فيلم “سيحل الظلام”: الهولوكوست بدون غاز!

أخيرا أتيحت الفرصة لمشاهدة الفيلم الوثائقي الذي طال الحديث عنه، وهو فيلم “سيحل الظلام” (أو الليل) Night Will Fall للمخرج البريطاني أندريه سنجر Andre Singer الذي يعيد تناول موضوع “الهولوكوست”، أو ما يعرف بـ الإبادة الجماعية” لليهود على أيدي الألمان النازيين خلال الحرب العالمية الثانية في معسكرات الاعتقال الجماعي التي أقيمت في ألمانيا وبولندا.

يعتمد الفيلم، في معظم أجزائه على لقطات ومشاهد كاملة من الفيلم القديم الي كلف بإنتاجه وإخراجه سيدني برنشتاين (وهو يهودي) كان رئيسا لوحدة السينما بوزارة الإعلام البريطانية، وكان الهدف صنع فيلم دعائي عن الفظائع التي وجدت داخل معسكرات الاعتقال النازية، على أن يعرض الفيلم بعد إكماله، على الشعب الألماني لترسيخ عقدة الإحساس بالذنب، في إطار الحرب النفسية التي كانت تهدف إلى عمل نوع من “غسيل المخ” عن طريق الصور الصادمة، لكل من كان يؤمن بالنازية من الألمان، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب.

كان برنشتاين يرتبط بصداقة وطيدة مع المخرج البريطاني الشهير ألفريد هيتشكوك، وبعد انتهاء العمل في المونتاج الأولي للمناظر الكثيرة التي استطاع جمعها من مصوري الجيش وغيرهم، إتصل بصديقه هيتشكوك في هوليوود وطلب منه المجيء إلى لندن لكي بشرف بنفسه على الوصول إلى الشكل النهائي للفيلم. ولكن هيتشكوك تأخر أولا في تلبية النداء بسبب إنشغاله في العمل، ثم ذهب إلى لندن لفترة قصيرة حيث شاهد العمل، وأبدى بعض الاقتراحات الفنية ثم غادر، ولكن لم يقدر لهذا الفيلم الذي أطلقوا عليه “إحصائية دقيقة عن معسكرات الاعتقال الألمانية”، أن يعرض قط، لا على الألمان، ولا على غيرهم. والسبب الذي نسمعه أكثر من مرة في الفيلم، أن تشرشل وجد أن عرضه، سيمثل ضغطا نفسيا مضاعفا على الألمان في وقت كانوا قد بدأوا يتعاونون مع الحلفاء بجدية في إعادة بناء البلاد، والنهوض بالاقتصاد الألماني مرة أخرى، وأن عرض الفيلم يمكن أن يكون له أثر سلبي.

أما الفيلم الذي نحن بصدده، وهو “سيحل الليل” فهو يعيد اكتشاف فيلم برنشتاين- هيتشكوك، ويستخدم الكثير من مشاهده ولقطاته، يمزجها بمقابلات مسجلة بالصوت والصورة مع عدد كبير من المصورين الذين صوروا المعسكرات الألمانية بعد الحرب، من البريطانيين والأمريكيين، ومع طاقم العاملين في الفيلم القديم مثل المصور والمونتير وبرنشتاين نفسه بالطبع، وكذلك مع عدد من نزلاء المعسكرات الذين نجوا، وكانوا أطفالا في ذلك الوقت، ومع ضباط سابقين في الجيش البريطاني، ومع مدير “متحف الحرب الإمبريالية” البريطاني الذي عمل على تجميع وإنقاذ وترميم الأجزاء التي أمكن العثور عليها من الفيلم القديم، بعد سبعين عاما من نهايية الحرب الثانية.

