“فبراير الأسود”.. الفيلم الهام والتوقيت السيئ!
لولا بعض الملاحظات على المعالجة التى انتهت الى بعض المباشرة، ولولا بعض الإستطرادات التى جعلت الجرعة زائدة عما يجب، ولولا نهاية باهتة تقريرية أشبه بحملات التوعية، لكان فيلم “فبراير الأسود” الذى كتبه وأخرجه محمد أمين من أهم الأفلام الكوميدية الكبيرة فى مسيرة السينما المصرية.
ومع ذلك، نستطيع أن نتحدث عن فيلم هام، يمتلك فكرة كما يقولون بمليون جنيه، فيه مواقف كوميدية كثيرة جيدة، كتبت بإتقان وبسخرية لاذعة، ولدينا فريق تشخيص أدى دوره بصورة مُرضية، حتى محمد أمين كمخرج، كان هنا أفضل وأكثر حضوراً فى خدمة موضوعه، وكل ذلك يجعل العمل جديراً بالمشاهدة رغم الملاحظات التى سأتعرض لها بالتفصيل.
لابد من الإشارة أيضاً الى أن الفيلم الذى يكشف عن الحالة البائسة للعلم والعلماء فى مصر، كان مقرراً أن يعرض فى شهر يناير الماضى، ولكن الإضطرابات التى لم تتوقف، والفشل السياسى المشهود فى إدارة الأزمات، أدّيا الى تأجيل العرض الى شهر مارس، دون أن يقلل ذلك من سوء التوقيت على الإطلاق.
قضية الفيلم هامة وخطيرة، والمعالجة مختلفة وطريفة، ولكن الأمر الذى يشغل بال المصريين فى هذه الأوقات العصيبة ليس مكانة العلم والعلماء، ولكن مصير الدولة نفسها بكل مؤسساتها وطوائفها، ليس ذنب صنّاع الفيلم بالطبع أنه عرض فى وقت تتعرض فيه البلد بأكملها للتفكك، ولكن هذا التوقيت يمكن أن يؤثر بالتأكيد على استقبال المتفرج للفيلم.
فى كل الأحوال، يظل لفيلم “فبراير الأسود” دلالته الخاصة سواء فى موضوعه ومعالجته، أو فى توقيت عرضه حيث انطبق العنوان على الواقع، بل إنه يحتمل زاوية أوسع للرؤية، تنطلق من مكانة العلم والعلماء البائسة، الى انهيار فكرة المساواة والمواطنة فى المجتمعات المصرية والعربية، المكانة للسلطة والثروة، ولا مكانة لأى فئة أخرى، سواء كانوا من العلماء أو الموظفين أو غيرهم.
تجارب هامة
محمد أمين مؤلف ومخرج الفيلم له تجارب سابقة هامة فى التأليف والإخراج، من الفيلم الساخر الذكى “فيلم ثقافى” الذى دفع الى الساحة بثلاثة من الموهوبين هم فتحى عبد الوهاب وأحمد عيد وأحمد رزق، مروراً بفيلم “ليلة سقوط بغداد” من بطولة أحمد عيد، وصولاً الى فيلم “بنتين من مصر” الذى يمكن اعتباره من الأفلام التى توقعت انفجار المجتمع قبل الثورة. الفيلمان الأول والثانى معالجتهما كوميدية، فى حين جاء الفيلم الثالث مفعماً بالشجن والحزن، وبينما يبدو “فيلم ثقافى” و” بنتين من مصر” أكثر نضجاً وتكاملاً وذكاء، فإن “ليلة سقوط بغداد” جاء صاخباً ومباشراً وساذجاً أحياناً، وإن لم يفتقد مواقف كوميدية متقنة الصنع، وجيدة التأثير.
نحن إذن أمام صاحب رؤية ووجهة نظر، يعمل على أفكار ليست سهلة، بمعالجات مبتكرة، الفكرة فى “فيلم ثقافى” مثلا ليست فقط عن الكبت الجنسى، ولكنها عن الكبت والتهميش بكل مستوياته، وصولاً الى عبارة الفيلم الشهيرة” العيب فى النظام”، وفى فيلم “بنتين من مصر” ننطلق من مشكلة عنوسة البنات الى مأساة مجتمع عقيم وصل بكل آلياته الى طريق مسدود، تراكم فيه البخار المحتبس، فوقع الإنفجار.
