الجنوبية لنهر السين في باريس. الكاميرا تركز على تمثال معين يتم التعامل معه بحرص شديد، فهو يتميز بالهيبة والوقار. إنه تمثال الملك غيزو الذي كان يحكم مملكة داهومي حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي في ذروة مجدها وقوتها.

القطع الأثرية تغلف وتوضع داخل صناديق خاصة بحرص شديد حتى لا تتعرض للكسر أو للخدش، ومعظمها مصنوع من الخشب مع بعض المواد المعدنية الخفيفة والألياف. إنها ستصبح بعد قليل في الطريق إلى بلدها الأصلي. هنا يبرز على شريط الصوت، صوت يبدو كما لو كان قادما من أعماق التاريخ. إنه صوت الملك غيزو نفسه، الذي يخاطبنا كما لو كان قد عاد إلى الحياة، مبديا غضبه على احتجازه طيلة تلك السنين الماضية في ذلك “الكهف” البدائي فيما يسمونه “العالم المتحضر”!

طالبة جامعية ترى أن استعادة القطع الـ26 بداية يمكن أن يعقبها استعادة القطع الباقية

من هنا تبدأ الرحلة، مع تمثال الملك غيزو وغيره من القطع الأثرية النادرة، ويمتد شريط الصوت، يزودنا بالكثير من المعلومات مع أصوات تبدو كالأنين، أو صيحات الاحتجاج والشجب والإدانة، كلها باللغة المحلية القديمة التي كانت سائدة في مملكة داهومي ومازال قطاع من السكان في بنين يتكلمها. هذه اللغة تعرف بلغة “الفون” fon ونحن نتابع ما يقال بها من خلال الترجمة المطبوعة على الشريط السينمائي، ورغم ذلك، يظل لها وقع خاص، فمن خلال هذا التغريب الصوتي، يكتسب الفيلم تأثير الرهبة والسحر.

لن يكون تمثال الملك “غيزو” هو الوحيد الذي يتكلم ويعبر لنا عن مخاوفه وهواجسه بعد أن بقي طوال تلك السنين في “الأسر”. إنه أولا، يعترض على تسميته برقم (26)، أي آخر أرقام القطع الأثرية، ويتساءل لماذا لا يسمى باسمه الحقيقي؟، لكن هناك غيره أيضا من تماثيل الملوك والمحاربين، مثل الملك بيهانزين والملك جيليه، ومنهم من يتخذ رأسه في التمثال شكل رأس حيوان، أو كائن بحري أسطوري، جريا على عادة القبائل الأفريقية القديمة.

هناك نوع من الروحانية تصبغ هذا العمل، وكثير من الشعر في الكلمات والعبارات التي تروي وتتحدث وتنطق كما لو كانت تنطلق من “روح” قديمة، قلقة، تتساءل عما سيحدث لها وعن مصيرها القادم، عندما تعود إلى بلدها، كيف ستُستقبل، وما إذا كانت الأجيال الجديدة من شباب اليوم يمكنها أن تتقبلها وتتعايش معها وتفهمها وتفهم تاريخها بعد كل ما وقع في البلاد من تغيرات خلال سنوات الاستعمار الفرنسي، وأولها، فقدان اللغة الأصلية بعد أن حلت اللغة الفرنسية في مكانها، وهو نوع آخر من الاغتراب.

من البداية يصاحب هذه الآثار القديمة عالم متخصص، هو الذي يشرف على تغليفها ووضعها داخل الصناديق، وتحميلها ثم نقلها، وعندما تصل الى عاصمة بنين، يقوم بتسجيلها في كتالوج خاص. إنه يتعامل معها باعتبارها تجسيدا لملوك الماضي ومحاربيه ودياناته، ينحني أمامها في تبجيل واحترام.

الفيلم صور على مدى ثلاث سنوات من وقت انتشار وباء الكوفيد

رغم تلك الهالة من التبجيل والاحترام بل وتقديس الماضي والحرص على استعادة لغته أيضا، مع استخدام الموسيقى الإلكترونية التي تبدو كما لو كانت صادرة من أعماق التاريخ، فلسنا أمام أحد أفلام الدعاية، أو مجرد فيلم يحتفي باستعادة بعض القطع الأثرية المنهوبة، فلو اقتصر الأمر على هذا الجانب المباشر، لما كان الفيلم ليثير كل ما أثره من اهتمام وتقدير. إن “داهومي” يكتسب أهميته من معاصرته الشديدة، من كونه يتوقف أمام الماضي، لكي يفتح كل جروح الماضي والحاضر.

يتضح هذا في المشهد الطويل المفصلي في منتصف الفيلم. هذا المشهد الذي يدور داخل إحدى قاعات جامعة “أبومي- كالافي” في بنين، نظمه صانعو الفيلم، وحرصت المخرجة على أن يأتي متميزا بقدر كبير من التلقائية في النقاش، مع تصوير جميع الآراء المتعارضة في جو ديمقراطي منفتح تماما.

