في “الحياة كما عشتها”.. أمير العمري يحكي ويسأل ويندهش
محمد الروبي
يومان من المتعة الخالصة قضيتهما مع كتاب الصديق الناقد أمير العمري في كتابه “الحياة كما عشتها.. أحداث ومواقف وشخصيات”، الذي أهداني إياه في لقاء نحرص عليه كلما عاد من لندن، حيث يقيم، ليقضي في القاهرة بضعة أسابيع، ثم يعود إلى مدينة الضباب.
كتاب أمير العمري ليس مذكّرات بالمعنى التقليدي، ولا مجرد سردٍ لمواقف مرّت، بل هو محاولة نادرة لجعل التجربة الثقافية والسياسية والفنية مادة حيّة، حادة، نازفة بالأسئلة والدهشة والخذلان.
منذ السطر الأول، أخذني العمري أخْذًا جميلًا. فهو يكتب بجرأة الشاهد، لا بحذر المؤرخ.
لا يتجمّل، ولا يجامل، يمرّ على طفولته في مدينة المنصورة، وعلى علاقته بأبيه وأمه، وعلى عشقه المبكر للفنون، خاصة السينما والموسيقى، ثم كيف دُفع دفعًا لدراسة الطب، فمارسه بجدية تليق بمهنة تُعنى بحياة البشر. ومن هناك، إلى سنوات القاهرة، والاشتباك المبكر مع الصحافة، ثم إلى لندن، حيث المنفى الاختياري والنافذة الأوسع على العالم.
كتاب (أمير العمري) – رغم حجمه الكبير نسبيًا – لا يُجهدك، بل يأخذك كما تأخذك الأفلام التي لا تُنسى بمشاهد متتالية، بأصوات في الخلفية، وبعين ناقد لا تفوته التفاصيل.
السينما بوابة العالم
من يعرف (أمير العمري)، يدرك أن السينما بالنسبة له لم تكن يومًا هواية، بل نافذة لفهم العالم وتفكيكه، من مقاعد المهرجانات الأوروبية إلى قاعات عروض القاهرة، ظلّ وفيًّا لفكرة أن الفيلم ليس سلعة، بل سؤال.
وحين تولّى رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي، لم يدخل كموظف، بل كـ (سينيفيل) يحمل رؤية، ورغم ما واجهه من ضغوط ومؤامرات إدارية، ظلّ يكتب عن معشوقته بشجاعة ودون تجميل: (هكذا حاولوا وأفشلوني… وهكذا قاومت).
لكتاب لا يخلو من حكايات عن لقاءات نادرة مع سينمائيين كبار، مصريين وعرب وأجانب، ومع مسؤولين حكوميين، أو حتى مع مفكرين وفنانين من أجيال مختلفة. بعضهم أنصفهم الزمن، وبعضهم لم يُنصفه إلا هذا الكتاب.
لقد قرأت هذا الكتاب وكأنني أستمع إلى حكّاء خبير، لا يريد أن يُقنعك، بل أن يترك أثرًا في روحك.. فثمة خطّ دقيق يمرّ في الكتاب كله، هو خطّ المثقف المستقل، ذاك الذي لا يهادن سلطة، ولا ينخرط في شللية، ولا يبيع كلمته.
(أمير العمري) لا يتحدث كضحية، بل كمن مرّ بتجارب مريرة، واختار أن يواجه الكذب بالكتابة، يحكي عن المنافي الثقافية، عن الذين انقلبوا على مبادئهم، عن كيف أصبحت الثقافة الرسمية (مجرد واجهة)، لكنه لا يكتب ذلك بحنق، بل بنوع من التسامح الحزين الذي لا ينفي الغضب، بل يروّضه.
فصل الشجاعة

ربما لا يُكتب التاريخ الحقيقي للمهرجانات والفعاليات الثقافية في العالم العربي إلا على صفحات من نفيٍ وتحايل، إلا أن (أمير العمري)، في فصل (الصراع على مهرجان القاهرة) – والذي أصفه أنا، صادقًا، بـ (فصل الشجاعة) – يقرر أن يكتب الصفحة كما كانت: بالأسماء، بالمواقف، وبأعصاب مكشوفة.
في هذا الفصل، يتخطّى (أمير العمري) دور الناقد، ليصبح مؤرّخًا للمؤامرة، وصاحب رواية من الداخل. يحكي عن كواليس تعيينه رئيسًا لمهرجان القاهرة السينمائي، عن تطلعاته الإصلاحية، عن البنية الفاسدة التي واجهها.
ثم عن الانقلاب الناعم الذي تمّ ضده بتواطؤ إداري-ثقافي معلن. لا يُوفّر أحدًا من النقد، لا صديقًا ولا خصمًا، ويذكر أسماء صحفيين ونقّاد ومسؤولين، ويشرح أدوارهم بجرأة (يُحسد عليها) فعلًا.
لكن الأعظم من ذكر الأسماء، هو الطريقة التي يفكك بها العلاقة بين الثقافة والسلطة، بين الفنان والبيروقراطي، بين الموهبة والتعيين. فما يبدو للقارئ على السطح كمعركة على منصب، يتكشّف سريعًا أنه معركة على جوهر الثقافة نفسها: هل تُدار بالإخلاص؟ أم بالمحاباة؟ هل المهرجان مساحة للإبداع؟ أم دكّان للمجاملات؟
في هذه الصفحات، نسمع صوت رجلٍ لم يُكسر، وإن مُنع لم يُهادن، وإن هُوجم. يكتب لا لكي ينتقم، بل لكي يُضيء الطريق أمام من يأتي بعده.
الحياة كما عشتها هو شهادة جيل، وتأريخ لمعارك لم تُكتب، وملاذٌ صادق نلجأ إليه حين تضيق الثقافة الرسمية، ويضيع الحبر النظيف.
هو ليس كتابًا عن (أمير العمري)، بل عن جيل كامل من المثقفين العرب الذين حاولوا أن يكونوا أحرارًا وسط أنظمة لا تحتمل الحريّة، ولا تصنع إلا صدى الصوت الواحد.
نصيحتي لكل شاب عاشق للسينما، وللثقافة بمعناها العام، أن يقتني هذا الكتاب ويقرأه بتمعن. وحينها سيكتشف أنه امتلك سراجًا سينير له طرقًا متعرّجة سيخوضها حتمًا في تلك المدينة المسماة بالثقافة.. معنىً وأروقة.
المقال نشر أولا في موقع “المشهد”شهريار”