فى كل أفلام أمين، حتى تلك التى لم يخرجها، وكتب لها السيناريو فقط مثل “أفريكانو” و”جاءنا البيان التالي”، كان هناك هذا الربط الواضح، وبدرجات متفاوتة بالطبع، بين الخاص والعام، وبين السياسى والإجتماعى، كانت المعالجات طريفة، وكثير من المواقف مكتوبة بذكاء وسخرية رائقة، كما كانت السيناريوهات أكثر تماسكاً مما نشاهد عادة فى الأفلام المصرية.
الظهر والبطن
يقول أحد الأمثال المصرية الشهيرة الموروثة من سنوات القهر والظلم وغياب المساواة : “من له ظهر لاتستطيع أن تضربه على بطنه”، يعنى هذا المثل ببساطة، إنه لا يكفى لكى تعيش أن تحمل فقط جنسية بلدك، أو ان تكون مواطناً يحمل بطاقة هوية، بل لابد أن تكون مسنوداً ممن هم أقوى، أن تستظل بمظلة السلطة أو الثروة، حتى تعيش أمناً ومطمئناً.
يأخذ محمد أمين هذه النصيحة المصرية الأزلية، وينقلها ببراعة الى أسرة حسن (خالد صالح) عالم الإجتماع المتفائل، النشيط، عاشق بلده، عندما فاز أحمد زويل بجائزة نوبل فى الكيمياء، قام حسن برفع العلم المصرى فوق سطح منزله، وفى كل محاضراته، كان ينصح طلابه اليائسين بأن ينشروا الأمل فى المجتمع.
ربما تكون أولى الملاحظات أن حسن يعيش مع زوجته وأولاده، وأخيه وزوجته وأولاده، فى فيلا كبيرة لا نعرف من أين حصل عليها، كما سنشاهده وهو يقود سيارة غالية الثمن فى الصحراء، وكلها عناصر واضحة تقلل من وجاهة دعوى حسن، وهى أيضاً قضية الفيلم، بأن العلم لايجد تقديراً مادياً او أدبياً.
ومع ذلك، فلابد أن يلفت نظرك منذ البداية تلك اللمحات الساخرة الظريفة التى تجعل صلاح (طارق عبد العزيز) شقيق حسن، الحاصل على الدكتوراة يقوم هو وزوجته، بتحويل معمل الكيمياء بالمنزل الى معمل لصناعة الطرشى (المخللات المصرية)، على أن يتم تسويقها تحت اسم “طرشى نيوتن”، من باب الحنين للعلم الضائع.
لكن نقطة التحول فى حياة حسن وأسرته، تحدث فى شهر فبراير،يقرر أن يخرج الى الواحات مع أسرته، وأسرة أخيه، فى الطريق يتوقف ليلتقى بآخرين يقومون بنفس المغامرة، تهب عاصفة تدفن الجميع، تظهر فرق الإنقاذ العسكرية، تختار أن تنقذ أحد ضباط الشرطة وأسرته، وأحد القضاة وأسرته، وتترك حسن وأخيه وعائلتهما لتنقذهما الذئاب بطريقة غامضة، كانت تستدعى جهداً وخيالاً أكبر لإقناع المشاهد.
منذ تلك اللحظة يتغير حسن عاشق الوطن، يجمع كل أفراد العائلة الكبيرة، يخبرهم أنه لا سبيل أمامهم إلا الهجرة، أو العيش فى حماية الفئات المسنودة (الجيش والشرطة والقضاء أو الأثرياء)، أما العلماء فهم لايساوون شيئاً، يصبح مسار اللعبة كلها هو محاولة الهروب من وطن لا يقدر جهد علمائه، أو الإقتراب من أهل السلطة أو الثروة حتى يتحقق العيش فى أمان.
طرافة الفكرة، وبراعة المعالجة، أنها سترسم علاقات القوة بما ينتهى بنا الى نسف فكرة المواطنة من جذورها، لأن قيمة الشخص لا تتحدد بما يضيفه فى مجال عمله أو علمه، ولكن بمدى قدرته على أن يكون له ظهر، وإلا فإن عليه أن يهرب، وفى أحد أقوى مشاهد الكوميديا السوداء، يقوم حسن بتدريب أسرته على رقصة أجنبية، ويطالبهم بأن يتخلّصوا من تأثرهم بالأغنيات العربية، سيتكرر ذلك على مدار الفيلم، هروب بالموسيقى من الوطن، وعودة بالغناء إليه.
