“فيلم 3000 ليلة” لمي مصري: مأساة العيش في زمن الاحتلال
خلال نحو ثلاثين عاما أخرجت المخرجة الفلسطينية عددا كبيرا من الأفلام التسجيلية الجيدة التي اكتسبت سمعة جيدة في مهرجانات السينما العالية وفازت بعدد كبير من الجوائز، من أشهر هذه الافلام”زهرة القندول” (1986)،”أطفال جبل النار” (1991)، “أحلام معلقة” (1992)، “أحلام المنفى” (2001)، “يوميات بيروت” (2006).
كانت مي مصري في كل أفلامها التسجيلية تتعامل مع القضية الفلسطينية من زاويتيها السياسية والانسانية وبتركيز خاص على عالم المرأة والطفل. وهي تحاول في فيلمها الروائي الطويل الاول “3000 ليلة” الذي عرض بالدورة الـ 59 من مهرجان لندن السينمائي أن تمد هذه التجربة إلى مجال السينما الروائية، من خلال قصة امرأة فلسطينية شابة هي “ليال” تعتقلها قوات الأمن الإسرائيلية في نابلس (عام 1980) ثم يتم استجوابها بشأن تقديمها المساعدة لشاب فلسطيني أصيب في اشتباكات مع قوات الاحتلال الاسرائيلية، وقامت بنقله بسيارتها. ويصدر عليها حكم بالسجن لمدة ثماني سنوات، وتنقل الى سجن إسرائيلي شديد الحراسة، لتقيم مع مجموعة من الفلسطينيات، والإسرائيليات المحبوسات بموجب جرائم جنائية.
تتعرض ليال لكثير من الضغوط من جانب سجانة اسرائيلية لتقبل التعاون مع ادارة السجن في التجسس على زميلاتها السجينات الفلسطينيات، ومن بينهن “سناء” التي فقدت ذراعها الأيسر خلال إحدى العمليات، وهي الأكثر حنكة وخبرة بالسجن، وتتشكك من البداية في مسلك “ليال”. أما الاسرائيليات فمنهن مدمنة مخدرات، وقاتلة، وهي يبدين نحوها ونحو الفلسطينيات عموما مشاعر عنصرية واضحة. لكن ليال تنجح في اكتساب ثقة “شالوميت” الاسرائيلية اللصة المدمنة بعد أن تساعدها عند تعرضها لأزمة صحية، وسرعان ما تكتشف ليال أنها حامل ويتعين عليها انجاب طفلها في السجن، وتضع ليال ابنها “نور” الذي يكبر تدريجيا داخل المعتقل الاسرائيلي، وتزداد الضغوط عليها لكي لا تشارك في الاضراب الذي تنظمه السجينات الفلسطينيات احتجاجا على مذبحة صابرا وشاتيلا التي عرفن عنها من خلال قصاصة صحفية أتت بها “شالوميت” إلى ليال”، وعندما تحسم ليالي أمرها وتشارك في الاضراب ينتزع الحراس ابنها منها.
تباين الشخصيات
لاشك أن سيناريو الفيلم يحرص على تجسيد شخصيات متباينة، من المناضلة التي تبدو متشككة من البداية في سلوك ليال التي كادت تستسلم للضغوط الاسرائيلية تفاديا لانتزاع طفلها منها، و”رحاب” التي تقبل بالتجسس سعيا للخروج الى ابنائها الذين تركتهم وراءها في الخارج، إلى الفتاتين اللتين ترتبطان بقصة حب مع سجينين توأم يتلصصان عليهما من أعلا الحاجز الذي يفصل النساء عن الرجال في السجن. والسجينات.
ورغم محنة السجن، تصور مي احتفالات السجينات داخل السجن بالرقص والغناء، خاصة بعد مولد “نور”، كما تصور نموذجا إيجابيا لمحامية اسرائيلية تتولى الدفاع عن ليال، كما يظهر زوج ليال “فؤاد” في صورة الرجل الأناني الذي يبحث عن نجاته الشخصية في المهجر، فهو يتخلى عن زوجته وابنه ويهاجر الى كندا ثم يعود لكي يطلب الغفران من ليال ويحاول اقناعها بالاستجابة لما يُطلب منها لكي تخرج من السجن وتنضم اليه، ولكن الفيلم الذي يتخذ وجهة نظر “نسائية”أي يبدو قريبا أكثر من شخصية المرأة الفلسطينية وهو موقف عرفت به المخرجة مي مصري، يجعل بطلته ترفض الاستسلام للزوج، وينتهي الفيلم وقد تحررت من السجن، ومن الزوج.
