“الخطابة”.. سردية حداثية عن الرجل والمرأة

Print Friendly, PDF & Email

دوماً ما يجري تأطير العلاقة بين الرجل والمرأة سينمائياً، وفق منهجية ثابتة لا تكاد تتغير، وهذا ما يسعى الفيلم السعودي “الخطابة” (2023)، وإخراج “عبد المُحسن الضبعان” إلى تغييره، فالنظرة هنا لهذه العلاقة تبدو مُحملة بمزيج تراثي حداثي لا تُخطئة عين المتلقي، فنحن أمام عمل يستلهم من الموروث الشعبي ما يُعينه على التعبير عن الحاضر بكل مُعطياته ومجازاته.

فإذا كان فنان السينما يرتدي عباءة الماضي، للتعبير عن الواقع المضارع، فالعودة إلى التراث كذلك لديها ما يكفي ويفيض من الرحابة، لاستيعاب القول والبوح بحرية، فالفيلم لا يبدو مهموماً فقط بالتعبير عن العلاقة المُتأرجحة بين الرجل والمرأة، لكنه يفتح قوس التأويلات على إتساعه، ليشمل المضمون العام تيمة الإنتقام، وتحديداً انتقام المرأة من الطرف الأخر للمعادلة، أي الرجل.

“طارق” (حسام الحارثي) حياته من الخارج تبدو هادئة في ظلال زوجة وطفلة، لكنه يُعاني داخلياً من هذه العلاقة التي تُمسك بتلابيب نفسه، لذا عندما يلتقي بـ “سلمى” (نور الخضراء) يقع في هواها دون أدنى تفكير، ليتبعها في رحلة إلى منتجع صحراوي، لا أحد يعرف ماذا سيحدث خلالها؟

هكذا تدور أحداث الفيلم الذي أنتجته شركة “تلفاز 11” وعُرض مؤخراً على منصة نتفلكس، وقد اشترك في كتابته المخرج “عبد المُحسن الضبعان” مع الكاتب والناقد السينمائي “فهد الأسطاء”، في ثاني تعاون بينهما بعد فيلمهما السابق “أخر زيارة” إنتاج عام 2020، والذي حصد جائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي آنذاك.

يبدأ الفيلم بمشهد يُسيطر عليه التعليق الصوتي، الذي يُخبرنا بحكاية امرأة ما في الزمن الماضي، شرع زوجها في زواجه الثاني، لتًصاب على إُثر هذا القرار بالصدمة، وتبدأ في تنفيذ مُخططها الإنتقامي للتخلص منه، كل هذا الحكي يتوالى مع حركات بطيئة للكاميرا تكشف المُحيط العام، بما يوحي بالغموض والإثارة.

يأتينا بعد هذا التتابع، مشهد مُغاير تماماً عما سبق، حيث يعود “طارق إلى المنزل ويبحث عن زوجته وطفلته “ريما”، هكذا يبدأ الفيلم بهذا المشهد الأشبه بالمفتتح، الذي يبدو كتمهيد لعالم الفيلم الذي نُحن بصدد الولوج إليه، فهذه البداية تُشكل عصب الفيلم، ومفتاح فهم مدلوله، أو ما وراء الحكاية ذاتها.

الإطار العام للفيلم يمزج بين الغموض المُكثف الذي يُغلف السرد، والفانتازيا والحس الغرائبي، الذي يستند إلى الحكايات والموروث الشعبي، وهذا يُحسب للسيناريو، الذي رغم تأُثره بطريقة أو بأخرى بالسينما الغربية وأسلوبيتها في هذا النوع، إلا أنه لا يزال يمتلك حساً أصيلاً وبصمة لا تخص سواه. فقد أعتمد بناء الفيلم على المفتتح، الذي تعقبه الفصول الثلاثة التقليدية، ثم العودة للنقطة الأولى مرة أخرى، وهكذا في سرد دائري يتناسب تماماً مع الفكرة العامة للأحداث، المُطعمة بلمسة إثارة نفسية، تتخذ من الدوافع الداخلية للشخصية الرئيسية مُحركاً للسرد.

يعود “طارق” إلى المنزل، ويلتقي أسرته بلا مبالاه، تكشف عن فجوة عميقة تجاههم، تُرى ما الذي يدفع حياته إلى هذا المسار؟ هذا ما يُزاح عنه الستار تدريجياً، حيث العلاقة بين الزوج وزوجته في أوج فتورها، كل منهما يتباعد عن الأخر، نُشاهده يُنصت للبرامج الحوارية التي تُشرح العلاقة بين الطرفين، يُطيل أوقات عمله، في مقابل تقليص ساعات تواجده في المنزل، بل نصل للذروة في أحد المشاهد، عندما نرى “طارق” مُتسلقاً سطح المنزل ليراقب جيرانه المتزوجين حديثا، ولا يكتفي السرد بهذا القدر من المعلومات عن حياة البطل، إنما يستكمل مُفصحاً عن المزيد من مكنون هذه الشخصية، التي تبدو في هدوئها كما لو كانت تحوي بداخلها نارا مُستعرة، تبحث عما يُؤجج شبقها للحياة، فقد جعل السيناريو من وحدة البطل ومعاناته مع زوجته، قوة قاهرة وموطن أزمة، تدفعه للبحث عن علاج ومُسكن لها.