هناك من بين الطلاب الذين يتكلمون، من يعتبر استعادة القطع الـ26 “إهانة وحشية” فأين باقي القطع، آلاف القطع الأخرى؟ وهل الأمر مجرد ضحك على الذقون للادعاء من جانب الفرنسيين أنهم يحترمون تراثنا؟ أم هي وسيلة من جانب الحكام المحليين لادعاء الجدية في استعادة الآثار في حين أن المسألة لا تعدو مجرد إيماءة رمزية لا معنى لها؟    

هناك من يرى أن الحدث يدل على رغبة فرنسا في التغطية على ما تواجهه الحكومة من مشاكل في الداخل. وهناك فتاة تعتبره نجاحا أوليا يتيح الفرصة لفتح نقاش جاد حول الهوية الوطنية والفترة الاستعمارية ولابد أن تعقبه ضغوط أخرى لاستعادة باقي القطع المنهوبة من فرنسا. وهناك امرأة تعرب عن شعورها بالاستلاب لكونها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها سوى بلغة المستعمر، أي الفرنسية، “فكيف نتكلم عن الهوية من دون اللغة الوطنية؟”. وتصرخ امرأة أخرى في غضب: “قيل لي إنني من نسل العبيد، لكنني أنتمي إلى الأمازون” وتكرر عبارتها مرات عدة.

تركز المخرجة السنغالية على موضوع العبودية، وتتطرق لازدهار تجارة الرقيق وكيف أن داهومي نفسها صنعت مجدها وقوتها العسكرية في فترة ما، من استعباد الشعوب المجاورة والمشاركة في تجارة العبيد. ويتوقف الفيلم أمام تمثال ضخم للملك محاطا بتماثيل صغيرة تمثل تجارة الرقيق.

الملك غيزو هو الذي يختتم الفيلم بكلماته التي تقول: “أنا وجه الميلاد الجديد، سأعود وأسير على شواطيء الجرح.. والآن لم يعد للرقم 26 وجود. وفي داخلي يتردد صوت الأبدية”. 

يثير فيلم “داهومي” رغم قصر مساحته الزمنية، الكثير من الأفكار، عن الماضي وعلاقته بالحاضر، عن العلاقة الملتبسة بالماضي الاستعماري وبالدولة الاستعمارية أي فرنسا، وعن مغزى الاستقلال، وهل تحقق فعلا، وهل يكفي أن نستعيد رموز التاريخ أم أن من الضروري أيضا مواجهة التاريخ، تاريخنا، بما فيه من سلبيات وشوائب؟!

كانت مفاجأة أن يعرض هذا الفيلم داخل مسابقة مهرجان سينمائي كبير كمهرجان برلين السينمائي الدولي، لكن المفاجأة الأكبر تمثلت في فوزه بالجائزة الكبرى- الذهبية للمهرجان، التي توجت، للمرة الأولى، مخرجة سوداء من أصول أفريقية، بهذه الجائزة الرفيعة.

تقول المخرجة ماتي ديوب عن تجربتها في الفيلم: “ما يميز الفيلم الوثائقي عن الخيالي هو قبل كل شيء، عملية الكتابة.. وعلاوة على حاجتي الملحة لإخراج هذا الفيلم بعد فيلمي السابق “أتلانتيك”، كنت بحاجة إلى إعادة تجربة عملية الكتابة والتصوير الحر، بدلاً من تجربة العمل في فيلم خيالي. إنني أحب التحرر من التقاليد المتعلقة بالشكل، وأحب فكرة إعادة اكتشاف أسلوبي خلال الكتابة مع كل فيلم. لقد تصورت فيلمي السابق “أتلانتيك” كـ”حكاية قوطية”. أما “داهومي” فهو “فيلم وثائقي خيالي”، وإذا خرج الناس وهم يتساءلون عما رأوه للتو، بعد أن مروا بتجربة فريدة (مع الشعور بنوع من المشاعر بالطبع)، فإنني سأشعر بأنني ساهمت في جعل السينما أكثر إثارة للدهشة والابتكار. وهذا أيضًا ما أتوقعه شخصيا من أي فيلم. في الأفلام الوثائقية، تعتبر الكتابة، في المقام الأول، وجهة نظر إزاء الناس والعالم. والكتابة تبدأ باستخدام لغة السينما التي تترجم علاقتك بالعالم وبالآخرين وبنفسك”.

الصور

  1. المخرجة ماتي ديوب في مناقشة فيلمها في مهرجان برلين
  2.  ماتي ديوب تحمل جائزة “الدب الذهبي”
Visited 14 times, 1 visit(s) today