في أحد المشاهد المصورة جيدا، تظهر ليال أمام المحكمة كشاهدة في محاكمة الشاب الذي اتهمت بمساعدته على الهرب، يسألها القاضي ما اذا كان قد هددها لكي تساعده، لكنها تنفي ذلك، رغم ان اقرارها بذلك كان سيكفل خروجها من السجن. وفي لقطة فرعية نشاهد زوجها فؤاد بين صفوف الحاضرين بالمحكمة، ينتظر أن يسمعها تقر بتعرضها للتهديد حتى تخرج وتلحق به.
وهناك مشهد آخر من المشاهد المؤثرة في الفيلم يصور المواجهة بين المحامية الاسرائيلية ومديرة السجن، وكيف تواجهها المحامية بقوة وهي التي تشعر بفداحة خسارتها بعد أن فقدت ابنها ذي الثمانية عشرة ربيعا كما تقول في الحرب القذرة التي تشنها اسرائيل، وعندما تذكرها مديرة السجن بأنها تدافع عن امرأة يداها ملوثتان بالدماء، تتهمها بأنها تتلاعب بلوائح السجن وتسخرها لصالحها بعد ان رفضت أن تقبل بوجود والدة ليال الى جانب ابنتها وهي تضع مولودها.
ملاحظات فنية
لاشك في تميز ودقة الجانب التسجيلي في الفيلم: تفاصيل الحياة اليومية للسجينات، التنويع في زوايا التصوير للتغلب على الحدود الضيقة للمكان، التكوينات الخاصة واستخدام لقطات الكلوز أب (القريبة) للوجوه خاصة وجه البطلة، كما تتميز المشاهد الأولى من الفيلم بواقعيتها وسرعة ايقاعها ودقة التصوير وبناء المشهد بطريقة مؤثرة: القبض على ليال واقتيادها داخل سيارة عسكرية اسرائيلية تمضي في الليل تحت المطر، توقف السيارة أمام مركز اعتقال، جندي يجذبها بعنف خارج السيارة، كلب بوليسي ينبح بشراسة في وجهها في لقطة قريبة، جنود يغلقون خلفها بوابة السجن الضخمة، جندي يقتادها بالقوة داخل ممر وهي مغماة العينين، وفي تكوين بديع في اللقطة نراها معلقة من ذراعيها بسلاسل حديدية داخل زنزانة، وفي الخلفية باب عبارة عن شبكة حديدة، يلمع ضوء اشعال عود ثقاب.. جندي يجلس لمراقبتها في برود يشعل سيجارته، ثم يدخل ضابط إسرائيلي الى الكادر ويبدأ استجوابها.
إلا أن مشهد تعرض ليال للتعذيب في الحبس جاء ضعيفا، كما تبدو مشاهد فض الاسرائيليين إضراب السجينات الفلسطينيات هزيلا، بل ويبدو هناك أحيانا تباطؤ في الانتقال بالقطع من لقطة إلى أخرى حينا، وإنهاء المشهد في التوقيت المناسب وهو ما يجعل الإيقاع يهبط في بعض المشاهد. وتصور مي مصري السجينات وهن يقمن بطهي الطعام لحراس السجن وكيف يضعن الكثير من الأملاح الحارقة انتقاما من الحراس ولكن الأمر يمر دون عقاب بل يؤدي الى عدم اسناد هذه المهمة الى الفلسطينيات، كما تستخدم لقطات للأسلاك الشائكة ولأسوار السجن من زوايا مرتفعة، أو وصول فود جديد من السجينات، للإيحاء بمرور الزمن. وتستخدم الموسيقى بحرص شديد في الفيلم بحيث تجعل من أصوات السجن الحقيقية المصدر الصوتي الأساسي في الفيلم.
ملاحظات سلبية
بعد أن يفشل الضابط في العثور على أي معلومات من “ليال” كونها لا تملك معلومات أصلا، يتم إرسالها الى سجن خاص في اسرائيل لتمضى الأحداث، ولكن الملاحظ أن الفيلم يعاني في بعض مشاهده من التكرار والنمطية، وغلبة الشعارات والخطاب السياسي المباشر.
