فيلم نرويجي عن الرغبة المثلية يفوز بجائزة “الدب الذهبي” بمهرجان برلين الـ75

أمير العمري- برلين
أسدل الستار عمليا، مساء السبت 22 فبراير، على الدورة الـ75 من مهرجان برلين السينمائي مع الإعلان عن جوائز المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، باقي المسابقات. ومع بقاء عروض المهرجان العامة في اليوم التالي بعد الختام!
ويمكن القول بشكل عام، أن دورة اليوبيل الماسي لحقت بسابقاتها في السنوات السبع الأخيرة، من حيث الضعف العام الذي شاب الكثير من أفلام المسابقة الرسمية الـ19 التي عادة ما يتركز عليها الاهتمام الأكبر والتي تصبغ أي مهرجان دولي وتعتبر واجهته. ويحدث هذا رغم تغير المدير الفني مجددا هذا العام، بعد إقصاء المدير الإيطالي والاستعانة بالأمريكية تريشيا تاتل.
والواضح أن يد المديرة الفنية ليست مطلقة في التصرف في اختيارات المهرجان، بل ربما تخضع للجان الاختيار التي تتكون في معظمها من عناصر نسائية تميل للمثلية الجنسية والمواضيع النسائية بوجه عام، وتنحاز لسينما المخرجات، والمواضيع التي تتعلق بالمثلية التي ود منها عدد كبير من الأفلام سواء في المسابقة أو خارجها، بل إن تريشيا تاتل تنتمي أيضا إلى نفس النوعية المنحازة التي تفضل أيضا الأفلام التي اطلق عليها “أفلاما منحرفة”، أي perverse وذلك بالمفهوم الفني وليس الأخلاقي، فالمسابقة عموما تكتسي بصبغة واحدة هي الخروج عن المألوف، عن السرد المثير للاهتمام، عن المواضيع القوية التي تشغل الدنيا، سواء من الناحية السياسية أو النفسية أو الإنسانية عموما، وتجنح معظم الأفلام إلى الغرابة، والمواضيع “الصغيرة” والسيناريوهات “المنياتير”miniature التي تعرض لتجارب شديدة الخصوصية، من خلال أساليب بسيطة للغاية، تفتقد إلى التعقيد أو التركيب الفني الذي يضفي على أي عمل فني قوته وشموخه وقدرته على مقاومة الزمن. فمن المشكوك فيه كثيرا أن يبقى أي فيلم من أفلام المسابقة في الأذهان بعد نهاية المهرجان!
ولتوضيح ما أقصده وحتى لا يساء الفهم، فالمقصود هنا لا الانحياز للسينما التقليدية، سينما قصص الوعظ الأخلاقية أو المثيرة على غرار أفلام هوليوود، أو أفلام الرسالة أيا كان نوعها، بل يمكن جدا أن يجنح صانع الفيلم إلى سياق سرد وأسلوب شعري، يستمد مفرداته من لغة الشعر، لكن يظل الفيلم عملا كبيرا قويا يبقى في الذاكرة، ويحضرني هنا كمثال، أفلام المخرج الأمريكي تيرنس ماليك التي ليس من الممكن اعتبارها أفلاما هوليوودية تقليدية، أو تجريدها من سمة الفن الرفيع.
تريشيا تاتل التي سبق أن أدارت مهرجانا مخصصا لأفلام الشواذ من الجنسين في لندن قبل أن يسند إليها منصب مديرة مهرجان لندن السينمائي، ركزت اختياراتها على النوعية التي تبتعد عن التعبير القوي المتفرد كما نرى في أفلام مسابقة مهرجان فينيسيا مثلا (أفلام مثل شكل الماء، أشياء بائسة، روما، الأرجنتين 1985، مازلت هنا.. إلخ) أو في مهرجان كان (أنورا، إيميليا بيريز، كل ما نتخيله كضوء، بارثينوبي، فتاة الإبرة.. الخ).