تحذير من الصدمة

في تقديم الفيلم يحذرنا التعليق الصوتي المصاحب بصوت الممثلة البريطانية هيلينا بونام كارتر، من أن ما سنشاهده في هذا الفيلم، سيكون صادما، وقد لا يستطيع الكثيرون منا تحمله، وأن اللقطات التي ستعرض من داخل المعسكرات لم يسبق لها مثيل في البشاعة. ولكن بعد مشاهدة الفيلم نفسه، نجد أن هناك الكثير، إن لم يكن معظم ما نراه من لقطات، سبق أن تكررت في عشرات الأفلام الوثائقية التي تناولت موضوع “الهولوكوست”، ومنها أفلام انتجت مبكرا بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب، مثل فيلم “ليل وضباب” الذي أخرجه المخرج الفرنسي آلان رينيه عام 1955، وهو فيلم قصير (32 دقيقة)، كان يحتوي على الكثير من اللقطات نفسها، لأكوام من الجثث العظمية الشاحبة لأشخاص فاغري الفم، تحدق عيونهم المجوفة في الفراغ، وأكوام من الشعر البشري موضوعة في أجولة، واكوام أخرى من الأحذية ومن النظارات ومن لعب الأطفال والملابس وغيرها من متعلقات النزلاء الذين يقول الفيلم إنهم قتلوا داخل المعسكرات بوحشية، لكنه لا يفسر لنا بقاء الكثيرين من النزلاء الذي تم تحريرهم على أيدي الحلفاء على قيد الحياة، ومنهم من يتحدثون في الفيلم، عن الفظائع التي رأوها بعيونهم، ومنهم توأم- سيدتان- كانتا طفلتان في ذلك الوقت عندما جرى اعتقالهن مع والديهما وسيقا إلى أوشفتز، وهما ترويان كيف أصبحتا ضمن مجموعة من الأطفال خضعوا للتجارب الطبية التي كان يجريها الدكتور جوزيف منجل (المعروف إعلاميا بطبيب الرعب).

ويروي الميجور البريطاني ليونارد بيرني، عما شاهده أثناء دخول القوات البريطانية معسكر “بيرغن- بيلسن” في ألمانيا، ونرى بالطبع عشرات اللقطات من الفيلم القديم، للجنود البريطانيين وهم يسحبون الجثث التي وجدت داخل المعسكر كما نرى أيضا كيفية عمل حفرة كبيرة عميقة باستخدام جرافات الجيش، ولقطات أخرى لشاحنات تحمل أكواما من الجثث، ثم كيف يرغم البريطانيون ضباط الإس إس (قوات النخبة الألمان) على حمل الجثث بأنفسهم والقائها في الحفرة، وينتقل الفيلم من هذا المعسكر الى معسكرات أخرى مثل أوشفتز الذي كان قد وقع في قبضة السوفييت. وحسب ما يقوله التعليق في الفيلم، كان البريطانيون والحلفاء عموما لا يثقون في دقة التقارير السوفيتية بعد الحرب عن فظائع النازية ويعتقدون أنها مبالغ فيها، إلا أنهم اقتنعوا بأهميتها بعد ما وجدوه في “بيرغن- بيلزن”، وبالتالي قرر بيرنشتاين استخدام الكثير من المشاهد التي صورها السوفييت في أوشفتز في فيلمه، وهي التي نراها في فيلمنا هذا.

طواحين الموت

يتطرق الفيلم أيضا إلى الخلاف الذي وقع بين الأمريكيين والبريطانيين بسبب فيلم بيرنشتاين، فعلى حين رفض البريطانيون عرض الفيلم على الألمان، أصر الأمريكيون على أهمية عرضه، بل أقصوا فريق بيرنشتاين عن العمل وحصلوا على المادة، وكلفوا المخرج الشهير بيللي وايلدر (وهو يهودي نمساوي كان قد فر في الثلاثينيات من النازية إلى أمريكا) بعمل الفيلم الذي أطلق عليه “طواحين الموت” Death Mills. كانت المادة- كما يقول لنا صوت هيلينا بونام كارتر- متشابهة، ولكن الأسلوب كان مختلفا، فقد كان الفيلم الأمريكي يحمل إدانة مباشرة للألمان ويتهمهم مباشرة بارتكاب جرائم حرب، وقد استخدم فيما بعد، مع غيره من الأفلام، في محاكمات نورمبرج الشهيرة كدليل إدانة ضد الزعماء النازيين.

يعرض الفيلم أيضا لقطات لوصول أيزنهاور قائد القوات الأمريكية في أوروبا، إلى معسكر بيرغن- بيلزن، ويقول التعليق الصوتي: “الآن يعرف الجندي الأمريكي لماذا كان يحارب”، أي لإنقاذ العالم من البربرية الألمانية، ولكن الفيلم لا يقول لنا ماذا سيكون رد فعل الجندي الأمريكي نفسه إذا ما شاهد مناظر الدمار وضحايا القنابل الذرية التي ألقيت فوق هيروشيما ونغازاكي؟!

