فيلم “الضغينة”.. اجتهاد في صُنع الرُّعب
فيلم The Grudge أو “الضغينة” فيلم رعب مجتهد. ففي ظلّ سنوات طويلة من الإنتاج المُبتذل الاستهلاكيّ -إلا من محاولات جيدة مثل محاولات “جيمس وان”- وجدنا أفلام الرعب تسيطر عليها النمطيَّة الشديدة وكأنَّها مِسطرة أو مقياس يقيسون عليه التجارب في بدايتها وتطوراتها ونهايتها، أو ينقلونها نصًّا في البناء العامّ مع اختلاف الأماكن والأسماء. ورغم أن فيلم “الضغينة” في بنائه العام لا يختلف كثيرًا؛ لكنه في تفاصيله استطاع إضافة ما يمكن أن يجعل منه فيلمًا مُختلفًا أو على أقل تقدير فيلمًا مجتهدًا يحاول الخروج من مستنقع الرتابة الذي سيطر على أفلام الرعب عامةً، وأساء لها ولتصنيفها في سلك الأفلام العام.
فيلم “الضغينة” يرتبط بالسلسلة التي بدأت بفيلم ” The Grudge ” عام 2004، واستمرت بالاسم نفسه، وحققت شهرة وذيوعًا. تدور كلها حول بيت به لعنة في اليابان. ثمَّ يأتي فيلمنا بعد مرور 16 عاما من بدايتها ليستغل الحبكة الرئيسية في السلسلة ويوظفها. الفيلم إنتاج 2020 من إخراج المخرج نيكولاس بيشي، وتأليف عدد مع المخرج. وبطولة الممثلة أندريا رايسبور، وجون شو (صاحب الفيلم الرائع Searching)، والممثلة لين شيا، تارا ويستوود. تكلَّف 14 مليون دولار، وأتى بأرباح تفوق 50 مليون.
تدور أحداث الفيلم في العام نفسه الذي بدأت فيه السلسة، حول مربية أمريكية تعمل في رعاية سيدة عجوز في أحد البيوت في اليابان. وفي يوم من الأيام تقرر تلك المربية أن تنهي عملها وتعود إلى أمريكا بصورة مفاجئة؛ مُعلِّلة هذا بحدوث أمور غريبة في هذا البيت. لكنها بعد عودتها تقتل زوجها وابنتها الصغيرة.
بعدها بعامين -أيْ في 2006- تكتشف الشرطية “مولدون” وزميلها جثة على هيئة بشعة في طريق مهجور داخل سيارة. يتغيَّر بشدة شكل زميلها عندما يعلم أنَّ صاحبة الجثة كانت تعمل في البيت نفسه الذي كان بيت المُربِّية. وتبدأ مولدون في البحث وراء موقف زميلها وغموضه، ثمَّ تذهب إلى البيت ومن ساعتها تكتشف أنَّها أصيبتْ بلعنة البيت. فتبدأ حياتها في الانقلاب إلى جحيم يهدد حياتها وحياة ابنها الوحيد. وتبدأ الأمور في الكشف عن مُلابسات الماضي وغموض بعده غموض ونرى في الفيلم هل يستطيع سعي الشرطيَّة إنقاذها من مصير محتوم؟
الحقيقة أن تصنيف الرعب الذي ينظر إليه غالب المشاهدين ببعض الاستهانة أو يضعونه في ترتيب متأخر هو في الحقيقة صعب، بل إن الإبداع فيه بالغ الصعوبة لذلك قليلة هي التجارب الجيدة أو التي تستحق الانتباه جديًّا لها. أفلام الرعب ليست صنفًا واحدًا بل هي أصناف. وأفلام الرعب الخياليّ تستند في تأسيس حبكتها إما على خيال صرف أو خيال علميّ أو خيال أسطوريّ (ميثولوجيّ) متعلق بالثقافة الإنسانية العامة، أو ثقافة شعب بعينه. ويكمن جزء من نجاح التجربة في اختيار الخيال الذي ستعتمد عليه الأحداث، والذي سيعطيها الفرصة لتكوين تصورات عن بنية الفيلم، وبالتالي سيحكم كل تحركاتها من خط البداية إلى نقطة النهاية.
وهذا الفيلم يعتمد على الثقافة الأسيويَّة الشعبيَّة التي بها الكثير من قصص اللعنات التي تصيب البشر، والتي ستطالعها في كتب الأساطير الصينيّة واليابانيّة. لكنهم في هذا الفيلم اعتمدوا على لعنة لها علاقة بالجانب الأخلاقيّ. يخبرنا عنها الفيلم منذ بدايته بقوله: عندما يموت أحدهم من الغضب في منزل ما فستتكون في هذا المنزل لعنة لن تزول. ولا يدخل هذا المكان شخص ويخرج معافى، فلا بد أن تصيبه اللعنة.
وفحوى اللعنة ليس له أيَّ دور في معنى للفيلم، فالفيلم أصلاً بلا معاني إلا فكرة مواجهة الخوف والنضال أمامه، هذه المعاني في أفلام الرعب لا يشكُّ أحد من المشاهدين أنَّ المؤلفين لم يقصدوها لذاتها، بل لكونها جزءًا من آليات تطور أحداث الفيلم.