طارق يُفكر في الهروب من أسر هذا المُنتجع.

لذا عندما تقع عيناه على زميلة العمل الوافدة حديثاً “سلمى”، يقع في شِباك غوايتها، دون بذل أدنى قدر من المقاومة المشروعة، ومن ثم يبدو اللقاء بينهما، كحدث مُحفز يُساهم في دفع السرد للأمام، إذ يسعى “طارق” بعد ذلك في روية وتمهل للوصول إليها، طمعاً في مد حبال الوصال، إلا أن تلك الرغبة تنقلب عليه، فعندما يتلصص على مُديرها المُباشر، وتقع عيناه على دعوه سياحية موجهة له للإقامة في أحد المُنتجعات الصحراوية في مدينة العلا- حيث جرى تصوير أغلب مشاهد الفيلم- مرفق بها إمكانية إقامة حفل زفاف ليوم واحد مع من يختارها، تصبح هذه الدعوة كالتفاحة المسمومة في الحكايات الأسطورية، فيتجه تلقائياً لحجز الرحلة مدفوعا بقوة أكبر منه.  

الأحداث هنا تدور حول “طارق”، فهو المحور والمركز، والسرد يدور حوله، فقد رسم السيناريو الشخصية كمفعول بها، مُسيرة لا مُخيرة، فقد طُعمت الحكاية بحس أسطوري، يجعل من المرأة العنصر المَضاد، قوة خارقة، بما تملكه من سحر غواية أنثوية، يجعل الرجل يسقط في الفخ، ومن ثم يبدو “حسام” في خضم مواجهة مع قوة تحتل مساحة أكبر من قدراته الذاتية، فالصراع الدرامي هنا يدور في فلك هذه العلاقة المُعقدة بين هذا الطرف وذاك، الرجل الباحث عن حياة جديدة، تُزيح عنه بؤس حياته الهارب من شرنقتها، مقابل سَطوة المرأة، لتبدو العلاقة هنا بين الرجل والمرأة، وكأنها علاقة العبد بالسيد، العبد في هذه المعادلة هو الرجل، التابع المنوم وراء المرأة المستبدة، بما تملك من جبروت، والأهم بما هو محفوظ لديها من مخزون إنتقامي من جنس الرجل ذاته، في إعادة صياغة حداثية بعض الشيء لهذه العلاقة المؤرقة.

ولاستكمال التعبير عن هذه الفكرة، جعل السيناريو من شخصية الخطابة (ريم الحبيب) المالكة والمُديرة لهذا المُنتجع، أبعاداً غرائبية، بإمتلاكها قدرات خارقة، يمكن عبرها للنسوة التابعات لها أو يوقعن الرجال في شِراكهن، ومن ثم بدا المُنتجع الصحراوي كمصيدة للرجل، فكل من يأت إلى هناك، يتحول تدريجياً إلى عبد لهذه المرأة، التي تنتقم لبنات جنسها من الكائن المُضاد، دون تفرقة أو تمييز، حيث يُجرى حرق الزائر الضيف صاحب ليلة الزفاف في طقوس إحتفالية، ليُبعث بعد ذلك في هيئة جديدة، لا حول لها ولا قوة، ويُصبح كالسوار في معصم المرأة.

طارق يُتابع في هيام زميلته الجديدة سلمى.

بعد وصول بطلنا إلى هذا المُنتجع، تبدأ عيناه في التقاط ما يحدث حوله من أمور غرائبية، لا يدري منها الفرق بين ما هو حقيقي ومتخيل، لينزاح الفرق بينهما، فقد نسج السيناريو الأحداث بحيث تتضمن أكثر من مستوى، العالم الواقعي في المستوى الأول، في حين يصبح عالم الأحلام والماورائيات في المستوى الثاني، ويتقاطع كل منهما مع الأخر، ويؤثر مُباشرة على عملية التلقي، فلا ندري هل ما نراه واقعاً؟ أم يندرج تحت بند الحلم؟

ومن ثم جاءت البيئة العامة للأحداث متوافقة تماماً مع مضمون الفيلم، في تداخل وانسجام، يكشف عن حرفية الإخراج، فطوال مدة العرض البالغة نحو ثمانين دقيقة، لا تتوقف حركة الكاميرا المُتمهلة ولا الإيقاع البطيء، أو الموسيقى التصويرية عن الإستمرار في بث الإحساس بالخطر والغموض، كل هذه العناصر تتكاتف سوياً لإيصال فكرة وشعوراً عاماً بالقلق والترقب، وقد نجح إلى حد كبير هذا الأسلوب، لا في بث هذه الحزمة من الأحاسيس المُتضاربة فحسب، بل وساهم في زيادة عنصر الجاذبية.

في النهاية، يطرح فيلم “الخطابة” الكثير من الأفكار المُبطنة عن العلاقة بين الرجل والمرأة وفق أسلوب حرفي جيد الصنع، يبعث على التأمل والتفكير، لا في المرأة وقدراتها الإنتقامية، لكن في الحياة التي لا يستقيم مسارها، دون توائم سيدها وعبدها.

Visited 8 times, 1 visit(s) today