وقد يكون من مشاكل مهرجان برلين أيضا، التدخل الحكومي من أعلى في مسار المهرجان، خصوصا بغرض تعقيمه سياسيا خشية ما يمكن أن يصرح به السينمائيون من انتقاد للسياسات الغربية عموما، وخصوصا انتقاد دولة إسرائيل التي تعتبر عند السلطة الألمانية (ربما مرغمة!) كيانا مقدسا لا يجب المساس به كما حدث العام الماضي عندما قامت القيامة بعدما وجه عدد من السينمائيين من فوق منصة حفل الختام، انتقادات شديدة للسياسات الإسرائيلية والأعمال الهمجية التي تمارسها في قطاع غزة مثل أعمال التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وهو ما يعتبر في الأعراف السياسية الألمانية نوعا من معاداة السامية- بكل أسف!
لقد خضعت اختيارات إدارة المهرجان هذا العام إذن، للضغوط التي أدت إلى الابتعاد عن الصيغة السياسة التي كانت تميز المهرجان ومناقشاته في الماضي، أي في زمن مديره الأسبق ديتر كوسليك، طبعا باستثناء الموضوع الذي يهم السلطات الألمانية والغرب عموما ويضعونه فوق أي اعتبار، وهو موضوع الحرب في أوكرانيا، مع اتخاذ موقف شائن يتمثل في استبعاد جميع الأفلام التي تنتمي إلى واحدة من أعظم السينمات في العالم، وهي السينما الروسية!
بعد مسابقة ضعيفة المستوى، لم يظهر فيها الفيلم- التحفة ولا حتى العمل الرفيع المستوى الذي تقل فيه المشاكل والسقطات والأخطاء الفنية، فاز فيلم “أحلام: حب الجنس” Dreams: Sex Love أو (أحلام: قصص أوسلو) بجائزة الدب الذهبي، وقال رئيس لجنة التحكيم المخرج الأمريكي تود هاينز في حفل توزيع الجوائز إن الفيلم “تأمل في الحب والرغبة والشهوة”. وأضاف أنه يتميز بملاحظة واضحة وكاميرا ذكية وأداء مثالي.

ويروي الفيلم النرويجي لمخرجه داجيوهان هاوجيرود موضوعا يتعلق بفتاة مراهقة في الـ17 من عمرها، طالبة في الثانوي، تقع في حب معلمتها السوداء من أصل افريقي. ومع ذلك، فإن المعلمة ترفض في النهاية وبعد سلسلة من اللقاءات، الاستجابة لمشاعر الفتاة أو التمادي معها. وبدافع من والدتها وجدتها، تعالج الفتاة تخيلاتها وما ينتج من مضاعفات بسبب انتهاء العلاقة الافتراضية التي قامت أساسا في خيالها، من خلال تسجيل يومياتها والتعبير عن مشاعرها في شكل رواية. والفيلم هو الجزء الثالث من ثلاثية لمخرج هاوجيرود التي تدور حول الحب والجنس. ويطغى عليه المونولوج أو السرد الصوتي الكثيف كما لة كانت تقرأ من صفحات الرواية، بحيث أصبح العمل ثقيل الوطأة كثيرا.,
جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى فيلم O’ltimo azul للمخرج البرازيلي غابرييل ماسكارو. ومُنحت جائزة لجنة التحكيم إلى فيلم “الرسالة” El mensaje للمخرج الأرجنتيني إيفان فوند.
أما جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج، فحصل عليها المخرج الصيني هوو مينج عن فيلمه البديع “عيش الأرض” (Living the Land). وحصلت الممثلة الأسترالية روز بايرن على جائزة الدب الفضي لأفضل ممثلة عن دورها في فيلم “لو كان عندي ساقان لركلتك” If I Had Legs I’d Kick You، وحصل الأيرلندي أندرو سكوت على جائزة أفضل ممثل عن دوره المساعد في لعبة “القمر الأزرق” Blue Moon.

ونال المخرج الروماني رادو جود، جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو عن فيلم Kontinental ’25 وهو من الأفلام القليلة في المسابقة التي ترتبط بما يحدث في عالم اليوم، وحصل فيلم Liat للمخرج براندون كرامر على جائزة أفضل فيلم وثائقي.
وحصل الفريق التقني الفني للفيلم الفرنسي “برج الثلج” The Ice Tower على جائزة الإبداع الفني.
ستكون لنا وقفة مع بعض هذه الأفلام وغيرها من خارج المسابقة الرسمية، خصوصا الفيلم السويسري الألماني “نوبة عمل متأخرة” Night Shift الذي أعتبره التحفة السينمائية الوحيدة في المهرجان حتى لو كان قد عرض في برنامج “وجهات نظر” وليس في المسابقة الرسمية، لكن هذه هي اختيارات اللجان والمديرة الجديدة الأمريكية التي لا أعتقد شخصيا أنها ستستمر في منصبها في برلين طويلا، بسبب خيبة الأمل الكبيرة التي نتجت عن اختياراتها الضعيفة. وسوف نرى.