“شعر بلا حدود” جعبة الساحر التي لا تنضب

لقطة من فيلم "شعر بلا حدود" لقطة من فيلم "شعر بلا حدود"
Print Friendly, PDF & Email

في عام 2016، عاد الساحر الأسطوري، المخرج السينمائي الكبير أليخاندرو خودوروفسكي (91 سنة) إلى مهرجان كان ليعرض الحلقة الثانية من سلسلة أفلامه الخمسة التي شرع في إخراجها قبل عد سنوات، لكي يروي فيها قصة حياته الثرية التي امتدت عبر تجارب وحقب مختلفة التقى خلالها بالكثير من العمالقة في مجالات الفنون المختلفة، كما عاش حياة صاخبة خبر خلالها الكثير من الفنون، وانتقل من التعبير بالشعر إلى الرّسم، ومنه إلى السيرك، ثم إلى المسرح، فالتمثيل الصامت (البانتوميم)، ثم إلى تأليف الكتب المصورة، وأخيرا السينما التي جعلها كما لم تكن من قبل.

يبدأ فيلم “شعر بلا حدود” Endless Poetry من حيث انتهى فيلم خودوروفسكي السابق “رقصة الواقع″ (2013)، فنحن أمام “أليخاندرو” الصبي الصغير، الذي يعاني من صرامة والده المتزمت “خاييم” (يقوم بدوره “برونتيس″ الإبن الأكبر لخودوروفسكي)، الذي يريده أن يدرس لكي يصبح طبيبا، بينما تتجه ميول الفتى نحو الشعر بعد أن يكتشف “لوركا”، يريد أن يصبح شاعرا بل لقد اتخذ بالفعل قرارا بأن يصبح شاعرا، وما الفيلم سوى سرد سينمائي بديع لرحلة أليخاندرو مع عالم الشعر. قراره هذا يعرضه لعقاب شديد من جانب أبيه الذي يصم الشعراء جميعا بالشذوذ الجنسي. أما الأم (تقوم بدورها مجددا باميلا فلوريس)، فهي تعبر بالأداء الأوبرالي الرقيق، حتى وهي تردّ على الهاتف، في تعارض مقصود مع الأب بخشونته وفظاظته وقسوته التي ستترك ندوبا في ذاكرة المبدع سيحاول بصعوبة أن يتجاوزها.

في المشهد الأول من الفيلم يصور خودوروفسكي كيف يقوم عمال الديكور بوضع نماذج خشبية ضخمة تغطي واجهات المنازل الحديثة في الشارع الذي كان يقطن فيه في مدينة سانتياغو، وهو مشهد يلغي الاندماج، ويتجه نحو التغريب حسب منهج بريخت. وهذا الأسلوب في التغريب البريختي يدعمه خودوروفسكي أكثر بظهوره بنفسه بصورته الحالية، بشعره الرمادي وعينيه اللتين تشعان بجنون العبقرية وحب الحياة (سبق أن صرح بأنه سيعيش 130 عاما)، لكي يقف بجوار الممثل الصغير الذي يقوم بدور ابنه في طفولته (وفيما بعد في شبابه)، يوجهه ويعلق على ما يقوم به، يتطلع أحيانا إلى الكاميرا مباشرة ليروي للجمهور بما يربط بين الأحداث.

يخصص خودوروفسكي قسما من فيلمه لكي يعبّر عن علاقة الصداقة التي جمعته بقريبه الشاب المثلي الذي اقترب من أليخاندرو وحاول إقامة علاقة جنسية معه لكن صاحبنا يقول له إنه رغم حبه له إلا أنه “لا يسلك هذا الطريق”، أي أنه ببساطة لا يميل إلى الجنس الآخر بل يعتبر ما بينهما مجرد صداقة فقط، ولكن دون أن يمانع من تلقّي قبلة وداع على شفتيه قبل أن يفترقا إلى الأبد.

