التشويق والإثارة في السينما السعودية

لقطة من فيلم "جنون" لقطة من فيلم "جنون"
Print Friendly, PDF & Email

خلافا للأعمال الاجتماعية والكوميدية التي سادت السينما السعودية في السنوات الأخيرة، اقتحمت الأفلام السعودية منطقة التشويق والإثارة بعدة محاولات، لا تخلو من جرأة، وحازت على إعجاب الجمهور والنقاد معا.

ومن أبرز هذه الأفلام: “سطار” (2022)، “جنون” (2022)، “الخطّابة” (2022). والملاحظ أن البعدين الكوميدي والاجتماعي لم يفترقا عن التشويق والإثارة، فالأول كان فيلم حركة كوميدي والآخران كانا فيلمي رعب اجتماعي. فما هي أهم الملامح التي ميزت هذه الأفلام بوصفها أفلاما رائدة في هذا المجال؟

للإجابة على هذا السؤال سنتعرض للأفلام الثلاثة بشيء من التفصيل.

يقدم المخرج الكويتي عبد الله العراك في فيلم “سطّار” شكلا مختلفا للفيلم السعودي من خلال فكرة بسيطة تدور حول سعد (إبراهيم الحجاج) الشاب الذي تعلق بلعبة المصارعة منذ الصغر، وعندما كبر وأقدم على خطوة الزواج أراد أن يحقق أحلامه المهنية والاجتماعية من خلال ممارسة هذه اللعبة بالرغم من عدم توفر الشروط الفنية والبدنية التي تؤهله لها.

حافظ المخرج على الروح الكوميدية السعودية، وطرح فكرته من خلال الشكل الأمريكاني الذي يميز لعبة مصارعة المحترفين، من إثارة وتشويق وعوالم ليلية غامضة تدور حول الخداع والمراهنات. المحاكاة الهزلية التي يقدمها الفيلم للعبة المصارعة تنطوي على نوع من النقد للعبة وللعالم الأسطوري الذي يجتذب الملايين من المتفرجين على أساس من التواطؤ المشترك بين الجميع حول حرية التجاوزات!

السمة المميزة لمصارعة المحترفين بوصفها لعبة حرة منحت السيناريو حرية ابتكار المواقف التي تفجر الكوميديا، خاصة تلك المتعلقة بالمفارقة الناجمة عن تواضع إمكانيات سعد الفنية والبدنية في مواجهة من هم أكثر منه قوة ولياقة، وهي مفارقة تذكرنا بفيلم “سلفني 3 جنية” الذي قام ببطولته علي الكسار عام 1939.

ويأتي عنصرا التشويق والإثارة من رحلة سعد التي بدأت في وضح النهار، كموظف في شركة تأمين، وانتهت في عالم ليلي يقيم تحت الأرض، من أجل تحقيق حلمه بالزواج من فلوة (شهد القفاري) الفتاة التي أحبها. وهي رحلة ذات أبعاد تراثية أسطورية، نجح المخرج في التعبير عنها في سياق معاصر، استفاد فيه من عالم السوشيال ميديا الافتراضي، بحيث وضحت مفارقة التداخل بين العالمين الواقعي والافتراضي، وكيف أن الحدود الفاصلة بين المنتصر والمنهزم تذوب في النهاية، ويكون الفائز في كل الأحوال هو الأكثر قدرة على تحقيق التشويق والإثارة، القيمة الوحيدة السائدة في عالم لم يعد يحفل بالحق أو الخير أو الجمال!

ربما لا تكون هناك رسالة أعمق من القصة البسيطة التي رسمها السيناريو لشخصيات الفيلم، لكن يظل المعني الرمزي للمصارعة بوصفها صراعا بين الخير والشر، أو بوصفها صراعا من أجل النجاح والمجد هو المعنى الأبرز لرسالة الفيلم. يؤكد ذلك الشخصيات الغامضة التي كان يصارعها سعد وينتصر عليها، وحصوله على جائزة المسابقة في النهاية بحيث استطاع الزواج من حبيبته.