مواقف ساخرة
تنطلق الأحداث فى اتجاهات متنوعة، ولكن الهدف واحد، هو أن يستعيد حسن وأسرته الكبيرة شعور الطمأنينة، بعد أن أصابهم ما يقترب من فوبيا الإهانة والإذلال، يلجأ صلاح الى أحد معارفه الذين يعدّون البرامج الفضائية، لاتبدو هذه الشخصية الغريبة عن العائلة مناسبة للمهام التى ستقوم بها، ولكنها اختيرت فيما يبدو لكى يكشف أمين من خلالها فبركة الفضائيات فى البرامج المختلفة.
تتوالى المشاهد المبتكرة والعجيبة: الأسرة ترتدى الملابس الإيطالية وترقص لإقناع السفير الإيطالى بانتمائهم الى أحفاد الرومان، الأسرة تتحايل للإيقاع بأحد القضاة الشباب (أحمد زاهر) لخطبة ريم، ابنة حسن، ولكن القاضى يرفض تزوير الإنتخابات، ويُطرد من عمله، فتضيع الصفقة.
الأسرة تفكر فى إنجاب طفل، على أن يتم ضبط وقت الولادة فوق إحدى الدول المتقدمة، فيحصل الطفل على الجنسية، ويشعر الجميع بأنهم مسنودون، يتم إجراء التحاليل، والإتفاق مع الطبيب، وضبط وقت الرحلة، وتسريع وقت الولادة، ولكن الطائرة تهبط فى دولة إفريقية إضطرارياً، يتورط صلاح وحسن فى إنجاب طفلين يحملان جنسية تشاد أو النيجر!
يتم السعى لتحويل ابن صلاح المراهق الى لاعب كرة عن طريق مدرب اسمه نزهى (سليمان عيد)، لاعبو الكرة يستقبلهم الرئيس، ويكسبون الملايين، ويمكنهم توفير الحماية للعلماء، تقع الأسرة على عريس جديد للجميلة ريم (ميار الغيطى)، هذه المرة ضابط أمن دولة منتدب لرئاسة الجمهورية، يُفصل الضابط من عمله، فتضيع الصفقة من جديد.
لعل أعجب ما فى السيناريو، أن حسن يتحوّل من النقيض الى النقيض، بعد أن فشل العلم فى أن يحقق له الحد الأدنى من الكرامة: يقوم بفسخ خطبة ابنته من أى عريس غير مسنود، وأولهم خطيبها الأول معتمد (ياسر الطوبجى)، العالم الذى لا يمتلك إلا مرتبه، وفى أحد أظرف مشاهد الفيلم، يثور على ابنه المراهق، بعد أن ضبطه وهو يقرأ كتاباً دراسياً، تاركاً الكرة التى أحضرها له، كأن المشهد محاكاة مقلوبة للمشهد الشهير فى الدراما المصرية، الذى يُلام فيه الأبناء عادةً بسبب لعب الكرة، وترك الكتاب.
وبينما تذكّرنا الكثير من المواقف الذكية والظريفة ببراعة الأفلام الكوميدية الإيطالية ذات البساطة والعمق الإجتماعى، فإن محمد أمين انساق أحياناً وراء بعض الإستطراد والتكرار خصوصاً فى مشاهد مدرب الكرة، كما أن حكاية ضابط أمن الدولة بدت كما لو كانت تكراراً لحكاية القاضى، ربما احتاج الأمر الى بعض الخيال لكى تتمايز الحكايتان بشكل أفضل، وجاء استطراد آخر ساذج بادعاء الشذوذ الجنسى، واللجوء الى سفارة أوروبية، لكى يثقل البناء، وخصوصاً فى الثلث الأخير من الفيلم.
من الملاحظات أيضاً العودة الى الأسلوب المباشر فى تسمية الشخصيات، القاضى الشاب النزيه مثلاً اسمه عادل عبد الحق، والمدرب الأصله اسمه نزهى، لكى يكون “أصلع ونزهى” كما يقول المثل المصرى الشهير، أما النهاية فهى مباشرة وساذجة، من الواضح أنها كتبت لكى تعيد المتفرج الى أيام الثورة: أثناء حفل خطبة ريم الى ضابط أمن الدولة الذى عاد الى عمله، تسير مظاهرة تهتف بسقوط النظام، يؤجل حسن الخطوبة رغم دخول القاضى والعالم معتمد أيضاً المنافسة من جديد، يقول إنه ينتظر نهاية “الفترة الإنتقالية”، فربما يأتى نظام يهتم بالعلماء، فيزوجها لأحدهم.
