يوميات الموسترا (2): نهاية العالم ومصاص الدماء

لقطة من فيلم "نظام الزمن" لقطة من فيلم "نظام الزمن"
Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري- فينيسيا

في التسعين من عمرها عادت المخرجة الإيطالية المخضرمة ليليانا كافاني التي يكرمها المهرجان، بفيلم جديد، عرض خارج المسابقة، فهي أكبر من أن تتسابق مع غيرها من المخرجين الذين مازالوا يعملون وأمامهم مستقبل قد يطول أو يقصر، أما ليليانا فربما يكون هذا آخر أفلامها، وهو حال عدد آخر من كبار المبدعين موجودين في دورة مهرجان فينيسيا هذا العام مثل رومان بولانسكي (90 عاما) وودي آلن (87 عاما)، وكان من المفترض أن يحضر أيضا المخرج الأمريكي ولي فريدكن لولا أنه غادر عالمنا قبل أيام من بداية الدورة عن 88 عاما. 

 أعترف بداية أنني استمتعت بفيلم ليليانا كافاني “نظام الزمن” The Order of Time رغم أنني أعرف انه لن يكون ممتعا بالنسبة للجميع، والسبب أنه عمل مشبع بالحوارات الفلسفية والتفاصيل العلمية، فهو يفترض أن هناك مذنبا ضخما يقترب بسرعة من الأرض وسوف يصطدم بها في أي لحظة، وهي فكرة مماثلة لفكرة فيلم لارس فون ترايير “ميلانكوليا” (2010)، خصوصا وان هناك مجموعة من الأصدقاء القدامي من الطبقة الوسطى، يجتمعون في منزل على شاطئ البحر، يحتفلون بعيد الميلاد الخمسين لصاحبة المنزل وصاحبة الجمال الممتد، المحامية “كلاوديا جيريني” وزوجها الطبيب (اليساندرو جاسمان) وابنتهما الشابة المراهقة “أنا”. أما الصحبة فتشمل من ضمن ما تشمل، خبيرا اقتصاديا، ومعلمة تاريخ، ومحلل نفساني، ومعلمة علوم، وصحفية، وباحثة في الفيزياء، وبعد قليل يصل عالم الطبيعة النظرية “انريكو” الذي يخبرهم بالكارثة التي توشك أن تقضي على الكوكب الأرضي.

ليليانا كافاني

وسط أجواء القلق والتوتر، تدور مناقشات فلسفية وتساؤلات كثيرة وجودية، يعيد البعض اكتشاف ذواتهم، وما يريدونه من الحياة، ويواجه البعض الآخر منهم أخطاءهم، وتقع أيضا مواجهات بين الشركاء، وتنهار علاقات وتعود علاقات قديمة كانت قد ذبلت. 

الفيلم مقتبس من رواية لعالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيللي، صاحب النظرية الخاصة في الجاذبية الكمية، وهو من الأفلام التي تعتمد على الأداء التمثيلي بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه، القدرة على تقديم مفاجآت، وعرض لمفارقات تقع في سياق الحبكة التي قد يراها البعض ميلودرامية، لكنه فيلم قريب من القلب، يثبت أن ليلانا كافاني مازالت قادرة على التحكم بعبقرية في كل هذا العدد الضخم من الممثلين والممثلات، والانتقال السلس المغلف بالشعر، من الداخل إلى الخارج، ومن الخاص إلى العام، وتجسيد القلق الإنساني من النهاية، من الموت مع طرح تساؤلات حول مغزى الحياة، وعلاقتنا بأنفسنا وبالآخر. هذا فيلم إيطالي كلاسيكي، ممتع، مع صور خلابة للمناظر الخارجية، من خلال تصوير ومونتاج يرتفع بالفيلم إلى مصاف الشعر.

هذا فيلم لا يمكنك أن تغفل لحظة واحدة عما يدور فيه. كل شيء مضبوط بدقة الساعة السويسرية: حركة الممثلين داخل المكان، زوايا التصوير، الانتقال بين الشخصيات، الاهتمام بالتفاصيل، بالموسيقى، المساحة المتاحة للشخصيات للتنفس، للتعبير، التوافق والتنافر، المشاعر المكبوتة كيف تطفو على السطح. تحية مستحقة إلى السينمائية الكبيرة ليليانا كافاني.

الديكتاتور مصاص الدماء

شاهدت فيلم “الكوندي” اي “الكونت” El Conde وهي الكلمة المستخدمة في شيلي لوصف الدكتاتور أوجوستو بينوشيه الذي قاد الانقلاب العسكري الدموي ضد حكومة سلفادور ألليندي عام 1973، وظل يحكم البلاد لسنوات طويلة قبل أن يضطر إلى التخلي عن السلطة بوعي الجماهير والنخبة السياسية.

الفيلم للمخرج الكبير بابلو لارين صاحب الأفلام الرائعة مثل “النادي” The Club و”نيرودا”، ورغم اجتهاداته الكثيرة مع شريكه في كتابة السيناريو “جيليرمو كالديرون” في هذا العمل الطموح (يمكن مشاهدته على شبكة نتفليكس)، إلا أنه لم ينجح في تحقيق متعة المشاهدة وهي أهم عنصر من عناصر بقاء الفيلم في الذاكرة، فالفيلم يلعب على فكرة مصاص الدماء، أي يصور بينوشيه كنموذج للرأسمالي المستغل أو خادم الرأسمالية الانتهازي الذي يمص دماء الشعب في شيلي ويمتد به الزمن منذ أكثر من 250 سنة، بل ويجعله من أصل فرنسي، وأنه ظهر في زمن الثورة الفرنسية وانقلب عليها، وظل ينتقل من صورة إلى أخرى، واستقر في شيلي، ولكنه يريد الآن أن يموت، فيجتمع أبناؤه يريدون تقسيم ثروته الهائلة التي بناها بمعاونة خادمه الروسي. ولكنه سيتراجع عن فكرة الموت، ويستمر.

الفيلم يمزج بين الكوميديا الرعب والنقد السياسي اللاذع، ويمتلئ بالكثير من المعلومات التاريخية في سياق قوطي، وصور بالأبيض الأسود، في محاكاة أحيانا لأفلام مصاصي الدماء القديمة، مع أداء تمثيلي بارع من جميع أفراد الطاقم، إلا أنه يعيبه تكرار الفكرة والدوران من حولها باستمرار، والخروج كثيرا من تحت عباءة الصور الرمزية والمجازية، إلى التعليق المباشر الفج الذي يرمي إلى هجاء الرأسمالية. وفي الثلث الأخير من الفيلم يترهل الإيقاع، ويفقد الفيلم البوصلة، ويصاب بالشيخوخة تماما كما أصيب “الكوندي” بشيخوخته التي تجعله يعاني مما يطارده في الحياة، ومن عدم القدرة على الموت.

Visited 2 times, 1 visit(s) today