إذا كان هناك تأثر واضح بأجواء المصارعة الحرة الأمريكية في فيلم “سطّار” فإن هناك تطابقاً تاما بين فيلم الرعب السعودي “جنون” وبين أجواء الرعب الأمريكاني، بل أجواء الحياة الأمريكية نفسها. فالفيلم تم تصويره في غابات كاليفورنيا، وشخصيات الفيلم تتحدث لغة هجينة تجمع بين العربية واللهجة الأمريكية الإنجليزية، ليس هذا فحسب، لكن أيضا الثقافة الأمريكية هي السائدة بين الشباب أبطال الفيلم في نوع من التغريب تتوارى خلفه ملامح الثقافة العربية والسعودية بخاصة، بدءا بالملابس والمأكولات وانتهاء بالعادات والتقاليد التي سمحت لمجموعة من الشباب (فتيان وفتيات) بالسفر إلى أمريكا والإقامة في منزل منعزل يطل على غابة مخيفة لا لشيء إلا لتصوير مغامرة علي اليوتيوب من أجل الشهرة!

تسري في الفيلم روح الشباب، أمام الكاميرا وخلف الكاميرا، فمعظم أبطال العمل لهم دور خلف الكاميرا، خاصة معن بن عبد الرحمن مخرج العمل. ومن هذا المنطلق غلبت روح التجريب على تصوير الفيلم، فليس هناك موسيقي ولكن اعتماد على الأصوات الطبيعة، للبشر والأشياء، وهناك اعتماد على الكاميرا المحمولة وتقنية ال Found-Footage التي تجعل الحدث يبدو طبيعيا أقرب إلى التسجيلية التوثيقية. وهي فكرة أساسية في الفيلم، فالشابان خالد (معن عبد الرحمن) وعصام (صالح عالم) حريصان، طوال أحداث الفيلم، على تصوير وتوثيق كل حدث مهما بدا بسيطا وتافها!

وتنبع الإثارة من رغبة فريق الشباب تصوير جلسة تحضير جان، وتعرّضهم للعنة شريرة تصيبهم جميعا في مقتل، وتظل كاميرات التصوير هي الباقية على قيد الحياة، لتسجل المصير المرعب لكل من يحاول أن يجعل من حياته موضوعا للفرجة، بحثا عن مجد زائف. ولعل أبرز مثال على ذلك المشهد المروع الذي يصور واحدة من الشابات غارقة في دمها بينما ترد تعليقات المتابعين على القناة لتعكس مجتمع الفرجة الذي لا يهتم بمضمون الكارثة قدر اهتمامه بالتفاعل الزائف مع الحدث وإثباته لوجود متهافت على العالم الافتراضي!

يلاحظ أن كلا الفيلمين “سطّار” و “جنون” متأثران بالثقافة الأمريكية، وكلاهما تشيع فيه روح الشباب من خلال استخدام أغاني الراب في الأول، والكاميرا المحمولة ذات الحيوية في الأخير، وأنهما، بالرغم من ذلك، ينتقدان وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة بين الشباب. يعكس الفيلم الأول طريقة التربية التقليدية التي تجعل الشاب حريصا على العادات والتقاليد المحلية وينحصر حلمه في العمل والزواج، بينما يعكس الأخير طريقة التربية الحديثة التي تجعل الشاب أكثر انفتاحا على العالم، فيتجاوز حلمه بيئته المحلية، ويصل إلى درجة المغامرة. وربما لهذه الأسباب كانت أجواء الإثارة والتشويق في فيلم “جنون” أقوى.