رؤية متمردة

أليخاندرو خودوروفسكي.. ذلك المتمرد العظيم على السينما التقليدية، يبدو في سرياليته أقرب إلى عالم فرويد منه إلى عالم بونويل. فهو ليس كبونويل مهموم بنقد المؤسسة الدينية منطلقا في رفضه لها من معاناة داخلية عميقة ترتبط ببحثه المعذب عن اليقين الروحي، فهو قد توصل مبكرا إلى رفض اليهودية كمعادل لرفض القيود التي تحد من حريته في البحث والمعرفة والتعبير الحر المفتوح، وسرياليته إذن ترتبط أساسا بالشعر، برؤية للعالم ترفض قيود الزمان والمكان، تسبح في الطبيعة، تؤمن بالتجربة الإنسانية، تتحرر من الموروث، وترى في الشعر: بالكلمة أو بالصورة، أكثر أشكال التعبير تحررا من القيود.

لذلك ليس من الممكن محاسبة فيلم “شعر بلا حدود” إلا باعتباره شعرا سينمائيا وعملا ينتمي للسينما الخالصة التي يعبّر فيها الفنان عن رؤيته من خلال تداعي الصور واللقطات، واقتناص لحظات من الماضي، والقفز بين الأزمنة، وبين الشخصيات، واستخراج الصور من بين ثنايا الذاكرة، والمزج بين الصورة والموسيقى، وبين الأحلام والكوابيس، وبين الخيال والواقع، وبين الرغبة والمكبوت، والانتقال من الأسرة إلى الفرد، ومن الوطن إلى العالم.

إنّه يصور في مشهد بديع في وقت مبكر من الفيلم، عودة الجنرال إيبانزا إلى تشيلي عام 1932 في موكب مهيب في حضور الآلاف من مؤيديه الذين يرتدون الملابس العسكرية ويرفعون الأعلام والشارات النازية. وهو مشهد ستكون له فيما بعد انعكاساته القوية على خودوروفسكي ورحلته في الحياة.

تأثير فيلليني

يتأثر خودوروفسكي بوضوح في الكثير من مشاهد فيلمه بالمخرج الإيطالي فيلليني، في تصوير أجواء السيرك، وولعه الخاص بتصوير المرأة ذات التكوين الجسدي الغريب التي يغطّي الوشم جسدها وهي هنا الشاعرة البدينة “ستيلاالتي تجعلنا نستعيد إلى الذاكرة شخصية “الساراغينا”، تلك المرأة البدينة المغوية، التي مرّ معها بطل “غويدو” فيلليني في “8 ونصف” أثناء مراهقته، بالتجربة الجنسية الأولى. لكن على العكس من الساراغينا “المحترفة” عند فيلليني، نرى “ستيلا” شاعرة، يعتبرها أليخاندرو “العذراء” التي بشّره بها خياله الخاص في البداية عندما حلق طائر يزقزق فوق رأسه. و”ستيلا” ترتدي باروكة من الشعر الأحمر، ترسم حاجبيها بما يتناسب مع شخصيتها القويّة الطاغية التي يمكن أن تلجأ أحيانا إلى العنف، تقول له إنها عذراء ولكنّها ستمارس معه كل أشكال الجنس ولكن مع المحافظة على عذريتها التي ستمنحها فقط للفارس الذي تنتظر مجيئه عندما سيهبط إلى المدينة من الجبل.

أليخاندرو سيصبح مجرد رفيق درب لها، تهيمن عليه بشخصيتها القوية، تقوده إلى معرفة عالم الشعراء البوهيميين، ومعا سيغشيان كل ليلة مقصف “أريس”. تقول له ستيلا إنها ستقبض دائما على عضوه الذكري كلّما سارا معا في الطريق. وهذا ما يحدث بالفعل إلى أن يأتي وقت ويتحرر أليخاندرو من سطوة “ستيلا”.