إنَّ التأليف في الفيلم لا يمثل أيّ تميُّز أو اختلاف عن المعتاد في أفلام الرعب المتداولة. إلا من نقطة واحدة هي تعدُّد القصص والأزمان في الفيلم؛ فلدينا الخط الأول وهي المربية التي عادت من اليابان حاملة للعنة وزوجها وابنتها، وفي خط ثانٍ لدينا “جون شو” وزوجته، وفي خط ثالث لدينا الزوجان العجوزان ومُساعدة الانتحار -هذه مهنة-، وفي خط أعمّ وأشمل وهو الرابع لدينا الشرطيَّة وزميلها. هذا التعدد الكبير نسبيًّا قد تمَّ عرضه والتعامل معه، وتطويره بصورة جيِّدة للغاية في إطار تصنيف الفيلم، بل إنَّ هذه الحسبة المُربكة قد لا يستطيع القيام بها على خير وجه أفلام ومؤلفون من تصنيفات أخرى كالغموض أو الدراما. وهذه نقطة لا بُدّ من الإشادة بها في هذا الفيلم.
أمَّا التميُّز الحقيقيّ فكان في الجانب الإخراجيّ الذي أرى فيه تأثرًا بالمخرج جيمس وان (صاحب الجزء الأوّل من سلسلة Saw الشهيرة، وصاحب سلسلة The Conjuring، والكثير من أفلام الرعب والغموض شديدة النجاح). ومَن يدقق في كثير من مشاهد الفيلم يجد هذا التأثر من قبل مخرجنا نيكولاس بيشي. وكلمة تأثر ليست عيبًا على وجه الإطلاق، ولا تعدُّ من قبيل الانتقاص من المنسوب إليه فلا بُدَّ لأي عمل أو لأي شخص من أعمال أو أشخاص يتأثر بهم فلا شيء يُولد وحده مُنبتَّ الصلة عن الكون. كما أنَّ التميُّز البالغ الذي قدَّمه جيمس وان على مدار عشرين عامًا يجعله منارًا يهتدي به الغير في طريقهم لصنع هذه النوعيات من الأفلام.
بالعموم نرى اجتهاد الإخراج في البُعد عن مألوف أفلام الرعب بنقاط عديدة ؛ مثل الإتقان لتصاميم إنتاج الجثث وكذلك الأشباح، وأجزاء الجسم الظاهرة في بعض المشاهد مثل مشهد تقطيع الأصابع. هذه الإجادة والمثابرة في الوصول إلى درجات حقيقيَّة أو شديدة الاقتراب من الحقيقيَّة لها تأثير بالغ على المشاهدين.
كذلك يستلفت النظر جودة التنفيذ لتعدُّد الخطوط الذي سبقت الإشارة إليه؛ فكتابة كل هذه التشابكات شيء وتنفيذها بإتقان شيء مُغاير. وكم من عمل ضاع جهد تأليفه على عتبات تنفيذ في مرحلة الإخراج! .. لكنَّ مُخرجنا نجح في اجتياز هذه العقبات بسلام بل بسلاسة تشعرك باحتراف. وإذا أضفنا إلى هذا التعدد في الخطوط تعدُّدًا في الأزمان، واختار المؤلف والمخرج أسلوب المشاهد الاسترجاعيَّة (الفلاش باك) فنحن أمام العديد من التشابكات التي قد توقع المشاهد في لبس وتخبُّط إنْ لمْ تنفذ بإتقان وإجادة. وهذا ما نجح أيضًا في اجتيازه مخرجنا، وهو بالقطع يُحسب أيضًا لفريق التصوير وكذلك لقسم المونتاج الذي كان متميّزًا في هذا الفيلم.
ومن سُبل التميُّز عند المخرج صنع شيء يختص به وكان في فيلمنا هذا الاستعانة بالقيم اللونيَّة الدافئة؛ خاصة اللون الأصفر في مشاهد الرعب -والتي عادة يستخدمون لها الظلام والألوان الداكنة- لكنَّ الفيلم لمْ يستخدم اللون الأصفر في مشاهد الرعب فقط بل في مشاهد شبه الرعب وهي التي تحمل توتر الشخصيات، والقلق الذي يحاول الفيلم بنايته في نفس مشاهده ليكون جاهزًا لتلقي الصدمات القاسية أو جرعة رعب الفزع.
وقد أصرَّ المخرج أيضًا على إظهار بعض التنوع في اللقطات والمشاهد؛ فنرى لقطات شديدة الاتساع للطبيعة ومظاهرها أو بعض الشوارع المليئة بالأشجار. كلها ممتعة وفي غاية الجماليَّة، بل هي لوحات حقيقيَّة بديعة. وقد نلاحظ أنَّه وزَّع هذه اللقطات توزيعًا متناسبًا وقتيًّا؛ وفي هذا حكمة أرادها من الممكن أن تكون مجرد استعراض، أو تغيير للجو العام، أو لإدخال المُشاهد في أجواء الرعب عن طريق التباين والتضاد بين اللقطات.
فيلم “الضغينة” محاولة مُجتهدة ومثابرة في إتقان عمل في تصنيف الرعب، الذي يتعامل غالب مُنتجيه معه بنمطيَّة تؤدي إلى الهبوط في مستواه العامّ، وفي نظرة الجمهور له. هذه التجربة فيها ما يمكن أن نتأمله ونسقطه على تجربتنا السينمائيَّة لنعرف آثار النمطيَّة والاستسهال، وجدوى المحاولة والمثابرة في إنتاج العمل المُتقن والقيِّم.