نهاية باهته بائسة ومباشرة وساذجة لفيلم هام ومختلف، كيف من مظاهرة واحدة عرف حسن أن هناك ثورة وفترة إنتقالية ..إلخ؟!! لم يكن الفيلم فى حاجة الى هذه الفبركة، أو الى التحذير المباشر بضرورة الإهتمام بالعلماء، وإلا سنذهب فى ستين داهية، إن فوبيا الإهانة، والهوس الذى يعانيه العالم وأسرته للبحث عن شخص مسنود، أو الهرب من الوطن، كل ذلك أفضل ألف مرة من أى خطاب مباشر.
رغم ذلك، أجدنى منحازاً الى التجربة مع وضوح مشاكلها، أرجو ألا ننسى أن الفكرة صعبة وليست سهلة، فى رصيد الفيلم الإيجابى توظيف أمين الجيد لأشياء كثيرة استخدمها فى أفلام سابقة، مثل المواقف الكوميدية ذات الرموز الجنسية (صاروخ الفضاء والتحام السفن الفضائية)، والأغانى الوطنية التى استخدمت للدخول والخروج من الوطن، فى أحيان كثيرة تشعر أن بعض المواقف تقف على حافة الفانتازيا بسبب غرابتها، هذا الجو العام يميّز أفلام محمد أمين، ربما لأنه اكتشف منذ البداية أنه ليس هناك أكثر غرابة من نقل الواقع المصرى كما هو.
الممثلون جميعاً كانوا فى أدوارهم المناسبة، خالد صالح بدا مستمتعاً بالشخصية، خرجت منه الإفيهات بطريقة طبيعية وسلسة، لقد أدرك أن الجدية الشديدة التى يتعامل بها مع الموقف هى مصدر الإضحاك: عالم اجتماع يتحول بنفس درجة الجدية الى خاطبة أو راقص يرتدى الملابس الإيطالية، الشخصية بدت كما لو كانت تحت تأثير مخاوف مرضية ملحّة تجعلها تبحث عن الحماية أو الهرب،طارق عبد العزيز كان أيضاً جيداً ولديه حضور واضح، من أظرف مشاهده تقمصه لشخصية رجل مسيحى يتصل بالقناة الفضائية ليكذب على الجمهور بشأن الوحدة الوطنية، ألفت إمام كانت كذلك مميزة فى دور ابنة العم الشرسة التى تريد أن تخطف العرسان لابنتها.
يستحق المشاهدة
محمد أمين المخرج كان هنا فى حالة أفضل، الكاميرا كانت أكثر حرية فى الحركة، نجحت المونيرة مها رشدى فى ضبط التأثير الكوميدى فى كثير من المشاهد، كان هناك توظيف جيد لموسيقى عمرو اسماعيل التى منحت الفيلم مسحة كاريكاتورية، كانت الملاحظة فى أفلام أمين عموماً أن أفكاره ومعالجاته محلّقة، ولكن طريقته فى التقطيع وحركة الكاميرا كلاسيكية وتقليدية تماماً، لو انطلق خيال أمين المخرج ليكون فى مستوى خيال أمين المؤلف، لكنّا أمام نتيجة أفضل.
“فبراير الأسود” فيلم يستحق المشاهدة والمناقشة، ظلمه توقيت العرض فى أيام أكثر سواداً من الخيال، ما يجرى فى الواقع لا يقل غرابة عما يحدث فى الفيلم، نظلم الفيلم كثيراً إذا قلنا إنه عن مأساة العلم والعلماء وكفى، إنه فيلم عن الغربة داخل الوطن التى قال عنها أبو حيان التوحيدى إنها أقسى أنواع الغربة، عن سراب المواطنة والمساواة فى العالم الثالث، عن حلم العيش بكرامة حتى لو كان ذلك فوق القمر.
أحسب أن فيلماً بهذا الثراء كان يستحق نهاية أفضل، لأن النظام السابق الذى كان يتصارع في ظله الناس على عريس من الشرطة أو القضاء أو رجال الأعمال، قد انتهى بنا الآن الى نظام فقد فيه كل هؤلاء مكانتهم بسبب الفوضى، ولم يعد أمام الجميلة ريم سوى انتظار العريس المناسب للنظام الجديد: شاب بلحية وجلابية وطاقية مهما كان منصبه، ومهما كانت وظيفته!