يختلف فيلم “الخطّابة” عن فلمي “سطّار” و”جنون” في أنه لم يقع في شرك التجريب الذي يقود، غالبا، إلى التغريب، واعتمد على التراث الشفاهي العربي من خلال تقديمه لأسطورة محلية توارثتها الأجيال، وعبر بيئة جبلية صحراوية، مدينة العلا التاريخية تحديدا، تناسب أجواء الرعب التي تعكسها الأسطورة.

وكما تحرك سعد، في “سطّار”، من عالم المدينة العلوي إلى عالم المصارعة السفلي، وتحرك خالد ورفاقه، في “جنون”، من السعودية إلى غابات الولايات المتحدة، تحرك طارق (حسام الحارثي) في الخطّابة، من المدينة إلى منتجع سياحي يقع في الصحراء. ما يعني أن الرعب يكمن، غالبا، في المصير المجهول، خاصة أن الشخصيات التي تعتزم السفر أو التنقل من مكان إلى مكان، سعيا وراء هدف ما، ترسم دائما صورة رومانسية حالمة تختلف تماما عن المصير الكارثي الذي ينتظرها.

وأسطورة الخطّابة خير مثال على ذلك، فالأحداث تبدأ داخل أسرة صغيرة، أب وأم وابنه، تحيا في سعادة وهدوء، لكن الأب طارق يشعر بالاغتراب تجاه أسرته، خاصة الزوجة، ويتعلق عاطفيا بزميله له في العمل (نور الخضراء) ويهيم بها عشقا حتى أنه يتتبعها إلى منتجع صحراوي غامض، يسكن فيه أناس غريبو الأطوار، ويعملون تحت قيادة الخطّابة (ريم الحبيب) المرأة القوية التي تعد الرجال القادمين إلى المنتجع بتحقيق أمانيهم العاطفية من خلال تزويجهم بمن يحبون.

إيقاع الحياة الهادئة في المنتج تترك أثرا طيبا في نفس المشاهد، لكن الأجواء الغامضة التي كانت تحيط بطارق، والهلاوس الحلمية التي كانت تتلبسه أثناء النوم كانت تشيع في النفس شيئا من مشاعر الخوف والقلق. الفيلم مليء بالرموز، والشخصيات غريبة الأطوار تمثل شفرات تحتاج إلى تفسير، واللغة التي يستخدمونها تحمل إشارات شبيهة بالطلاسم، وطارق يبدو وسط هذه الأجواء كالمريض النفسي، أو كالمنوم مغناطيسيا.

نجح المخرج عبد المحسن الضبعان في استغلال البيئة الصحراوية والجبال الشاهقة وتقديم رؤية بصرية معبّرة عن جو الرهبة والخوف، من خلال لوحات تشكيلية تجمع بين الإنسان والطبيعة بنحو سحري يتناسب وجلال الأسطورة. وخلافا لفيلم “جنون” ينجو طارق من اللعنة التي كانت تطارده في المنتجع، وينجح في العودة إلى أسرته، وقد تحقق له ما يشبه التطهير. فقد رأي الزوجة، ربما لأول مرة، في صورة أكثر جاذبية، وكأن السحر يكمن في معنى البيت والسكن لا في مغامرات الصحاري التي لا تخلو من مجازفة.

وفي كل الأحوال، يمكننا القول إن اقتحام السينما السعودية لأفلام التشويق والإثارة مسألة محمودة، في ظل اتجاه سينمائي يحرص على تقديم الجديد، وتجاوز البدايات التقليدية التي غلبت عليها الدراما الاجتماعية والكوميدية. وبالرغم من أنها لم تصل في تجاربها إلي الحدود القصوى للرعب، إلا أنها نجحت في استخدام كلتا الثقافتين الغربية والعربية من أجل تقديم موضوعات تنتمي إلى سينما التشويق والإثارة، وأن المآخذ التي تشوب هذه التجارب لا تعدو أن تكون مآخذ تخص البدايات عموما، وأن القادم سيكون أفضل طالما كانت روح التجديد مستمرة.

Visited 6 times, 1 visit(s) today