فيلم “ضربة في الرأس”: كوميديا القنطرة وسيارة الإسعاف
وجد المخرج المغربي هشام العسري الطريق المناسب لتدبير الإنتاج، وملاءمته مع أسلوبه الفني الذي ظهر منذ أفلامه القصيرة التي لم ينقطع عن إنجازها بالموازاة مع الكتابة الروائية وخوضه تجربة الرسوم المتحركة التي تَوَّجَهَا مؤخرا بإصداره لكتاب تحت عنوان “ڤودو” (السَّاحِر). وتتميز أفلامه الروائية الخمسة الطويلة بموزانة إنتاجية متوسطة مقارنة مع بعض الأفلام المغربية الأخرى، لكن صاحبها لم يفرط في البحث والمغايرة وتعميق النقد.
يسعى المخرج لتحقيق سينما تجريبية ذات سرد فيلمي غير خطي، واعتماد لغة سينمائية تروم تكسير القواعد الكلاسيكية عبر توظيف الكاميرا المحمولة، وقلب المَشَاهِد، والاهتمام بما يقع خارج إطار ومجال الصورة فضلا عن رؤية موضوعاتية مرتبطة العناصر؛ إذ تتغيا البحث في تاريخ المغرب الراهن، وخاصة في بعض القضايا السياسية الحساسة كسنوات الرصاص وما شابها من اعتقال ومضايقات على مستوى الحريات السياسية والمدنية، والتي أسفرت عن حدوث تطور هام في الحياة السياسية بالمغرب.
يمنح هذا الفيلم الانطباع بأن هشام العسري قد بدأ يكرر نفسه، فهو يفضل التصوير بأمكنة وفضاءات مهمشة بمدينة الدار البيضاء، مدينته الأثيرة، ويعود من حين لآخر إلى ممثليه في أدوار “رئيسية” أو “ثانوية”، وخلطاته الإبداعية العجيبة (الكرة والسياسة مثلا)، ويتعامل مع الكاميرا المحمولة بشكل يوحي بالخفة، ويعيد اجترار بعض الموضوعات والمواقف والحوارات.. ولكن السؤال الأساسي هو: هل نحس بأن في ذلك قصدية معينة وواعية أم لا؟
يؤكد فيلم “ضربة في الرأس” [الكوميدي] أن المخرجَ صاحبُ رؤية لواقعه، وله تصور بصري يحاول ملاءمته مع ما يجري في مجتمعه، وفقا للثيمة التي تشغله وتؤرقه، ويتعلق الأمر بالنبش في بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ المغرب المعاصر، وخاصة تلك التي لها صلة بالمخرج ذاته. فهو من مواليد سبعينيات القرن المنصرم، أي من أبناء الجيل الذي عايش المخاضات المضاعفة لما سُمِّيَ بمرحلة الانتقال السياسي، وما اكتنفه من ملفات كان لها بالغ الأثر في رسم ملامح الأوضاع الاجتماعية والإيديولوجية في مغرب اليوم. لذلك، نجد أن التاريخ السياسي والاجتماعي حاضر بقوة في كل أفلامه الروائية الطويلة إلى الدرجة التي يصعب معها الفصل بينهما.
اختار المخرج في هذا الفيلم حكاية بسيطة تتعلق بتعيين شرطي لحراسةِ قنطرةٍ سَيَمُرُّ من فوقها ملك البلاد، وهو موضوع قد يظهر عاديا وبسيطا، وقد يمكنه الحدوث في أي بلد من بلدان العَالَم، ولكن القنطرة ستصبح رمزا مثقلا بالدلالات والحمولات. أليست القنطرة هي المغرب؟ كان المغرب وما يزال وسيظل، بحكم موقعه الاستراتيجي، وتركيبته الإثنية والثقافية، قنطرة للعبور والالتقاء إلا أن ذلك الإرث المتفاعل لم يسفر عن نقلة (طفرة) تناقضية إيجابية تسفر – سريعا – عن نَقْلِ المغرب من حالة إلى أخرى، وهو ما جعل سقف الطموحات يرتفع، والرهانات تتكاثف.
يكرر الفيلم حضور سيارة الإسعاف التي يدل اسمها على تدخلها خلال اللحظات الحرجة من حياة الأشخاص لنقلهم على وجه السرعة إلى أقرب المستشفيات بغرض المعالجة، ولكن المثير للتساؤل هو أن إحداها تتعطل عن الحركة أثناء محاولة الإنقاذ مما يؤشر على أن المُسْعِف المُنْتَظَر في حاجة إلى من يسعفه أيضا، وعلى أن الوضع مأزوم بالفعل. فبالرغم من محاولات السائق الحثيثة لإصلاح محرك الساعفة، وتضافر جهود الحاضرين لدفعها من أجل الإقلاع إلا أن الفشل كان حليفها!
هل عَبَرَ المغرب القنطرة؟ ذاك هو السؤال الثاوي في الفيلم. فالعبث والفساد والفقر والفوارق الاجتماعية عوائق (قناطر وأنفاق) يجب تجاوزها. نلاحظ أن القنطرة أو النفق حاضران في كل أفلام المخرج الروائية الأربعة الطويلة، السابقة، مما يفيد غائية التكرار وقصديته؛ إذ من المعروف أن لازمة التكرار لا يَعِيهَا ولا يوظفها إلا مخرجون قلة، وحينما يصرون على معاودة توظيفها في كل أفلامهم، فإنما لتكثيف دلالاتها وترسيخها كعلامة تسم منجزهم.