في الفيلم الكثير من الأقزام والمعوّقين والهياكل العظمية وأشكال تشبه الشياطين والطّيور الغامضة والشعراء الفوضويين والرسّامين المجانين وكاهن يهودي يفتح الكتاب المقدّس ليخرج منه مجموعة من السيجار الفخم يقدّمها لمن يشاركونه لعب القمار داخل منزل جدة أليخاندرو قبل أن يتحرّر من قيد العائلة. وفي مشهد هائل بتكويناته الحركية واللونية، نشاهد حشدين من البشر خلال كرنفال في المدينة، الحشد الأول لرجال على هيئة هياكل عظمية، والحشد الثاني لرجال يرتدون الملابس والأقنعة الحمراء. الحشد الأوّل يتدفّق من شارع يلتقي مع الشارع الثاني عند رأس مثلث ويتدفّق منه رجال الهياكل العظمية ثم يلتقون جميعا ويختلطون مع من يرتدون الملابس الحمراء ويحيط الجميع بكائن رقيق يرتدي الملابس البيضاء ويفرد ذراعيه في الهواء كأنه الملاك الذي هبط لتوّه من السماء. إنها صورة خيالية من ذاكرة خودوروفسكي الخصبة من طفولته، عن الخير والشر والموت.

ينتقل الفيلم في الزمن إلى الأمام، بعد أن يكبر أليخاندرو ويصبح شابا (يقوم بالدور “أدان” الابن الأصغر لخودوروفسكي) يتمرد على الأسرة ويخرج عنها ليعيش في كنف ستيلا أولا قبل أن يمنحه رسام فرنسي مرسمه ويرحل عائدا الى بلاده، ويأتينا صوت خودوروفسكي يقول لنا إنه كان يفضل الشاعر “نيكانور بارا” على بابلو نيرودا، وإنه يعتبره أعظم شعراء أميركا اللاتينية، ونشاهد كيف يقيم علاقة صداقة مع الشاعر، وكيف يراه قبل موته وهو الذي كان في الوقت نفسه أستاذ رياضيات في الجامعة.

يعيش أليخاندرو حياة بوهيمية يدعو أصدقاءه الشعراء والرسامين إلى مرسمه، ثم يلتحق بالسيرك، كمهرج، لكنه يرفض دور المهرج ويعلن نفسه كشاعر على الملأ، فيتجرد من ملابسه ويقف عاريا تماما أمام الجمهور فهو يريد أن يتم تعميده كشاعر.

تعليق على الدكتاتورية

يصور خودوروفسكي أيضا علاقته بالشاعر التشيلي “إنريك لين” الذي يخوض معه مغامرة مجنونة عندما يقرران السير في خط مستقيم يقطعان المدينة ويصرّان على الخوض داخل أماكن خاصة محظور دخولها، ثم يطرقان باب منزل ويقنعان صاحبته بأن تتركهما يواصلان السير داخل المنزل حتى يقفزا من النافذة ويواصلان السير في الخط المستقيم، ويقول أليخاندرو للسيدة إن التاريخ سيذكرها، وكلها نزوات صبيانية من فترة المراهقة كانت تلهب خيال خودوروفسكي. وتستند فكرة السير في خط مستقيم إلى فكر “جماعة الخط المستقيم” التي تكوّنت في التشيلي، وكانت تؤمن بأن “الشعراء يمكنهم أن يفعلوا ما يشاؤون”. وكان ذلك مع وصول الجنرال كارلوس إيبانز ديل كامبو إلى الحكم للمرة الثانية عام 1952.

إيبانزا الذي سبق أن شاهدناه في “رقصة الواقع″ والد أليخاندرو (خاييم) يحاول اغتياله دون نجاح، سيصبح هو الحاكم المطلق لتشيلي بعد أن يحصل على دعم الأحزاب اليسارية، وهو ما يثير حنق خودوروفسكي بشدة، وفي مشهد سريالي يقف في مواجهة جموع الزاحفين من أنصار الجنرال، يصرخ فيهم ويصبّ اللعنات عليهم بسبب اختيارهم، بينما لا يلتفت إليه أو ينصت إليه أحد، كما يواصل الجنرال السير فوق صهوة جواده في خيلاء وصلف، دون أن يلقي بالا لذلك الشاب الذي يقف عكس التيار.

تقول وقائع التاريخ السياسي التشيلي إنه في تلك الفترة عاد الجنرال إيبانزا ليكسب الانتخابات الرئاسية ويعود رئيسا للبلاد بدعم وتأييد حزب العمال الاشتراكي الشعبي (اليساري) بينما لم يكن يحظى في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين سوى بتأييد جماعات النازيين والفاشيست، وقد سبق له تدبير محاولات انقلابية عدة على الديمقراطية لكنها باءت بالفشل، وقد أثار نجاحه أخيرا حنق خودوروفسكي وفزعه، وأصبح سببا مباشرا لقراره مغادرة بلده إلى فرنسا التي يقيم فيها حتى يومنا هذا.