عنوان الفيلم “سيحل الليل” معناه كما يقال لنا في النهاية، أنه إذا تكررت مرة أخرى تلك الجرائم التي شاهدناها فمعنى هذا أن الظلام سيهبط على العالم. ولكن مما يلفت النظر في هذا الفيلم أن كلمة “يهود” لا تتردد سوى مرة واحدة على لسان إحدى الشخصيات، ويتم تصوير الممارسات النازية العنيفة باعتبارها موجهة ضد فئات متعددة من الأبرياء، فقد كانت معسكرات الاعتقال تضم الغجر واليساريين والمثليين وكل الرافضين لنظام هتلر. وعلى نحو ما ودون أن يكون هذا مقصودا من جانب صناع الفيلم، نرى الضباط الألمان وهم يحملون جثث القتلى ويقذفون بها في الحفرة الكبيرة، ونعرف أنهم فعلوا هذا بطلب من البريطانيين المنتصرين، وهو ما يتناقض مع ما نراه في الكثير من أفلام الدعاية الغربية، التي توحي للمشاهدين بأن تلك اللقطات صورها الألمان أنفسهم، وأن هذا ما كان يحدث حقا. صحيح أن الفيلم يصور المحارق وفي داخلها بقايا الجثث المحترقة، لكن دون أن يصور ولا لقطة واحدة، لما يسمى بغرف الغاز، أو حتى يقدم رسما تخطيطيا لها أو لموقعها داخل أي من معسكرات الاعتقال الجماعي التي اعتبرت “مصانع للموت”، كما لا يذكر أي من الشهود ولا مرة واحدة، “غرف الغاز” التي تعتبر الأساس المركزي لما يعرف بـ “الهولوكوست”، ومن دونها تسقط نظرية الإبادة الجماعية لستة ملايين يهودي، وقد يكون هذا السبب فيما تعرض له الفيلم من هجوم في بعض الصحف الإسرائيلية.

ولا يناقش الفيلم  التفسير الذي يقول إن وجود المحارق كان ضروريا داخل المعسكرات لحرق جثث النزلاء الذين أصيبوا بالأمراض المعدية مثل وباء التيفوس، بسبب الظروف والأوضاع غير الإنسانية، خاصة خلال المرحلة الأخيرة من الحرب، بعد تدمير خطوط الاتصال الألمانية وعجز الألمان بالتالي عن توصيل المؤن والأدوية، وموت الكثيرين من الجوع والأمراض، وكذلك بتأثير الغارات الجوية المكثفة العنيفة الأمريكية والبريطانية التي أوقعت اعدادا كبيرة من القتلى، وهو أمر ثابت ومعروف في أدبيات الحرب العالمية الثانية، فليس كل ما يصوره الفيلم من قتلى هم ضحايا العنف الألماني، بل وضحايا غارات الحلفاء الكثيفة. ولعل من الطريف أيضا أن نرى في هذا الفيلم رجلا يدعى تومي شاشام، كان محتجزا في معكسر أوشفتر، يروي كيف أن السوفيت أرادوا عمل فيلم دعائي عن المعسكر، وكيف أنهم طلبوا من الذين نجوا من النزلاء (بعد تحرير المعسكر) ارتداء البيجامات المخططة فوق ملابسهم، والسير داخل حاجزين من حواجز الأسلاك الشائكة ثم قاموا بتصويرهم. ويتحدث بنجامين فريتز من الجيش الأمريكي عما وجدوه من انتشار كبير للأمراض في معسكر بوخنوالد، مثل الدوسنتاريا والتيفود وكل أنواع الأمراض. وإذا كانت المحارق تستخدم في حرق الجثث لمنع انتشارالأمراض، إلا أن أحد الجنود الأمريكيين يقول في الفيلم إن الألمان كانوا يحرقون الأشخاص أحياء!

يعرض الفيلم في نهايته لقطات طويلة للألمان من سكان المناطق القريبة من معسكرات  الاعتقال الذين تم تجميعهم وإرغامهم على المرور في صفوف طويلة، والتطلع إلى أكوام الجثث الموضوعة في حفرة كبيرة، حتى يقال لهم بشكل ما- كيف أنهم كانوا يمارسون حياتهم بينما كانت تلك الفظائع تقع بالقرب منهم.

أخيرا لعل السبب الحقيقي الذي أدى بالبريطانيين إلى إغفال الفيلم وإبقائه “على الرف” لمدة سبعين عاما، أنه كان يمكن أن يكشف زيف الكثير من الأفلام الدعائية التي صنعت في أمريكا وغيرها، والتي قدمت الكثير من اللقطات المتشابهة والمتطابقة، وقدمت لها تفسيرا مغايرا تماما، كما أن وجود إسم هيتشكوك – سيد أفلام الإثارة والخدع السينمائية- كان يمكن أن يضر الفيلم أكثر مما يفيده!

Visited 104 times, 1 visit(s) today