سيلتحق أحد المساعدين بالشرطي للعمل هو الآخر فوق القنطرة، وهو الأمر الذي اعتدناه في مثل هاته المهام التي ألفنا رؤيتها في حياتنا العادية، لكن إصابته بكسر في رجله ستجعل شيخ المنطقة (عون في وزارة الداخلية)، ومعه جزء من سكانها، يضعونه في بيت بائع مخدرات كي تعتني بحاله ابنته المطلقة، والتي سرعان ما سيرتاح لها ذاك “المخزني” (لقب يطلق على رجل القوات المساعدة)، فيقرر الزواج منها بالغم من تواجد ابنها معها، وهي الواقعة التي تعني توفير الحماية وتبادل المصالح، وتقوية الوضع السائد. تحدث للرجل المريض حالات سوريالية كرغبته في ضرب رأسه “الصلب” بالعصا كي يستفيق، وفي هذا الفعل دلالات كثيرة تحيل على الحاجة الماسة إلى رجة توقظ الرجل من سباته، فربما عندما يفقد الإنسان إحساسه تجاه ما يجري من حوله تصبح حالته مستعصية على الفهم، ويتعمق شقاؤه.
يمر فوق القنطرة شخوص، وتنكشف حالات خاصة، وتتفاعل أحداث لا يمكن أن تمر دون ذكر كوفاة الشيخ المسن ذي الرأس الأشيب، صاحب الفرس الأبيض، فوق القنطرة، والشابة الممتلئة، والطفل العاشق لكرة القدم، وما يقوم به شيخ أو مقدم الحي من تصرفات تجعله يتحول رفقة أهل الحي الصفيحي، الهامشي، المجاور للقنطرة إلى كل ما يجعله قريبا من الحدث ومشاركا فيه: بَصَّاص، مستضيف، خادم، قائدُ جوقة، مراقب، مخبر، وهو مستعد للقيام بكل شيء من أجل التقرب من رجال السلطة مهما كانت درجتهم.
يعمق هشام العسري في فيلمه الجديد هذا رؤيته النقدية للمجتمع المغربي، ويرفع من وثيرة التناول السياسي ضدا على بعض الرؤى السينمائية البصرية التي آثرت التماهي متخلية عن واجبها القيمي تجاه المجتمع والفن معا. فأن يطرح المخرج الأسئلة المستعصية العالقة في ذهنه، وعبر آليات الميكانيزم السينمائي، لمسألة قمينة بتطوير المجتمع والسينما معا. فما أحوج المجتمع المغربي، ومعه العربي، إلى سينما تنويرية، تدعو لمراجعة المُتَوَاتِر والمتناسي، وتخلل السائد بغية الانتصار للمستقبل.
تكمن قيمة الفيلم في قدرته على تكثيف الأحداث، وتوقيف الزمن، وعرض الشخوص، وتأطير اللقطات والمَشَاهِدِ فوق القنطرة، وذلك فيما يشبه الحلقة المغلقة والمفتوحة في آن واحد، فالطريقة التي كان يؤطر بها المخرج القنطرة وكذا تحريكه للكاميرا توحي بقلق ذاتي وجماعي تجاه الحاضر الذي يخلق حالة شبيهة بالتغير الجدري (الميتامورفوزم) على الطريقة الكافكاوية خصوصا وأن مجتمعاتنا الراهنة مبنية على عنصر المفاجأة والتجاوز: تفاجئنا ضد كل التوقعات المرتقبة والعقلانية.
اختار المخرج ثلة من الممثلين ممن سبق وأن اشتغل معهم كعزيز الحطاب وبنعيسى الجيراري وعادل أبا تراب وحسن بديدة لنقل تفاعلات ووجهات نظر عاكسة لرؤى المخرج من جهة، وكذا لتناقضات المجتمع من جهة أخرى، فللمخرج اختيارات تتميز بالتعامل مع ممثلين جريئين جرأة الأدوار المنسوبة لهم كما أن له طريقته الخاصة في إدارتهم من حيث التركيز على تمثيل التفاصيل، والحد من الحركات الزائدة أو المفتعلة خاصة وأن تكرار بعض الممثلين لحركات وإيماءات خارج سياق المجال الحركي الذي يقتضيه الدور يجعلهم غير مستوعبين للشخصيات ويكشف ضعف الإدارة التقنية، فيضيع رسالة الفيلم.
نستشف من الفيلم أن القنطرة مجاز بصري كبير، وبؤرة سردية أساسية، لاختبار الكاميرا على الحركة والتنقل، ومجال لاستعراض إمكانيات المخرج التخييلية لتجاوز الملل المحذق بالمتلقي الذي ترتهن جاذبية الفيلم على إمتاعه داخل فضاء مغلق تدور فيه الشخصيات، وهو ما حاول المخرج تجاوزه بشكل كبير، بالرغم من بعض اللحظات الثقيلة من قبيل ما يحكيه رجل “القوات المساعدة” أثناء هذيانه الساخر، واستثماره لمرجعيات فيلمية عميقة تحيل على إمير كوسطوريكا ولويس بونويل وفديريكو فيليني الذين عملوا على ترسيخ السخرية كآلية فنية للنقد والفرجة معا.