في المشهد النهائي من الفيلم، يهبط خودوروفسكي سلّما تغمره مياه البحر في طريقه لكي يستقل القارب الذي سينقله إلى السفينة الراسية قريبا والتي ستبحر به إلى فرنسا. تتبدى له صورة والده، الذي جاء لكي يصافحه قبل رحيله، ويقوم أليخاندرو بحلق شعر والده تماما ومحو شاربه الكث تماما، ثم يحتضنه في لقطة تخيلية، تعبيرا عن رغبته في الغفران والمصالحة التي لم تقع أبدا بين الأب والابن في أرض الواقع.

ولا بد من الإشارة إلى أن الفنان الثاني المشارك بشكل رئيسي في الفيلم هو مدير التصوير الأسترالي المرموق كريستيان دويل، الذي يستخرج كل ما في طاقته من مخزون بصري، لإضفاء الحرارة والحيوية على المشاهد التي يعبّر فيها المخرج عن مخزون الذاكرة، مستخدما الألوان الدافئة الصريحة، ألوان الأحلام والسحر والخيال الممتزج بالماضي: الأحمر والأصفر والأسود والأبيض، مع حركات الكاميرا الدائرية التي تلتفّ حول شخصيات الفيلم في لهوهم ورقصهم المتواصل.

تعتمد الموسيقى التي كتبها أدان خودوروفسكي على استخدام آلات القيثار والطبول والبيانو والتشيللو، في مزيج من الموسيقى الشعبية الراقصة التي ترتبط بالفترة الاحتفالية، وموسيقى السيرك، والموسيقى الكلاسيكية التعبيرية.

وكما ينتهي فيلم “رقصة الواقع″ برحيل البطل الصغير مع أسرته من القرية إلى المدينة، ينتهي “شعر بلا حدود” برحيل البطل الشاب، من سانتياغو إلى باريس، حيث سيبدأ مرحلة أخرى من حياته ينتظر أن يتم التعبير عنها في الفيلم القادم.

العلاج بالسينما

يقول خودوروفسكي عن فيلمه، وعن فكرة سلسلة الأفلام التي يريدها أن تروي قصة حياته بتفاصيلها الثرية، إنه لا يراها أفلاما “عادية” بل هي أفلام تتجاوز الطرق التقليدية، أي الاستعانة بممثلين وديكور وكاميرا. ويصف السينما التي يصنعها بأنها من نوع “السيكوماجيك”، ويقول إنه سبق أن أصدر كتابا بعنوان “مسرح العلاج”، وفيه يرى أن التعبير بالشعر هو أفضل وسيلة للعلاج، ويضيف أنه لا يعتبر الفن الذي لا يساهم في العلاج فنا، ويرفض بالتالي السينما التقليدية التجارية التي تقوم على مبدأ التسلية الهروبية.

ولكن من الذي يفترض أن يعالجه الفن، أو في هذه الحالة، السينما؟ هل هو الجمهور؟ يجيب خودوروفسكي قائلا “كلا بالطبع لأن الجمهور لا وجود له، فهو مستلب بالأفلام الأمريكية التي تهدف إلى دفع المشاهدين الى الاسترخاء بشكل مؤقت، أما الأفلام الاجتماعية (سينما المخرجين) فهي تتناول مواضيع اجتماعية من خلال أفلام يصعب تسويقها للجمهور، ولكن مشكلة هذه الأفلام الاجتماعية أنها تصور قصصا عن الفقراء كما يرويها أناس من كبار الأثرياء، فهي بالتالي مجرد فانتازيا”. إذن من الذي ستعالجه هذه السينما التي يشير إليها؟ يجيب “”إنه أساسا صانع الفيلم، أي أنا، وبعد ذلك تأتي عائلتي، وفي المرتبة الثالثة الجمهور المفترض”!

Visited 59 times, 1 visit(s) today