هناك مثلا المشهد الذي تقوم السجينات خلاله بحياكة ملابس الجنود الإسرائيليين العسكرية فتنهرهن “سناء” السجينة التي فقدت ذراعها وأعفيت القيام بالتالي بهذه المهمة، فتشير لها احدى السجينات بكلمة “فلسطين” وقد قامت بتطريزها على الزي العسكري قائلة لها إنها بهذه الطريقة تنتقم منهم، وهو أمر غير واقعي وليس من الممكن حدوثه، كما ليس من المفهوم لماذا قبلت “ليال” أن يظل ولدها داخل السجن، في حين كان يمكنها أن تأخذه والدتها، وليس مفهوما كيف تخبرها مديرة السجن بوضوح بأنهم سيأخذون ابنها منها عندما يبلغ العامين، وأن هذه هي لوائح السجن، ولكنهم يتركونه معها لسنوات أخرى، لا ينتزعونه منها إلا بعد اشتراكها في الاضراب. ولا يبدو مقنعا أيضا مشهد قيام جندي اسرائيلي باطلاق النار على الفلسطينيات أثناء مشاجرة بين سناء ورحاب بعد أن يعرفن بخيانتها لهن، مما يؤدي الى مقتل “جميلة”. فمشاجرة بين سجينات فلسطينيات لا تهم الإسرائيليين حتى لو قتلن بعضهم البعض، وإذا لم نكن قد شاهدنا عنفا حقيقا في فض الإضراب في الفيلم، فكيف ترى مشاجرة بين سجينتين تفضي إلى اطلاق للنار، حتى لو كان هذا قد حدث في الواقع، فالمهم في الفن هو الإقناع، أي أنه طبقا لقاعدة أرسطو الشهيرة، “المستحيل الممكن أكثر إقناعا من الممكن المستحيل” وقد بدا الحدث تصعيدا ميلودراميا ثقيلا أفسد المشهد، خاصة وقد مال الأداء الى المبالغة الشديدة.
في مشهد بديع قبل النهاية، تقف ليال تحت المطر تبدو مستمتعة بتساقط حبات المطر فوق رأسها، تتنسم الهواء على نغمات أغنية فيروز “ياظلام السجن خيم.. نحن لا نخشى الظلام”.. تمهيدا للانتقال الى مشهد الافراج عنها، وخروجها الى الحرية، ثم لقائها مع ابنها وامها، هنا يرتفع صوت غناء فيروز وعلى شاشة سوداء نقرأ أنه منذ 1948 احتجز 700 ألف فلسطيني في السجون الاسرائيلية، ونشاهد لقطات تسجيلية لعدد من السجناء الفلسطينيين الذي أفرجت عنهم إسرائيل عام 1983 بموجب اتفاق تبادل سجناء بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهم يلتقون بأهلهم، ويقبلون أمهاتهم. ثم تذكرنا كتابة أخرى على الشاشة بأن هناك في الوقت الحالي 6 آلاف من الرجال والنساء والأطفال مازالوا في السجون الإسرائيلية. ونشاهد لقطات تسجيلية لاعتقال النساء، ثم تظهر عبارة تقول إن “هذه واحدة من تلك القصص”.
تؤدي الممثلة الفلسطينية ميساء عبد الهادي دور “ليال” ببراعة، وتنجح في التعبير عن مراحل الألم التي تمر بها الشخصية خلال وجدها في الأسر، وكيف تنتقل من ضحية تائهة مترددة، إلى تبني موقف صلب مهما كانت العواقب.
ورغم أي ملاحظات سلبية على فيلم “3000 ليلة” (العنوان يشير إلى المدة التي قضتها بطلته وراء القضبان) إلا أنه يبقى عملا صادقا، أصيلا، متوازنا، يقدم نماذج إنسانية من الجانبين، ويتميز بالكثير من المشاهد المؤثرة التي تعكس حسا شاعريا رقيقا. ولاشك أن مي مصري بموهبتها الخاصة، ستتمكن من تطوير أسلوبها الروائي في فيلمها القادم، بعد أن تترك العنان أكثر لخيالها بعيدا عن أي أنماط ترتبط سلفا، برسالة سياسية مباشرة، فالصورة تظل أقوى واكثر تعبيرا عن آلاف الكلمات!
(نشر في موقع “الجزيرة نت” بتاريخ 9 نوفمبر 2015)